سقوط بيت المقدس

الناقل : elmasry | الكاتب الأصلى : علاء بكر | المصدر : www.salafvoice.com


سقوط بيت المقدس

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

فقد استطاع المسلمون تحرير بيت المقدس من قبضة البيزنطيين الأوروبيين في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وظلت القدس بعدها ولقرون عديدة ينعم بالسلام والأمان من فيها من المسلمين وغيرهم، ولما ضعفت الدولة العباسية بضعف خلفائها وضعف قبضتهم على ما تحت أيديهم؛ ظهرت نزعات انفصالية أقامت دويلات وإمارات مستقلة تدين اسماً للخلافة، وتتحكم بالفعل فيما تحت أيديها من البلاد، وتتقاتل فيما بينها على الحكم والإمارة، وقد ترتب على ذلك تفكك الأمة وتفرق أجزائها فطمع فيها أعداؤها.

فكانت الدولة "الطولونية" ثم الدولة "الأخشيدية" في مصر حتى دخلها الفاطميون، وكانت الدولة "الحمدانية" في حلب، ودولة "السلاجقة" في بغداد، وظهرت الدولة "السامانية" في شرق فارس، ثم الدولة "البويهية" في غربها، والدولة "الغزنوية" في أفغانستان والهند، وانتهزت أوروبا الفرصة لاحتلال الشام من جديد واغتصاب بيت المقدس.

بدأت الحملات الصليبية على الشام من عام "490هـ -1096م"، بتحريض من الباباوات واستجابة من ملوك أوروبا، وقد استطاع الأوربيون حشد الجموع الكبيرة والتوجه بها إلى بلاد المسلمين الذين انشغل أمراؤهم بالصراع بينهم، وعجز الخليفة العباسي عن توحيد صفوفهم.

يقول المؤرخ البريطاني "مونتجمري وات":

"إنه في نهاية القرن الحادي عشر لم يكن هناك حكم مسلم قوي في المناطق التي هاجمها الصليبيون، بل كان هناك عدد من الحكام المحليين الصغار الذين أنفقوا الشطر الأول من وقتهم وطاقتهم في قتال جيرانهم"(1)، "وقد كان المسلمون -لو تكاتفوا- قادرين على إبادة هذه الجيوش الصليبية القادمة من أماكن بعيدة ومتفرقة، وقد انتصر المسلمون قديماً على أضعاف هذه الأعداد، ولكن ميراث الشك والعداوة بين حكام المنطقة والتي غرسته وأنبتته طوال القرن السابق حروب ودسائس ومنازعات سادت المنطقة جعل المسلمون عاجزين عن مواجهة قوات الصليبيين"(2).

لقد حشدت أوروبا جموعها وزحفت إلى الشام علناً ولم يتحرك المسلمون لذلك، ويعدوا له العدة اللازمة فبدوا وكأنهم فوجئوا بالصليبيين الغزاة، وتركوا كل صاحب بلد يقف بمفرده أمامهم، وقد خبت روح الجهاد فيهم، وتعلقوا بما في أيديهم من حطام الدنيا، حتى ظهر فيهم من يتألف هؤلاء الصليبيين بعد ذلك، ويستعين بهم في قتال إخوانه المسلمين، ونجح الصليبيون الغزاة في تكوين إمارات لهم بالشام في "الرها" و"أنطاكية" و"طرابلس" واتخذوها مراكز ينقضون منها على بلاد المسلمين حولهم، واستطاعوا فتح بيت المقدس في عام "492هـ - 1909م"، وارتكبوا يوم فتحه فظائع وشنائع يندى لها الجبين فأبادوا أهلها، لم يرحموا طفلاً أو امرأة أو عجوزاً، وأصبحت دماء المسلمين أنهاراً، وظلت الجثث مطروحة في الطرقات لا تجد من يواريها حتى تعفنت وفاحت رائحتها، وأبيحت المدينة للسلب والنهب عدة أيام.

يقول ابن كثير -رحمه الله-:

"لما كان ضحى يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان سنة ثنتين وتسعين وأربعمائة(3) أخذت الفرنج -لعنهم الله-، بيت المقدس -شرفه الله-، وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل، وقتلوا في وسطه أزيد من ستين ألف قتيل من المسلمين وجاسوا خلال الديار وتبروا ما علوا تتبيرا"(4).

ونقل عن ابن الجوزي قوله: "وذهب الناس على وجوههم هاربين من الشام إلى العراق مستغيثين على الفرنج إلى الخليفة العباسي والسلطان"(5).

"فلما سمع الناس ببغداد هذا الأمر الفظيع هالهم ذلك وتباكوا"(6).

"وندب الخليفة الفقهاء إلى الخروج إلى البلاد ليحرضوا الملوك على الجهاد فخرج ابن عقيل وغير واحد من أعيان الفقهاء فساروا في الناس فلم يفد ذلك شيئاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون"(7).

دور الفاطميين في سقوط القدس:

لم يكن ضعف خلفاء الدولة العباسية وتنافس الحكام والأمراء على الأطماع الدنيوية وإخماد روح الجهاد في النفوس فقط وراء سقوط القدس، بل كان للفاطميين دوراً كبيراً وراء هذا السقوط والفاطميون ينسبون إلى فاطمة الزهراء -رضي الله عنها- وذلك من خلال انتسابهم إلى إسماعيل بن جعفر الصادق وقد افترق الفاطميون عن الشيعة الاثنى عشرية في إسماعيل هذا، فعند الاثنى عشرية أن الإمامة كانت لموسى الكاظم بن جعفر الصادق، ويجعلها الفاطميون في أخيه إسماعيل، وقد اختلف المؤرخون في صحة نسب مؤسس الدولة الفاطمية عبيد الله بن الحسين بن أحمد الملقب بالمهدي.

ويرى المحققون منهم أن هؤلاء العبيديين كاذبون فيما زعموا من النسب. وإذا كان ثمة خلاف في صحة نسب هؤلاء الفاطميين فقد اتفق الجميع من أهل السنة، بل والشيعة الاثنى عشرية على فساد المذهب الإسماعيلي وخروجه عن الإسلام، وأنهم كفار وزنادقة، وبلغ بهم الكفر ادعاء الربوبية والألوهية في بعض أئمتهم.

وقد تمكن الفاطميون من إقامة دولة كبيرة لهم استولت على شمال إفريقيا والمغرب العربي ومصر، وبسطت نفوذها على الشام والحجاز، واتخذت من القاهرة عاصمة لها، والتي بناها جوهر الصقلي للمعز لدين الله الفاطمي الذي دخل مصر وأقام بها منذ عام 362هـ. وقد سعى غلاة الشيعة الفاطميون إلى إضعاف الأمة وإفسادها، وساهموا في دخول الصليبيين الشام وبيت المقدس، وتمكينهم فيها بعدة أمور منها:

1- حرص حكام الدولة الفاطمية على إفساد عقيدة الأمة ومحاولة فرض المذهب الشيعي الإسماعيلي بالقوة تارة وبالإغراء تارة، ولم يتوانوا عن قتل علماء أهل السنة وفقهائهم وسب الصحابة على المنابر، وادعاء الألوهية لبعض حكامهم. ومعلوم أن الأمة تقوى بتمسكها بعقيدة سلفها الصالح، وتضعف بالبعد عنها.

2- حرص هذه الدولة على هدم الخلافة العباسية وإضعافها باقتطاع جزء كبير منها، واستعداء أعدائها عليها، ومعاداة من يواليها من الحكام والأمراء.

3- حرص هذه الدولة على عزل مصر وشمال إفريقيا عن إخوانهم في الشام خلال غزو الصليبيين للشام فلم يجد الصليبيون المقاومة القادرة على ردهم.

4- لم يشترك الفاطميون في رد الصليبيين وقتالهم رغم شدة الخطب، يقول صاحب النجوم الزاهرة: "ولم ينهض الأفضل -قائد جيوش الفاطميين- بإخراج عساكر مصر وما أدري ما كان السبب في عدم إخراجه مع قدرته على المال والرجال"(8).

أما ابن الأثير فقال عنهم: "إن أصحاب مصر من العلويين -أي الشيعة الفاطميون- لما رأوا قوة الدولة السلجوقية وتمكنها واستيلاءها على بلاد الشام حتى غزة... خافوا فأرسلوا إلى الإفرنج يدعونهم إلى الخروج إلى الشام ليملكوها"(9).

ويقول مؤلفا "الطريق إلى بيت المقدس": "إن الفاطميين كانت لهم مراسلات وسفارات مع هؤلاء الصليبيين الغزاة، حيث أرسلوا إلى معسكر الصليبيين عند أنطاكيا عام 492هـ عرضت عليهم اقتراحاً يتضمن اقتسام أملاك السلاجقة المسلمين فيكون للصليبيين أنطاكيا وشمال الشام ويكون للفاطميين فلسطين"(10).

وقد فطن المخلصون من هذه الأمة إلى هذه الأمور فعالجوها، فاستطاع عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود ومن بعدهما صلاح الدين الأيوبي أن يبثوا روح الجهاد من جديد، ويوحدوا مصر والشام، ويسقطوا الدولة الفاطمية، ويعيدوا ولاء المسلمين شرقاً وغرباً للخليفة العباسي في بغداد، ويعدوا الجيوش الكبيرة القادرة على صد الصليبيين ودفع شرورهم، ثم إخراجهم من ممالكهم، وتحرير القدس من أيديهم، ولله الحمد والمنة.

وما أشبه الليلة بالبارحة لو فطن لها مخلصو الأمة ومصلحوها.

ولله الأمر من قبل ومن بعد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) "السلطان صلاح الدين": مركز السيرة والسنة -المجلس الأعلى للشئون الإسلامية- القاهرة 1425هـ - 2004م ص:16 نقلاً عن: "800 عام على حطين صلاح الدين" ط. دار الشروق 1987م.

(2) "الناصر صلاح الدين بطل حطين". أ د. حمزة النشرتي، الشيخ/ عبد الحفيظ فرغلي، أ د. عبد الحميد مصطفى - جـ1/29- 30.

(3) وذلك قبل ميلاد صلاح الدين الأيوبي بأربعين سنة.

(4، 5، 6، 7) "البداية والنهاية لابن كثير" طـ. دار الغد العربي، المجلد السادس: ص:649- 650.

(8) "السلطان صلاح الدين" مركز السيرة والسنة، ص:16 نقلاً عن ابن تغر بردي في النجوم الزاهرة جـ5/ ص:147.

(9) المصدر السابق: ص17 نقلاً عن الكامل لابن الأثير في حوادث سنة 491هـ، وانظر الحروب الصليبية لسعيد عاشور جـ1/ ص:176.

(10) "الطريق إلى بيت المقدس" د. جمال عبد الهادي، د. وفاء محمد رفعت، دار التوزيع والنشر الإسلامية -القاهرة- ط. الثانية جـ1/ ص:68.