الحافلة تسير، متهادية رخية، اهتزازات ناعمة مثل وشوشات، والأضواء الصغيرة الخافتة جداً كأنها عيون يداعبها الوسن، والليل مطبق، ليس ثمة في الخارج غير الظلام الدامس، يوحي بالفراغ، يعطيك الشعور بالراحة والأمان، كأنك في حلم، أو كأنك نائم، لا تحس بشيء، لا ترى أي شيء، لا تفكر بشيء، كأنك في العدم، ترتاح، ويتهادى صوت فيروز ناعماً رخياً من مسجل خافت، كأنها تهمس لك، تود لو تنام، ولكنك لا تريد أن تنام، كي تظل ناعماً بهذا الجو الحالم، والحافلة ما تزال تتهادى، ولكن ذلك لا يدوم، إذ ينهض المعاون، يستل من صندوق خشبي متسخ قرصاً صلباً، يضعه في جهاز العرض المعلق فوق رأس السائق، ويصرخ الضوء في شاشة العرض، بصوت باهر، ثم يبدأ في عرض فيلم، لا تدري أين تنظر ولا تعرف ماذا تسمع، تغمض عينيك، ولكن الضوء يقدح، تسد أذنيك بإصبعيك، ولا جدوى، فالأصوات تتسرب إلى أعماق الشرايين، ولا تستطيع إلا أن ترى الفيلم، شخصيات تتحرك، تصيح، تتغير المشاهد، تتغير الأشكال، مثل ثعابين تتلوى، ولا تدرك من اللغط شيئاً، ولا تفهم من الحركة معنى، ولا تدرك ما يجري، ويستمر العرض، ولا أحد يعترض أو يحتج، بعضهم يغط في النوم، وبعضهم يتابع العرض، وتغيب فيروز، ويلغى الهدوء، ويتمزق السكون الناعم، ليحضر الصخب والضجيج، ويلتفت المسافر إلى جواري ليقول لي: " هذا الفيلم رأيته عشرين مرة، أنا كل أسبوع أسافر، كثيراً ما أراه مرة في الذهاب، وأخرى في الإياب، حفظت حركات الممثلين، حفظت صراخهم وصخبهم، ولكن صدقني، حتى الآن لم أفهم منه أي شيء، أي فيلم هذا؟"، ويمر بجواري معاون السائق، أقول له متذمراً:" ما هذا الفيلم؟"، يجيبني ببرود:" كل الأفلام عندنا مثل هذا الفيلم، عنف أو ضحك، جيدو أو كوميديا"، ويقول له جاري:" هل يمكن العودة إلى فيروز؟"، يرد المعاون، وهو يمضي : " هذه هي رغبة الركاب"، يعلق جاري، وكان المعاون قد مضى إلى عمق الحافلة: من قال هذا؟ لم يطلب أي راكب عرض فيلم، معظم الركاب يغطون في النوم، ويلتفت إلينا راكب في المقعد الذي هو أمامنا مباشرة ليقول لنا:" إذا ما عجبكم هذا الفيلم غمضوا عيونكم وناموا، نحن نريد رؤية الفيلم"، ماذا يمكنني أن أقول له؟ من المؤكد أن الصمت هو خير، يمنحني جاري بعض العزاء، فإلى جواري راكب يتفق معي في الرأي، يمكنني أن أحدثه، أقول له هامساً:" المعاون لا يتحمل المسؤولية، ولا السائق، يتحملها المنتج والمخرج، من المؤسف إضاعة المال والوقت والجهد، وهدر مواهب الممثلين في إنتاج أفلام مثل هذا الفيلم السخيف"، يضيف الراكب إلى جواري، وهو يهمس مثلي، كأنه لا يريد أن يقطع المتعة على الراكب الذي أمامنا، يقول لي:" ولكن السائق هو الذي يختار الأفلام، أو الشركة الناقلة هي التي تشتريها"، ويصمت، ثم يضيف، وهو يرسل زفرة طويلة:" على كل حال، هذا هو المطلوب: تسطيح عقول الناس، وتشويه أذواقهم، وجعلهم يتقبلون كل شيء"، وأضيف هامساً، كأنني أخشى أن يسمعني الراكب الذي هو أمامنا:" بل جعلهم يعجبون بكل ما هو سخيف، حتى لا يتمكنوا من تمييز السيئ من الجيد في الفن"، ويضيف جاري:" إذا ما عادوا يستطيعون تمييز السيئ من الجيد في الفن، أصبحوا لا يستطيعون التمييز في كل شيء"، ويصيح صوت من وراء، في عمق الحافلة:" ارفع لنا الصوت، نحن هنا لا نسمع، نريد أن نفهم"، ويعلو صوت الزعيق والصراخ والضجيج في الفيلم، والعرض مستمر، يقول لي الراكب الذي إلى جواري:" لولا أننا في الليل، وفي قلب الصحراء، لطلبت من السائق النزول هنا"، أقول له هامساً:" لن يسمح لك بالنزول، لا بد من أن تكمل الرحلة كلها، ولا بد من أن ترى الفيلم كله"، يقول لي:"لا بد من البحث عن حل!"، أجيبه هامساً:" يبدو لا حل سوى النوم"، وأعقد يدي على صدري، أغمض عيني، وشيئاً فشيئاً يعلو في الشاشة اللغط، يتحول إلى صخب، ثم ينقلب إلى موسيقا راقصة، وتنار أضواء ملونة، وينهض أكثر الركاب، يقفون فوق المقاعد، ويبدؤون بالرقص، السائق يغادر مقعده وراء المقود، يقف في الممر الضيق بين الصفوف، ويأخذ في رقص صاخب، كأنه يقود الركاب، يوحي إليهم أن يرقصوا مثله، أكثرهم يحاول، ولكن أحدهم لا يجيد الرقص كما يجيده هو، أسأل نفسي، كيف تسير الحافلة؟ أتمنى أن ينهض أحدهم ليوقف هذا الجنون، ألتفت إلى جاري، هو عاقل مثلي، لا يرقص، أراه يتناول شيئاً من كيس صغير في يده، أظنه يتناول مكسرات فاخرة، من جوز وفستق ولوز، يمد يده بالكيس إلي، يدعوني لأشاركه، أحدق في داخل الكيس، وإذا هو مملوء بشيء أبيض ناعم، أشم منه رائحة عطرة، تذكرني برائحة ثياب خرجت للتو من غسالة، أقرأ على الكيس اسم نوع فاخر شديد الفعالية من مواد الغسيل، يأخذ بعض الركاب بالتعري، أسأل نفسي: "كيف لا يخجلون من السيدات في المقاعد الخلفية"، فجأة تنهض امرأة من عمق الحافلة، تتقدم من السائق وهو ما يزال في الممر يرقص رقصاً لا يجاريه فيه أحد، أتوقع أن تنصح له بالعودة إلى مقعده وراء المقود، ولكنها تأخذ بالرقص أمامه، أسمع أصوات نساء في عمق الحافلة يصفقن ويزغردن، ويمر إلى جواري طفل، يمضي في الممر، بين صفيّ المقاعد، أتابعه بأنظاري، وإذا به يتخذ موضعه وراء المقود، يجلس في مقعد السائق، أدرك أنه هو الذي بدأ يقود الحافلة، الحافلة تترجح، تتمايل، تكاد تنقلب، أحس بحركة، أنتفض لأصرخ، أفتح عيني، فأجد الفيلم ما يزال مستمراً، والصخب عال، وإذا بالراكب الذي هو أمامي يدفع بمقعده إلى الوراء، ويتمدد فيه، وقد ملأ الفراغ كله بين مقعده ومقعدي، ومسند مقعده يسد عليّ أنفاسي، أتقبل الأمر بصمت، وألتفت إلى جاري، وإذا هو يتابع الفيلم بعينين مفتوحتين، ولا شيء يتناوله، ولا كيس بين يديه، أهمس لجاري: "يبدو أنني غفوت"، يجيبني:" أنا لا أستطيع النوم، ولا الإغفاء، ولاشيء أمامي سوى شاشة العرض، يجب أن أرى وأن أسمع"، أهم بالقول:" بل يجب أن ترقص أيضاً"، ولكن أمسك نفسي، ولا أقول شيئاً، وما هي إلا دقائق حتى يجلجل شخير حاد، يعلو أمامي مثل آلة صدئة تدور، يهمس لي الراكب إلى جواري:" هذا أقل سوءاً من صخب الفيلم"، أسأله:
"ولماذا علينا أن نتوقع دائماً الأسوأ؟ لماذا لا نبحث عن الأجمل، لماذا لا تضاء الأنوار، وتوزع علينا الصحف والمجلات؟ لماذا لا تزود المقاعد بحواسيب صغيرة، وتكون مغطاة بشبكة الإنترنت العالمية، لماذا نمضي وقت الرحلة في مثل هذا السخف؟ لماذا على الأقل لا توضع لنا أفلام جديرة بالمشاهدة؟"، وأتجه بأنظاري نحو النافذة، أرى صورة شاشة العرض منعكسة على الزجاج، والفيلم الصاخب مستمر، والعتمة ما تزال في الخارج، متى أرى طلائع الفجر، والنور الأبيض ينثال من خلال الغيوم، ليرسم ألواناً زاهية متألقة، تؤكد ولادة يوم جديد، وفيروز تشدو: " طلعت يا ما حلى نورها"؟