كتبه/ إيهاب صادق
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فقد قال الله -تعالى-: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا)(الأحزاب:23).
لقد أكرم الله -سبحانه- أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- بنعمة جليلة وسنة ماضية لا تتوقف حتى يأتي أمر الله، ألا وهي وجود الرجال الصادقين الذين يستحقون تأييد الله -تعالى- لهم نصره إياهم، كما جاء في الحديث: (لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ) رواه مسلم.
وحينما يراجع المسلمون دينهم، ويغيرون ما هم فيه من انحراف عن منهج الله يكافئهم الله -تعالى- بأن يمكن لهؤلاء الرجال الصادقين فيجعلهم أمراء وقادة، ويجعل لهم سلطاناً ونفوذا، وعندها يتغير الحال ويتبدل، وتبدأ صفحة جديدة من صفحات أمجاد المسلمين وعِزهم، وتنتزع الأمة مكانتها التي تليق بها، وتستعيد صدارتها بين الأمم.
وخلال مدة احتلال بيت المقدس الذي استمر اثنتين وتسعين سنة كانت هناك صحوة إسلامية قوية عمت جميع بلاد المسلمين لمعت فيها أسماء العديد من العلماء الربانيين الذي أسسوا المدارس، وألَّفوا المصنفات، وصححوا العقائد، ونشروا العلم النافع، وربَّوا الجيل الجديد على صدق الانتماء والاجتهاد في خدمة الدين والتضحية في سبيل الله.
ويذكر التاريخ كيف كان هؤلاء العلماء يتقدمون الصفوف في المعارك، فيقاتلون بأنفسهم، وكان بعضهم لا ينقطع عن غزوة لصلاح الدين الأيوبي -رحمه الله-، مثل الإمام العلامة الشيخ أبو عمر بن قدامة المقدسي، وأخوه الشيخ موفق الدين بن قدامة صاحب المغني، وغيرهم -رحمهم الله جميعاً.
وقد أعان الله هؤلاء العلماء الربانيين وأيدهم بالأمراء الصالحين، مثل عماد الدين زنكي وولده نور الدين محمود، ثم صلاح الدين الأيوبي -رحمهم الله-، فنشطت الصحوة الإسلامية، وقويت باجتماع القرآن والسلطان، وائتلاف العلماء والأمراء، واستحقت الأمة الإسلامية عندها مكافأة الله -تعالى-، فمكّن -سبحانه وتعالى- لصلاح الدين ما لم يمكِّن لغيره من أمراء زمانه فقهر الصليبيين وذلهم، وحرر أكثر البلدان من شرورهم، وكان قد تمكَّن قبلها من إزاحة الدولة العبيدية الرافضية المسماة بالفاطمية من مصر، ووحد مصر والشام تحت سلطانه.
وبعدما أكرمه الله -تعالى- بالنصر في موقعة حطين سنة 583هـ نصراً لم يُسمع بمثله إلا في عصر الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم-،وسار إلى قلاع النصارى ومدنهم فحررها، فبدأ بقلعة طبرية، ثم عكا، ثم صيدا، وبيروت، وعسقلان، ونابلس، وبيسان، وأرض الغور، وبعدما ملك ذلك كله (1) أمر جيوشه أن ترتاح في هذه الأماكن ويستعدوا لفتح القدس، وطار في الناس الخبر، وعلموا عزم السلطان على ذلك، فقصده العلماء والصالحون من أماكن عديدة تطوعاً، وجاءوا إليه كجنود في خدمته الميمونة.
وبدأت بشائر التحرير بزحف جيوش صلاح الدين نحو بيت المقدس الذي استمر ثنتين وتسعين سنة تحت سيطرة النصارى الحاقدين، وضربت جيوش الناصر صلاح الدين الحصار المحكم على بيت المقدس واستمر حصارها.
وتذكر كتب التاريخ أن صلاح الدين عندما سار إلى بيت المقدس وصلته رسالة من أحد المأسورين في القدس فيها أبيات على لسان المسجد الأقصى:
يا أيها الملك الـــذي لمعالم الصلبـــــان نكس
جاءت إليك ظلامــــة تسعى من البيت المقدس
كل المساجد طهــرت وأنا على شرفـي منجس
وبعد اشتداد الحصار على النصارى طلبوا الأمان، ونزل ملك بيت المقدس يترفق السلطان وذل ذلاً عظيمًا، فأجابهم صلاح الدين، ودخل المسلمون القدس، ووفوا بالصلح المضروب مع النصارى، وشرعوا في تنظيف المسجد الأقصى مما كان فيه من الصلبان والرهبان والخنازير، وأعيد على ما كان عليه زمن المسلمين، وغسلت الصخرة بالماء الطهور وأعيد غسلها بماء الورد والمسك الفاخر، وأبرزت للناظرين، وقد كانت مستورة مخبوءة عن الزائرين، ووضع الصليب عن قبتها، وعادت إلى حرمتها، وامتن السلطان صلاح الدين على بنات الملوك ومن معهن من النساء والصبيان والرجال، ووقعت المسامحة في كثير منهم، وشفع في أناس كثير فعفا عنهم، وفرق السلطان جميع ما قبض منهم من الذهب في العسكر، ولم يأخذ منه شيئا مما يقتني ويدخر، وكان -رحمه الله- كريمًا مقدامًا شجاعًا حليمًا.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "لما تطهر بيت المقدس مما فيه من الصلبان والنواقيس والرهبان والقسس، ودخله أهل الإيمان، ونودي بالأذان، وقُرئ القرآن، ووُحد الرحمن، وكانت أول جمعة أقيمت في اليوم الرابع من شعبان، بعد يوم الفتح بثمان، فصف المنبر إلى جانب المحراب، وبسطت البسط، وعلقت القناديل وتلي التنزيل، وجاء الحق، وبطلت الأباطيل، وصفت السجادات، وكثرت السجدات، وأقيمت الصلوات، وأذن المؤذنون، وخرس القسيسون، وزال البؤس، وطابت النفوس، وأقبلت السعود، وأدبرت النحوس، وعُبِد الله الأحد الذي (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)(الإخلاص:3-4). وكبره الراكع والساجد، والقائم والقاعد، وامتلأ الجامع، وسالت لرقة القلوب المدامع، ولما أذن المؤذنون للصلاة قبل الزوال كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال، ولم يكن عيَّن خطيب، فبرز من السلطان المرسوم الصلاحي، وهو في قبة الصخرة أن يكون القاضي محيي الدين بن الزكي اليوم خطيبًا، فلبس الخلعة السوداء وخطب للناس خطبة سنية فصيحة بليغة، وذكر فيها شرف بيت المقدس، وما ورد فيه من الفضائل والترغيبات، وما فيه من الدلائل والأمارات، وقد أورد الشيخ أبو شامة الخطبة في الروضتين بطولها. وكان أول ما قال: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(الأنعام:45).
ثم أورد تحميدات القرآن كلها، ثم قال: «الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومزيد النعم بشكره، ومستدرج الكافرين بمكره، الذي قدَّر الأيام دولاً بعدله من طله وهطله -الندى والمطر-، الذي أظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع، والآمر بما يشاء فلا يدافع، أحمده على إظفاره وإظهاره، وإعزازه لأوليائه ونصره أنصاره، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر إجهاره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله رافع الشكر وداحض الشرك، ورافض الإفك، الذي أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السموات العلى، إلى سدرة المنتهى (عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى . إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى . مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)(النجم:15-17)، وعلى خليفته الصديق السابق إلى الإيمان، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك، ومكسر الأصنام، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان"
واستمر في خطبته الرفيعة المنيعة الممزوجة بالعاطفة الجياشة، والمشاعر والأحاسيس المحبوسة إلى أن قال: "فطوبى لكم من جيش ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية، والوقعات البدرية، والعزمات الصديقية، والفتوحات العمرية، والجيوش العثمانية، والفتكات العلوية، جددتم للإسلام أيام القادسية والوقعات اليرموكية، والمنازلات الخيبرية، والهجمات الخالدية، فجزاكم الله عن نبيكم أفضل الجزاء، وشكرًا لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة الأعداء، وتقبل الله منكم ما تقربتم إليه من مهراق الدماء، وأثابكم الجنة فهي دار السعداء، فاقدروا -رحمكم الله- هذه النعمة حق قدرها، وقوموا إلى الله بواجب شكرها؛ فله النعمة بتخصيصكم بهذه النعمة وترشيحكم لهذه الخدمة..." إلى آخر ما جاء في الخطبة.
وبعد أن تم هذا الفتح العظيم توافد إلى السلطان الشعراء والعلماء والكتاب والمؤرخون، ينثرون أمامه من بلاغة الشعر، وحِكَم المقال ما قد ملأ الكتب الطوال، وإليك ما قاله الشاعر أبو الحسن بن علي الجويني:
جند السماء لهذا الملك أعــــــــــوان
من شك فيهم فهذا الفتح برهــانُ
هذي الفتوح فتوح الأنبيـــــــاء وما
لها سوى الشكر بالأفعال أثمـــانُ
أضحت ملوك الفرنج الصيدُ في يده
صيدًا وما ضعفوا يومًا وما هانوا
تسعون عامًا بلاد الله تصـــــــــــرخ
والإسلام أنصاره صم وعميــــانُ
فالآن لبى صلاح الدين دعوتهـــــــم
بأمر من هو للمعوان معــــــوانُ
إذا طـــــوى الله ديــــوان العباد فما
يُطوى لأجر صلاح الدين ديوان
وقال محمد بن سعد نقيب الأشراف بالديار المصرية:
أترى منامًا ما بعيني أبصــــر
القدس تفتح والفرنجة تُكسرُ
ومليكهم في القيد مصفود ولم
يُر قبل ذلك لهم مليـــك يؤسر
فُتح الشام وطُهر القدس الـذي
هو في القيامة للأنام المحشر
يا يوسف الصديق أنت لفتحها
فاروقها عمر الإمام الأطـــهر
ولأنت عثمان الشريعة بعـــــده
ولأنت في نصر النبوة حيـــدر
وكانت بنود الصلح التي تمت بين صلاح الدين والنصارى:
أن يسمح لهم بالخروج لمدة أربعين يومًا، يدفع الرجل منهم عشرة دنانير، والمرأة خمسة، والولد اثنين، ومن لم يستطع ذلك فهو أسير.
إلا أن السلطان صلاح الدين تجاوز بند المعاهدة وعامل الصليبيين معاملة عطف ورحمة وإحسان، ليعطي للبغاة المعتدين، والملوك المستبدين الظالمين، والصليبية الحاقدة على الإسلام والمسلمين النموذج الطيب، والقدوة الصالحة في السماحة والعدل والعفو عند المقدرة.
فأعطى للنصارى العاجزين الذين تركهم أمراؤهم، ولم يجدوا من يعينهم أعطاهم أموالاً ودواب لتحمل أثقالهم إلى ما يريدون.
وكانت إحدى نساء ملك من ملوك الروم قد ترهبت، واستأذنت للذهاب إلى زوجها والمكث معه، فإذن لها، وسيَّرها إلى زوجها السجين للبقاء معه بقلعة نابلس. واجتمعت مجموعة من النساء وتوسلن للسلطان في أزواجهن وأبنائهن، فرقَّ لهن، وأمر بالإفراج عنهم، وفتح للعجزة والفقراء باب الخروج دون دفع جزية.
وأذن السلطان صلاح الدين لرجال الدين والناس كافة أن يحملوا معهم ما شاءوا من المتاع والأموال، فأخذوا ما شاءوا دون أن يعترضهم معترض، تاركين ما لا قِبل لهم بحمله، فابتاعه المسلمون منهم.
وكان أحد البطارقة قد خرج بأمواله وذخائره، وكانت كثيرة جدًا، لم يصرفها في فداء الفقراء والمساكين، فقيل للسلطان: «لم لا تصادر هذا فيما يحمل، وتستعمله فيما تُقَوّي به أمر المسلمين؟» فقال لهم السلطان: «لا آخذ منه غير العشرة الدنانير، ولا أغدر به".
أما معاملة النصارى الحاقدين للمسلمين عندما انتزعوا القدس من أيدينا في عام 492هـ فإليك ما قاله «مل» المؤرخ الإنجليزي:
«كان المسلمون يُقتلون في الشوارع والبيوت، ولم يكن للقدسي من ملجأ يلجأ إليه من نتائج النصر، فقد فر بعض القوم من الذبح فألقى بنفسه من أعلى الأسوار، وانزوى البعض الآخر في القصور والأبراج وحتى في المساجد، غير أن هذا كله لم يخفهم عن أعين المسيحيين الذين كانوا يتبعونهم أينما ساروا ثم يقول: «ولقد اندفع المشاة والفرسان وراء الهاربين، فلم يسمع في وسط هذا الجمع المكتظ إلا نزعات الموت وسكراته، ومشى أولئك المنتصرون فوق آكام من الجثث الهامدة وراء أولئك الذين يبحثون عن ملجأ أو مأوى».
فهذا صلاح الدين المسلم السني الرباني يقدم للأجيال الإنسانية دروسًا في غاية الروعة والجمال، نحتت في صفحات تاريخ البشرية لتدل على عظمة هذا الدين الذي أخرج للوجود مثل نور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي، فعليهم من الله المغفرة والرحمة والرضوان، قال الشاعر:
ملكنا فكان العـدل منا سجيــة
فلما ملكتم سال بالدم أبطـــــــــح
وحللتم قتل الأســــارى وطالـما
غدونا على الأسرى نمن ونصفح
فحسبكم هذا التفاوت بيننــــــا
وكل إناء بالذي فيه ينضـــــــــــح
نسأله -سبحانه- أن يردنا وجميع المسلمين إلى دينه مرداً جميلاً، وأن يبعث فينا من يجدد أمر ديننا، وأن يحرر المسجد الأقصى من أيدي اليهود، وأن يستعملنا في خدمة الإسلام.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) من هنا بدأ النقل عن الدكتور/علي الصلابي من كتابه: "الدولة الفاطمية" حيث وجدته من أروع ما جُمع وأخصره عبارة، فلم يدع لمثلي مقالاً.