كتبه/ محمد سرحان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فقد دخلت القدس في حماية الدولة العثمانية أواخر أيام عام 922هـ في عهد السلطان سليم، وهو السلطان التاسع من سلاطين آل عثمان.
وفي عام 1520م تولى السلطان سليمان القانوني، وفي عهده جُدِّدَ آخرُ سورٍ حول القدس الشريف.
وفي عام 1247هـ/1831م سقطت القدس في يد إبراهيم باشا بن محمد علي باشا، ولكن إبراهيم اضطر إلى ترك البلاد تحت ضغط الدول الكبرى.
وفي عام 1291هـ/1874م ارتبطت متصرفية القدس بوزارة الداخلية في إسلام بول (استانبول حالياً)، و(إسلام بول هي القسطنطينية سماها السلطان محمد الفاتح -رحمه الله- بهذا الاسم، وهو يعين بالتركية مدينة الإسلام).
وفي سنة 1917 سقطت في يد بريطانيا.
محاولات اليهود إقامة وطن لهم في فلسطين، ووقوف دولة الخلافة ضد ذلك:
حاول اليهود التسلل إلى بلاد الشام (خاصة فلسطين) والطور (سيناء) عن طريق الهجرة وشراء الأراضي، ولكن سلاطين آل عثمان كانوا يدركون خطورة هذه الحركة، فأصدروا أوامر مشددة إلى رجال الإدارة ببلاد الشام تحرم على اليهود سكنى أرض فلسطين أو سيناء، فعلى سبيل المثال:
- أصدر السلطان سليم الأول عام 924هـ فرماناً يمنع اليهود من الهجرة إلى سيناء، وواضح من هذا الفرمان أن اليهود كانوا يريدون سيناء منطلقاً للعودة إلى أرض الميعاد -بزعمهم-.
- صار السلطان سليمان على نفس الطريق الذي كان عليه والده، فأصدر فرماناً أكد فيها ما جاء في الفرمان الذي أصدره والده السلطان سليم، مما يدل على أن الخطر اليهودي كان لا يزال ماثلاً على سيناء وأرض فلسطين.
ولكن اليهود لم يتوقفوا عن بذل المحاولات المتكررة لتحقيق هدفهم، وقد نجحوا في الوصول على هيئة هجرات متقطعة إلى سيناء بداية بالطور؛ على اعتبار أن الطور يقع على الساحل الشرقي لخليج السويس، ولها ميناء يصلح لرسو السفن، ويمكن مدينة الطور من الاتصال بالعالم الخارجي عن طريق البحر.
ثم اكتشفت هذه الهجرات، فأصدر الوالي العثماني على مصر من قِبَل السلطان العثماني مراد الثالث ثلاث فرمانات متتالية بإخراج اليهود من سيناء، ومنعهم قابل الأيام منعاً باتاً من العودة إليها بما فيها مدينة الطور أو الإقامة أو السكن فيها، ونبهت الفرمانات بضرورة تنفيذ الأوامر تنفيذاً فورياً.
- وفي عهد السلطان عبد الحميد الثاني بلغت محاولات اليهود ذروتها لاغتصاب فلسطين؛ ففي عام1282هـ (1882م) أراد يهود روسيا النزوح إلى فلسطين (بعد قيام منظمة عشاق صهيون باغتيال القيصر الروسي، وحملة السلطات الروسية لتصفية اليهود بعدها)،
فجاء الرد من الحكومة العثمانية كالتالي:
(إن الحكومة العثمانية تبلغ جميع اليهود الراغبين في الهجرة إلى الدولة بأنه ممنوع عليهم الاستقرار في فلسطين، وأن الدولة تسمح لهم بالإقامة في أي إقليم آخر من أقاليم الدولة بشرط أن يكونوا رعايا عثمانيين، ويخضعوا لقوانين الدولة)
وتدخل السفير الأمريكي في الأستانة لدى وزير الخارجية العثماني في شأن منع هجرة اليهود إلى فلسطين، وقد كانت لأمريكا وبريطانيا على الخصوص وغيرهما من الدول الأوروبية محاولات مستمرة مستميتة كثيرة لتكون فلسطين لليهود، وما زالت المحاولات لمساندتهم إلى هذه الساعة؛ لتدرك بوضوح قول الله -تعالى-: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض).
فجاء الرد من السفير بمنع الهجرة.. وإمعاناً من السلطان عبد الحميد في سياسة منع هجرة اليهود أرسل إلى متصرف القدس وإلى السلطات العثمانية في بيروت واللاذقية وحيفا بمنع أي يهود من روسيا أو رومانيا أو بلغاريا من أن تطأ قدمه أرض فلسطين، وأبلغ رؤساء البعثات الدبلوماسية في الأستانة رسمياً بقرار مجلس الوزراء العثماني بمنع استيطان أو استقرار اليهود الروس في فلسطين.
وأصدر السلطان سنة 1291هـ/ 1884م قراراً بألا تزيد على ثلاثين يوماً إقامة اليهود الراغبين في زيارة فلسطين، واحتجت الدول الأوروبية على قيد المدة بثلاثين يوماً -تنبه للدور الأوروبي ولقوله -تعالى-: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض)- فجعلت ثلاثة أشهر.
- استطاع بعض اليهود التسلل إلى فلسطين بمساعدة بعض القناصل الأوروبية في فلسطين وقبول بعض الموظفين الرشا، فقدم أعيان القدس التماساً إلى السلطان لاتخاذ إجراءات فعالة كفيلة بمنع نزوح اليهود إلى فلسطين، وشراء أراضيهم، فاستجاب لهم وجدد القيود على اليهود، وأصدر قانوناً يحرم على بيع أراضي الحكومة إلى أي هودي كان، ثم واصل اليهود محاولاتهم التسلل إلى فلسطين تحت ستار المشروعات التي تقوم بها أوروبا في العالم العربي.
ثم كانت محاولات "هرتزل" وغيره من اليهود مرات عديدة في عرض الأموال على للسلطان عبد الحميد، وسداد ديون الدولة العثمانية في سبيل إعطائه في فلسطين، فكان جزاؤهم الطرد من البلاط السلطاني، وقال السلطان كلماته الشهيرة:
"إنكم لو دفعتهم ملء الدنيا ذهباً -فضلاً عن 150مليون ليرة إنجليزية ذهباً- فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعي، لقد خدمت الملة الإسلامية والأمة المحمدية ما يزيد عن ثلاثين سنة فلن أسود صحائف المسلمين آبائي وأجدادي والخلفاء العثمانيين".
وقال: "سوف نغطيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منا، ليحتفظ اليهود ببلايينهم، فإذا قسمت الإمبراطورية فقد يحصل اليهود على فلسطين دون مقابل، لكنها لن تقسم إلا على جثثنا، ولن أقبل تشريحنا بأي ثمن".
ولهذه الأعمال تدرك سبب الهجوم العنيف على السلطان عبد الحميد.
ثم قام اليهود بعد ذلك من خلال جمعية "الاتحاد والترقي" التي كان من أقطابها كمال أتاتورك، وأعضاؤها بعضهم من يهود الدونمة، بجهودهم حتى أقصوا السلطان عبد الحميد عن الحكم، ثم بعد ذلك إسقاط الخلافة الإسلامية، وبسقوط الخلافة كان سقوط القدس وفلسطين في براثن اليهود.
لقد قام سلاطين العثمانيين بدور كبير في الحفاظ على فلسطين، ولكن بعضهم لم يقم بما يجب عليها تجاهها، وبعضهم وقع في أخطاء شديدة كانت سبباً في دخول اليهود فلسطين، وهذه بعضها:
الأخطاء التي وقع فيها بعض سلاطين العثمانيين:
1- في عهد السلطان عبد المجيد امتلك اليهود أول قطعة أرض في المدن الفلسطينية عام 1854م وهي القطعة التي أقيم عليها "حي مونتيفوري".
2- في عهد السلطان عبد العزيز منحت الحكومة اليهود قطعة أرض أقيمت عليها مدرسة "نيتر" الزراعية بالقرب من يافا سنة1870م.
3- أرهقت الدولة الفلاحين الفلسطينيين بالضرائب، فعجزوا عن دفعها، فاستولت الدولة على أراضيهم وباعتها في المزاد العلني سنة1869م فاشتراها أغنياء بيروت وتجارها الذين لا تربطهم بها رابطة فباعها هؤلاء لليهود بعد ذلك.
4- في سنة1868م أهدى السلطانُ عبدُ العزيز "فردريك ويلهم" ولي عهد روسيا بيمارستان صلاح الدين (مستشفى صلاح الدين بمصطلح اليوم) أو جزء منه، وأنشأ عليها الألمان كنيسة المخلص.
5- أهدى السلطان عبد الحميد للإمبراطور "غليوم الثاني" سنة1898م قطعة أرض على جبل صهيون، بنى عليها الألمان "كنيسة نياحة العذراء".
وهذا مما يدل على التفريط في أرض المسلمين وإعطائها لعدائهم دون مقابل.
6- ازدياد الهجرة اليهودية السرية والعلنية في عهد السلطان عبد الحميد مع عدم اتخاذ إجراءات حاسمة لمنع ذلك خاصة مع انتشار الرشاوى والفساد في موظفي الدولة.
أسباب سقوط فلسطين:
لقد كان إلغاء الخلافة مؤذناً ومنذراً بدخول اليهود فلسطين.
وانهيار دولة الخلافة وسقوط فلسطين كان له أسباب عدة نذكر مها ما يأتي:
1- ضياع مفهوم الولاء والبراء، وموالاة أعداء الله، ونجاح الدول الأوروبية في تفكيك الدولة العثمانية والأمة الإسلامية، وذلك من خلال أشياء كثيرة، منها إغراء محمد علي باشا بالخروج على الدول ومحاربتها، وقد تم ذلك، وكذلك إغراء الشريف حسين حتى أعلن ما سماه الثورة العربية، ولك أن تعلم أن الإنجليز دخلوا فلسطين والقدس سنة1917م على أكتاف الجنود العربية المسلمة جنود الشريف حسين، وهذا من ضياع مفهوم الولاء والبراء عندهم.
2- انتشار البدع والضلالات والخرافات والطرق الصوفية، بل والشركيات:
أ- انتشار مظاهر الشرك: ومن الأمثلة على ذلك:
- شجعت الدولة العثمانية تشييد القباب وبناء الأضرحة، وإقامة المشاهد، وتحديث المزارات، فمثلاً أعفت الدولة أهالي البصرة من الرسوم والتكاليف احتراماً لصاحب الحضرة الشريفة يعني الزبير بن العوام -رضي الله عنه-، وبنى العثمانيون على قبره مسجداً.
وفي عهد السلطان عبد الحميد أمر بتبييض القبب وتعمير المراقد الشريفة على نظارة والي البصرة، وأمر بكسوتين من الحرير الأحمر المفتخر المطرز بالفضة للضريحين ضريح الزبير وضريح عتبة بن غزوان -رضي الله عنهما-.
ولقد أولع العثمانيون في عصورهم المتأخرة بالبناء على كل ما يعظمه الناس من قبور أو آثار الأنبياء أو غير ذلك.
وأمعن الناس وتمادوا في مظاهر الشرك هذه حتى وصل الأمر إلى اعتقاد العامة في بغداد في مدفع قديم في ساحة الميدان من بقايا أسلحة السلطان مراد، فكانوا يقدمون له النذور ويطلبون منه الحاجات، مما حدا بالعلامة محمود شكري الألوسي إلى كتابة رسالة بعنوان: "القول الأنفع في الرجع عن زيارة المدفع".
ب- انتشار الخرافات:
في أواخر عهد الدولة العثمانية انتشرت الخرافات والأساطير بشكل منقطع النظير، فمنها مثلاً في الأستانة أن جامع خوجة مصطفى باشا محاط بزنجير مربوط طوقه بشجرة قديمة، ولهذا الزنجير خرافة يتناقلها الجهلاء مؤداها: أن كل من أنكر شيئاً حقيقياً وجلس تحت هذا الزنجير فهو يسقط على رأسه، وإن كان صادقاً في إنكاره فالزنجير لا يتحرك.
ج- انتشار الصوفية المنحرفة:
لقد كان كثير من سلاطين آل عثمان يقومون برعاية الصوفية، ولقد كان ذلك العصر عصر الصوفية التي أطبقت على العلام الإسلامي من أدناه إلى أقصاه، وكانت نظرة الصوفية تحترم البطالة، وتبيح التسول، وتسعى إلى موطن الذل بجانب الانحرافات العقدية الخطيرة، بالإضافة على سماع الملاهي والمعازف، حتى يقول أبو الهدى الصيادي (وهو من خواص السلطان عبد الحميد): "من لم يحركه السماع -أي سماع الموسيقى والأغاني- فهو ناقص مائل عن لطف الاعتدال بعيد عن نور الروحانية..." إلى آخر كلام طويل ساقط بعيد عن الشرع وحى العقل.
بالإضافة إلى تعظيم القبور والطلب من أصحابها ما لا يطلب إلا من الله، والموالد وغير ذلك كثير من انحرافاتهم، وبل وصل تغلل الصوفية حتى وصل إلى أعلى رأس في الدولة، فما بالك ببقية الشعب؟!
وانظر إلى شيخه محمود أبو الشامات قال بعد حمد الله، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أرفع عريضتي هذه إلى شيخ الطريقة العلية الشاذلية، إلى مفيض الروح والحياة (نعوذ بالله؛ فمفيض الروح والحياة هو الله -سبحانه وتعالى-، وليس شيخ الطريقة الشاذلية) إلى شيخ أهل عصره الشيخ محمود أفندي أبو الشامات، وأقبِّل يديه المباركتين راجياً دعواته الصالحة... إلى أن قال: سيدي، إني بتوفيق الله -تعالى- مداوم على قراءة الأوراد الشاذلية ليلاً ونهاراً..."
أما انتشار البدع والضلالات فحدث ولا حرج، وهذا كثير لا يحصيه العد بسبب الصوفية أو غيرهم.
3- نشاط الفرق المنحرفة: كالشيعة الاثنى عشرية، والدروز، والنصيرية، والقاديانية، والبهائية، وغيرها من الفرق الضالة المحسوبة على الإسلام والمسلمين.
نسأل الله أن يعز الإسلام، وينصر المسلمين وأن يعيد للأمة مجدها وعزها.