كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
معصية الله -عز وجل- سبب للضنك والشقاء في الدنيا، وللخزي والعذاب في الآخرة، قال -تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى)(طـه:124).
وكل المعاصي صغيرها وكبيرها لها نصيبها من هذا الشقاء الدنيوي وهذا العذاب الأخروي كل بحسب قدره، الكبيرة بقدرها والصغيرة بقدرها، وقد أخطأ بعض الشباب ممن يريدون الخير فصاروا إذا سمعوا عن أمر محرم سألوا أولاً هل هو من الكبائر أم لا؟ فإن كان من الكبائر اجتنبوه، وإلا أقدموا عليه غير مبالين، وهؤلاء قد ارتكبوا أخطاءً كثيرة:
منها أن استصغار الذنب سبب لزيادة عقوبته عند الله.
ومنها أنه لا صغيرة مع الإصرار أي أن الصغيرة تنقلب كبيرة في حق من أصر عليها.
ومنها وهو الذي زيد التركيز عليه في هذا المقام: أن الشيطان لحوح بطيء اليأس، يستدرج الإنسان خطوة بعد خطوة، كما قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(النــور:21).
ولذلك فهو يجتهد أن ينقله من الصغيرة إلى الكبيرة، ومن الكبيرة إلى أكبر، وربما إلى الشرك ذاته، وقد ضرب الله ذلك مثلاً فقال: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)(الحشر:16).
وممن القصص التي كانت متداولة عند أهل الكتاب أنها حصلت في بني إسرائيل؛ قصة برصيصا العابد -والتي تنطبق تمام الانطباق على هذا المثل القرآني- وحاصلها:
"أن ثلاثة أخوة من صالحي بني إسرائيل أرادوا الجهاد ولهم أخت خافوا عليها الوحدة، فأودعوها عند عابد ورع يسمى برصيصا، وقد رفض أولاً إلا أنه مع إلحاحهم اضطر للقبول، فجعلها في صومعة مقابلة لصومعته، يدلي لها الطعام بحبل فتأخذه ثم تذهب إلى صومعتها، وما زال الشيطان به يستدرجه، فنزل إليها وكلمها إيناساً لوحدتها، ثم كان ما كان إلا أن وقع بها وحملت منه، وطال الغزو بإخوتها حتى وضعت، فقتل طفلها ثم زين ووسوس له الشيطان بقتلها هي الأخرى حتى يموت سره إلى الأبد، ثم دفنها، وجاء الإخوة من الغزو فسألوا عن أختهم، فأخبرهم أنها قد ماتت فاحتسبوها عند الله.
ولكن الشيطان لم يصل بعد مع برصيصا رغم الزنا والقتل إلى مقصوده الأعظم وهو الشرك، فجاء الإخوة في منامهم وأخبرهم بخبر أختهم وموضع قبرها، فذهبوا وحفروا فوجدوا الأمر كما جاءهم في المنام فذهبوا إلى برصيصا وأنزلوه من صومعته ورفعوه على الصليب لينال جزاءه، هنا -وهنا فقط- تمثل له الشيطان في صورته الحقيقية قائلاً: "لقد علمت أني أنا صاحبك الذي أغريتك بها فاسجد لي سجدة وأنا أنجيك مما أنت فيه"؛ فسجد له وكفر بالله -تعالى- فولَّى هارباً وقال إني أخاف الله -رب العالمين-".
أرأيت أخي الحبيب:
كيف استدرج الشيطان هذا العابد ليتنزل من مراتب الشرف والعبادة، ويتوحل بوحل المعصية ثم ألقاه في هاوية الشرك بالله العظيم، وفي العصر الحديث نماذج كثيرة لذلك.
هل رأيت رجلاً عاقلاً يهديه الله للإيمان بأنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، ويقرأ القرآن ويعرف حلاوته؛ ثم يستبدل بذلك ديناً خلاصته أن الله نزل من عليائه فالتحم ببطن أنثى ثم خرج منها بعد تسعة أشهر من الحمل طفلاً رضيعاً يأكل ويشرب ويتبول وينام، ويُرسل إلى المكتب ليتعلم من علماء اليهود الذي هو إلههم ومنزل الكتب السابقة عليهم، ثم بعد ذلك يظفر به أعداؤه فيصلبونه ويلبسونه تاجاً من الشوك، ويبصقون على وجهه ويصفعونه على قفاه؟!!!
هل يمكن أن يتحول إنسان من هذه العقيدة إلى تلك؟!!
نعم ولا عجب، فذلك يحصل مع بعثات التنصير في البلاد الفقيرة، يمدون يداً برغيف الخبز وأخرى بالصليب، بل ويحصل ذلك في بلاد يجد الشباب فيها طعامه وشرابه، ولكنه لا يجد وسيلة لقضاء شهوته الجنسية بطريق مباح، بينما وسائل الإعلام تلهب هذه الشهوات حتى تغدو في نفس الشباب كالثور الهائج، ويأتي هؤلاء يد فيها الخمر والمخدرات والنساء؛ والأخرى فيها الصليب.
ولا تستبعد جرأتهم على دعوة أبناء المسلمين فإمامهم إبليس -عليه لعنة الله- يعرف هذه المفاتيح معرفة جيدة وهو يرسم لهم الطريق، حتى وإن نجحوا مرة وفشلوا مرات فهو لا ييأس حتى من العُبَّاد والدعاة إلى الله.
وإليك هذه القصة التي حاول فيها أحد المبشرين؛ وأد مشروع داعية وهو ما زال في مهده، ولكن الله سلم، إنها قصة الأستاذ سيد قطب -رحمه الله-، وذلك أنه كان أديباً ساخراً، لا يأبه كثيراً لهموم أمته ومشاكلها، وكان في إحدى رحلاته إلى أمريكا على متن باخرة -هو وستة من المسلمين- وكان على متن الباخرة مبشراً، فثارت حميتهم الدينية رغم عدم التزامهم، وقرروا أن يصلوا الجمعة على متن الباخرة، ووقعوا في مأزق، من يخطب بهم الجمعة؟!
فوقع الاختيار على الأستاذ سيد قطب -رحمه الله-؛ لا لشيء إلا لكونه خريج كلية دار العلوم وله إلمام بالعلوم الشرعية، فأعد الأستاذ الخطبة وألقاها بعاطفة جياشة فلم تنتهي الصلاة إلا وكان قد عقد العزم على أن يمضي في طريق الدعوة إلى الله -عز وجل-.
ولما كان الليل إذا بطارق يطرق عليه باب حجرته ففتح فإذا بامرأة جميلة متزينة، فألقت عليه التحية بخضوع وإغراء -ولم يكن الأستاذ سيد قد تغير تغيراً كاملاً- فبادلها التحية!!
فقالت: "هل تسمح لي أن أبيت الليلة عندك"؟
وكان ما زال يحاول التلطف فاعتذر بأن الحجرة ليس بها إلا سرير واحد، فقالت: "وكم من سرير حوى اثنين"، فأغلق الأستاذ سيد الباب في وجهها حتى سمع صوت ارتطامها بالأرض، وغلب على ظنه أنها مبعوثة هذا المبشر إليه.
ومن هذا الموقف امتلأ الأستاذ سيد بغضاً وكراهية لأعداء الله، وعاد ليقرأ القرآن ليكتشف أن قضية الموالاة تمثل أحد أهم محاور العقيدة الإسلامية، فبيَّنها -رحمه الله- بقلمه البليغ، ولكن للأسف فإن العاطفة متى أطلق لها العنان بغير ضبطها بالضوابط الشرعية تحدث أنواعاً من الانحراف.
وهذا ما أصاب الأستاذ سيد -عفا الله عنه- ولكن مع وجود هذه الانحرافات إلا أنها لم تمنع جمهور المعاصرين من أهل السنة كابن باز والألباني وغيرهم، من أن يستفيدوا من هذه العاطفة الجياشة في مواطنها الصحيحة مع إنكارهم على مواطن الغلو، ومعظمهم يُحسِن الظن بالأستاذ سيد قطب فيها.
هل سمعت عن البهائية؟
قوم يؤمنون بنبوة رجل كاذب مارق، ويدعون أنه أرسل بعد محمد -صلى الله عليه وسلم- رغم قوله -تعالى-: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(الأحزاب:40).
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا نبي بعدي) متفق عليه، بل بلغت الجرأة والوقاحة بنبيهم المزعوم أن ادعى الإلهية؛ وزعم أنه بهاء الله في الأرض.
هل من عاقل يصدق هذه الأكاذيب؟
نعم وجد من العقلاء من صدقها،
يا للعجب!!
ولكن عجبك سيزول؛ إذا علمت أن من أوائل أتباع هذا الكذاب امرأة جميلة فاجرة، بذلت نفسها رخيصة لأتباعه، وادعت أنه جاء بنسخ تحريم الزنا المحرم، لا في شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- فحسب، بل في شرائع الأنبياء كافة، فلما نادت بهذا وطبقته عملياً تبعها على ذلك أقوام باعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل.
وما زال طواغيت هذا الدين ينشرونه بهذه الوسائل المنتنة، بل لما أراد بعضهم أن يتجمل ويدعي الإبقاء على حرمة الزنا جعل كفارة ذلك، صدقة إلى كعبتهم المزعومة -"بيت العدل"- في مدينة "حيفا" بفلسطين المحتلة.
وما أصدق ما قاله بعض السلف: "المعاصي بريد الكفر".
وما أصدق ما قاله الأخر: "الذنوب جراحات ورب جرح وقع على مقتل".
نسأل الله أن يهدينا إلى الحق وإلى سواء السبيل.