مكاتبة الملوك

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : سامح قنديل | المصدر : www.quranway.net

 

ما من شك في أن صلح الحديبية كان كسباً سياسياً عظيماً للمسلمين، إذ أن دخول قريش في عهد جديد مع المسلمين يمثل اعترافاً منها بالدين الجديد ودولته الفتيه، بل لقد خسرت قريش زعامتها الوثنية، إذ كان من بنود المعاهدة أن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدها دخل فيه، مما أ
تاح الفرصة لكثير من قبائل العرب أن تكون في حل من الإنتماء لزعامة قريش ، والإرتباط بمصيرها ، ومن ثم سارغت خزاعة بالإنضمام للمسلمين ، ثم تتابعت بعدها غيرها من قبائل العرب إما رغبة وإما رهبة، مما أضعف مركز قريش السياسي والحربي معاً !.
لقد كان من ثمرات هذا الصلح ـ الذي سماه الله فتحاً ـ أن أتاح للمسلمين الفرصة لتوسيع نطاق الدعوة  إلى الإسلام، داخل الجزيرة العربية وخارجها مما يؤكد عالمية هذه الدعوة ، وأن رسولها مبعوث إلى الناس كافة لا إلى قوم بأعيانهم، وأن رسالته عامة لكل زمان وكان ، ليس لها اختصاص بعنصرية أو قبلية او قومية معينة ، وقد كانت الآيات المكية الأولى ، التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أن كان المسلمون قلة مستضعفين في مكة تؤكد نفس المعنى{ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ {27} لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ }[التكوير:27-28] ، { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً }[الأعراف:158] ، { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }[الأنبياء:107].
لذلك سارع النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد رجوع المسلمين من الحديبية ، إلى مكاتبة ملوك الأرض ورؤسائها وزعمائها على اختلاف دياناتهم وتنوع انتماءاتهم ، يدعوهم إلى الإسلام وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قادر على إرسال الرسل إلى هؤلاء الملوك والرؤساء قبل هذا التاريخ بكثير ، خاصة وهو يعلم منذ بعث أنه مرسل إلى الناس كافة، وأن هذا الدين سيبلغ ما بلغ الليل والنهار من أرجاء المعمورة ، غير أن حكمته الدعوية وبصيرته التربوية ، جعلته يتريث حتى يحكم تربية الجيل القدوة ، الذي تأصل فيه المنهج الرباني فأصبح قادراً على تنفيذ أصعب المهمات في أحلك اللحظات ، كما كان من الحكمة أيضاً التريث حتى تضعف شوكة الوثنية متمثلة في زعامتها القرشية ، وتنكسر أجنحة المكر الداخلية متمثلة في اليهود والمنافقين ، فإذا أضيف إلى هذا استغلال الأجواء السليمة التي أتاحتها معاهدة الصلح ظهر أن توقيت النبي صلى الله عليه وسلم الذي اختاره الله له لمكاتبة ملوك ورؤساء الدنيا كان في غاية الحكمة ، وكأنه يعلمنا درساً في ترتيب الأولويات.
وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل رسله إلى بلاد الدنيا بدعوة الإسلام .
 روى مسلم من حديث أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله عز وجل.
إن توسيع ميدان الدعوة بحيث تشمل المعروف المعمور من أرض الله يومئذ ، أمر يثير التأمل، لقد كان العرب يستكثرون النبوة على واحد منهم ، ويوسعونه جحوداً وكنوداً  { وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً }[الفرقان:41] فما يكون شأن الروم والعجم، وهم يرون العرب دونهم منزلة وحضارة وثقافة وسياسة ؟! ألا يكونون أسرع إلى السخرية وأدنى إلى الكفران ؟! بيد أن أصحاب الرسالات لا ينظرون إلى الأمور على ضوء الحاضر الضيق المنكور، فإن ثقتهم العميقة في سيادة شريعتهم وامتداد نطاقها ، تصغر العقبات المفروضة في الطريق، وتجعلها ـ ولو كان الشمُّ الرواسي ـ هباء منثوراً.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يكتب إلى الروم قيل له: إنهم لن يقرؤوا كتابك إذا لم يكن مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضة ونقشه: محمد رسول الله ، مما يدل على مرونة السياسة الإسلامية في الإفادة من الوسائل والرسوم المعاصرة مادامت لا تتعارض مع أحكام الشريعة وروحها العامة. كما حرص النبي صلى الله عليه وسلم على اختيار سفراءه من أعقل أصحابه، وأجملهم صورة وأحسنهم حديثاً ، وأطبقهم لساناً وقوة وحجة، وأسرعهم بديهة، حتى يكون لكلامهم أجمل وقع، ويبلغوا رسالتهم على أحسن وجه، وكان مع هذا يوصيهم بما يمهد لهم الوصول إلى قلوب الناس والتأثير في نفوسهم كما قال لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن: " ادعوا الناس وبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا ".
ومن أمثلة كتابات النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك ما كتبه إلى هرقل قيصر الروم، وأرسل به دحية بن خليفة الكلبى رضي الله عنه ونص كتابه كما في الصحيحين: " بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد بن عبد الله ورسوله ، إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ،أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، ويؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فعليك إثم الأريسيين ".{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }[آل عمران:64] ، وعندما قرأ قيصر كتاب النبي صلى الله عليه وسلم بحث عمن يعرفه من قومه فجئ إليه بأبي سفيان الذي اتفق خروجه في تجارة إلى الشام مع رجال من قريش، وكان على كفره، فحاوره هرقل كما في حديث الصحيحين الطويل، واستنتج من محاورته أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي ، وقال لأبي سفيان : فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موقع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاؤه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه ! إلا أنه شح بالملك وطلب الرئاسة، وآثرهما على الإسلام، فلم يرد الله به خيراً، وما أكثر ما صدت الرئاسة والملك عن سبيل الله ! ، كما أشار البخاري إلى إرسال كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة السهمي، وقد مزق كسرى كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا عليه صلى الله عليه وسلم أن يمزق الله ملكه، فقتله ابنه واستولى على عرشه، وتمزقت الإمبراطورية الفارسية ثم زالت من الوجود.
وكما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سفراءه إلى عظيم الفرس والروم ، أرسل كذلك  إلى نجاشي الحبشة ومقوقس مصر وإلى عظماء البحرين وعمان واليمن واليمامة وغيرهم كثير ممن كاتبه النبي صلى الله عليه وسلم وعرض عليه دعوة الإسلام، فمنهم من قبلها ومنهم من توقف ورد رداً جميلاً، وشذ بعضهم وبالغ في حماقته ككسرى الذي عاجله الله بزوال ملكه لما مزق رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كانت رسائل رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها تأكيداً لمعنى التوحيد وإبرازا لشهادة لا إله إلا الله في عصر طغت فيه الربوبيات الزائفة، واتخذ الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، ولم يداهن النبي صلى الله عليه وسلم في طرح هذا الشعار أمام حكام العالم ،كما لم يداهن أصحاب الوثنية العربية منذ اللحظة الأولى، مما يؤكد أن أصول المنهج لا تقبل المساومة ولا يجدى فيها أنصاف الحلول، فكلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة. { أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }[آل عمران:64].
وقد كان من أعظم مكاسب هذه المكاتبات المختلفة والسفارات المتعددة أنها شكلت حملة إعلامية على النطاق الدولى تؤكد أن هذا الدين عالمي ، جاء لهداية الإنسان أينما كان ، وأن جيوشه توشك أن تنتشر في مشارق الأرض ومغاربها لتخرج الناس من عبادة العباد لعبادة رب العباد، ومن جور الحكام إلى عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
ولم ينسى المسلمون في غمرة تلك الانتصارات السياسية والدعوية المتلاحقة ، موعد عمرة القضاء التي حلت في ذى القعدة من السنة السابعة كما تنص بنود الصلح المبارك، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألفين من أصحابه في عزة وثبات ، ومشى عبد الله بن رواحة بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينشد:
 
خلوا بني الكفار عن سبيلـه            اليوم نضربكم على تنزيله
ضرباً يزيل الهمام عن مقيله            ويذهل الخليل عن خليلـه