كان صلح الحديبية فتحاً للمسلمين ، مكنهم من التفرغ لنشر الدعوة ، وعرض تعاليم الإسلام على جميع طوائف الدنيا التي أمكنهم الوصول إليها ، تأكيداً لعالمية الدعوة ، وتثبيتاً لدعائم الحق، قال تعالى : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }[التوبة:33] ، ومع مرور الأيام بدأت قريش تزداد يقيناً بأن شروط صلح الحديبية لم تكن في صالحها لأنها لا تزيدها إلا عزلة عن العالم الخارجي ، ولا تجلب لها إلا المتاعب والمثالب ، بينما يسعى المسلمون إلى غايتهم يوماً بعد يوم ، وتتسع رقعتهم، ويعلوا نجمهم، مما ملأ قلوب قريش حقداً وضغينة على الإسلام وأهله . وقد قادها هذا الحقد إلى خطأ فادح جعلها كالساعي إلى حتفه بظلفه ، والجادع مارن أنفه بكفه ! ذلك أن بنود معاهدة الصلح كانت تقضي بأن من شاء أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل، ومن شاء أن يدخل في عقد قريش وعهدها دخل، فدخلت خزاعة في عقد المسلمين، ودخلت بنو بكر ـ أعداء خزاعة الألداء ـ في عقد قريش، وكان بين بكر وخزاعة عداوات ودماء في الجاهلية كَمُنْت نارها بظهور الإسلام ، وبعد سنة ونصف فقط من معاهدة الحديبية ، اعتدت بكر على خزاعة فقتلت منها رجالا ، وأمدت قريش بكراً بالمال والسلاح والرجال ، مما كان نقضاً صريحاً لمعاهدة قريش مع المسلمين ، وسرعان ما استنجدت خزاعة بالمسلمين، وقدم عمرو بن سالم الخزاعي إلى المدينة، وأنشد أبياتاً يستنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (نصرت يا عمرو بن سالم !) وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتجهيز للغزو ، ولم يعلمهم بوجهته ، حرصاً على السرية التامة لئلا تستعد قريش للقتال ، واستنفر القبائل التي حول المدينة : أسلم، وغفار، ومزينة، وجهينة، وأشجع، وسليم، فمنهم من وافاه بالمدينة ومنهم من لحقه بالطريق، ولم يتخلف من المهاجرين والأنصار أحد ، وبلغ عدد الجيش عشرة آلاف مقاتل ، وهذا العدد يدل على تضاعف قوة المسلمين في هذه الثمانية عشر شهراً التي مضت من المعاهدة. وكان حرص النبي صلى الله عليه وسلم على مباغتة قريش ، لئلا تتجهز وتستعد ، فتستباح حرمة البلد الحرام ، وتمتلئ بأشلاء القتلى ودماء الأرحام ، لكن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وهو صحابي بدري ، أرسل كتابا إلى قريش يخبرها بأن المسلمين عازمون على غزوها ، وجعل الكتاب مع امرأة توصله إلى أناس بمكة من المشركين ، فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالخبر ، وهذا من علامات النبوة ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم علياً والزبير والمقداد وقال لهم : ( انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها ) ! ولما وصلوا للمرأة أنكرت أن معها كتاباً ، قالوا لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب ! فلما هددوها أخرجته ، فرجعوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : يا حاطب ما هذا ؟ فأخبره أنه لم يفعل هذه الزلة ارتداداً على الإسلام ولا رضا بالكفر بعد الإيمان ، وإنما أراد أن تكون له يد عند المشركين تحمى قرابته بمكة إذ لم يكن له فيهم أصل ولا عشيرة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما إنه صدقكم ! فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ! فقال : إنه قد شهد بدراً ، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدراً فقال : اعملوا ما شئتم . فقد غفرت لكم !) فأنزل الله سورة الممتحنة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ }[ الممتحنة:1] فمنع الله موالاة الكفار وصداقتهم ، وأكد على وجوب عداوتهم ومصارمتهم. وخرج النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين من المدينة في العاشر من رمضان من السنة الثامنة للهجرة ، وكانوا صياما حتى بلغوا كديداً ـ قرب مكة ـ فأفطر النبي صلى الله عليه وسلم وأفطر الناس دفعاً للمشقة واستعمالاً للرخصة ، وفي الطريق إلى مكة قدم العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً، وكان قد أسلم قبل فتح خبير، وكان عين رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة يخبره أخبارها، كما كان ملاذاً للمسلمين المستضعفين بمكة ، وقد فرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومه ، وتجمعت جيوش المسلمين بمر الظهران ، ولم تكن أنباؤهم قد وصلت قريشاً التي أرسلت أبا سفيان وحكيم بن حزام وبُديْل بن ورقاء ليتحسسوا أخبار المسلمين، فلقيهم العباس راكباً بغلة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يريد أن يرسل إلى قريش رسولاً يطلب منهم الخروج لمصالحة النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء العباس بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا ، وأسلم أبو سفيان بعد تردد منه ، وملاطفة من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم العباس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادى حتى يستعرض قوات المسلمين ، وتمر به جنود الله فيراها ، فلا تبقى في نفسه أثارة لمقاومة ، وهو سيد مكة المتبوع ، فجعل أبو سفيان يسأل العباس كلما مرت كتيبة : من هؤلاء ؟ ويعرفُه العباس بهم . حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء وفيها المهاجرون والأنصار فقال : أبو سفيان : سبحان الله يا عباس ! من هؤلاء ؟ قال : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار فقال أبو سفيان : ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة ! والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيماً ! فقال العباس : ويحك يا أبا سفيان إنها النبوة ! قال : فنعمَ إذا !. ومضى أبو سفيان إلى مكة فأخبر قريشاً بقوة المسلمين ونهاهم عن المقاومة ، وذكر لهم الأمان الذي أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم لقريش ؛ أن من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، فانصرف الناس إلى بيوتهم أو تجمعوا في المسجد الحرام ينتظرون ما يفعل بهم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر قادة جيشه ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم ، فلقى خالد بن الوليد وكتيبته الذين دخلوا مكة من أسفلها بعض المقاومة ممن غاظهم استسلام قريش بلا مقاومة، فقتل منهم رجالاً، وفر الباقون ودخلت بقية الكتائب من أنحاء مكة دون مقاومة ، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة من أعلاها خاشعاً لله شاكراً لنعمته متذللاً بين يديه ، يقرأ سورة الفتح ويرجع في قراءته، وجعل يطوف بالبيت، ويحطم الأصنام، ويطهر منها البيت الحرام فتتهاوى صنماً صنماً . وهو يقول : (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً) ، { قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ }[سبأ:49] ، وكانت ستين وثلاثمائة من الأصنام، ثم أقبل على أهل مكة الذين تجمع أكثرهم في المسجد الحرام ينتظرون الجزاء، ويرقبون القضاء، فعمهم بعفوه الكريم، وامتن عليهم بقلبه الرحيم، رغم إيذائهم له ووقوفهم في وجه دعوته ، ورغم قدرته على إبادتهم ، فبأبي هو وأمي ما أرحمه وما أحلمه ، وما أكرمه وما أعظمه ، ثم اجتمع الناس حول الصفا ليبايعوه ، فبايع الرجال ثم النساء ، وكانت بيعته لهن كلاماً ، ولا والله ما مست يده صلى الله عليه وسلم يد امرأة لا تحل له ، مع كمال عفته وطيب نيته ووضوح خصوصيته ، ومنزلة عصمته. ولما طهرت الكعبة من الأصنام دخلها وصلى فيها ركعتين، وعلا بلال فوق ظهر الكعبة فأذن للصلاة ، منادياً بسقوط الشركاء وتحطيم الأنداد، وأنه لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم جعل رسول الله يخطب في الناس، يعلمهم مما علمه الله وجهلوه من أحكام الشريعة الغراء. ولما اطمأن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفتح، جعل يبث سراياه لتحطيم الأصنام الأخرى خارج مكة، فأرسل خالد بن الوليد إلى بطن نخلة ليهدم العُزَّى، أكبر صنم لقريش ، فتوجه إليها في ثلاثين من أصحابه وتم هدمها. ثم أرسل عمرو بن العاص لهدم سواع ، وهو أعظم صنم لهزيل ، ثم أرسل سعد بن زيد في عشرين فارساً لهدم مناة وهي صنم لكلب وخزاعة. وبفتح مكة سيطر المسلمون على الموقف السياسي والدينى كليهما معاً ، في طول جزيرة العرب وعرضها ، فقد انتقلت إليهم الصدارة الدينية والزعامة الدنيوية ، وتم لهم السيطرة على الموقف تماماً . ولم يبق لأقوام العرب إلا أن يفدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعتنقوا الإسلام ، ويحملوا دعوته إلى العالم ، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله . ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم : { وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }[الروم:6]