دروس من حنين

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : سامح قنديل | المصدر : www.quranway.net

استفاد المسلمون من غزوة حنين دروساً وعبراً يجدر بدعاة الحق وجنوده أن يقفوا عندها طويلاً، وليتهم يقارنون بين حال المسلمين يومها من القوة والعزة والمنعة والاستعداد، وبين حالهم يوم بدر من القلة والضعف والذلة وغياب الأسباب حتى يقفوا على عوامل النصر وأسباب الهزيمة، وحتى يدركوا أثر الإيمان والثبات والصبر واليقين، فلم يكن المسلمون في يوم أقل عدداً منهم في بدر، ولا أقل أسباباً، وماذا يفعل ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ما معهم فرسان في معركة مصيرية، ما غلب على ظنهم أن يكون فيها قتال حتى يأخذوا أهبتهم، ومع ذلك فلم تضرهم القلة شيئاً بسبب صدق إسلامهم ونضج إيمانهم، وشدة ولائهم لدينهم ولربهم ونبيهم صلى الله عليه وسلم، كما لم يكن المسلمون في يوم أكثر عدداً منهم في يوم حنين، ولا أكثر أسباباً. كانوا اثنى عشر ألفا معهم السلاح، حتى قال قائلهم: لن نهزم اليوم من قلة! ومع ذلك لم تنفعهم الكثرة شيئاً بسبب تلك الجماهير التي لم يتمكن الإيمان بعد في نفوسهم، ولم تتغلغل معاني التضحية والفداء في قلوبهم، فانقلبوا هاربين:

ألا ما أظهر الدرس لمن كان عقل       ما أبين الصبح لمن فيه مُقل!

لقد لخص القرآن العبرة في آيتين جلى بهما حقيقة الموقف، وبين أسباب النصر وعوامل الهزيمة: قال في بدر: { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }(1)، وقال في حنين: { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً }(2)، ورجع النبي صلى الله عليه وسلم بعد رفع الحصار عن الطائف إلى الجعرانة حيث جمعت غنائم حنين الهائلة التي غنمها المسلمون، وجعل يتأنى وينتظر رجاء أن تأتي إليه هوزان تائبين مسلمين فيرد عليهم أموالهم، ومكث ينتظرهم  بضع عشرة ليلة، فلما لم يأت أحد منهم، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم شدة تطلع الأعراب والطلقاء من حدثاء العهد بالإسلام من أهل مكة إلى الغنيمة، بدأ يوزع الغنائم، وقد سلك النبي صلى الله عليه وسلم في توزيع الغنائم مسلكاً هو الغاية في الحكمة، وإن خفي ذلك على بعض أصحابه فقد جعل يعالج نقص الإيمان في قلوب الأعراب وحدثاء العهد بالإسلام بالأعطيات الوفيرة التي أغدقها عليهم يتألفهم بها، وكأنه يستميلهم بذلك، ويشتري ولاءهم للإسلام ، ويزرع في قلوبهم محبة الله ورسوله.
لقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم بحكمته أن أقواماً كثيرين يقادون إلى الحق من بطونهم وجيوبهم، لا من عقولهم وقلوبهم، فجعل يعطي مائة من الإبل لكل زعيم من زعماء قريش كأبي سفيان، وحكيم بن حزام، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والعباس بن مرداس، وعلقمة بن علاثة، ومثل ذلك أعطى الأقرع بن حابس التيمي، وعيينة بن حصن الفزارى، وغيرهم كثير من رؤساء القبائل وأشراف العرب وفوارسهم، حتى أظهروا الرضا، وازدادت رغبتهم في الإسلام، ومحبتهم للإيمان، وحسنت مواقفهم بعد ذلك وأبلوا بلاءً حسناً، وقال أنس بن مالك: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها، وهذا رجل من المؤلفة يخبر عن نفسه، يقول صفوان بن أمية: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلىّ! فما برح يعطينى حتى إنه لأحب الناس إلىّ!
لقد وسع النبي صلى الله عليه وسلم بحلمه وكرمه هؤلاء الذين فروا بالأمس عند الجزع، وهاهم اليوم يقبلون عند الطمع، يتسابقون إليه، ويزدحمون عليه تكاد أعينهم تخرج من المحاجر تطلعاً إلى الدنيا، حتى ألجئوه إلى شجرة فانتزعت رداءه فقال: ( أيها الناس، ردوا على ردائي، فوالذي نفسي بيده، لو كان عندي عدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلاَ ولا جبانا ولا كذاباً ) وقد بلغ من حلمه صلى الله عليه وسلم وصبره على جفاء الأعراب المتطلعة نفوسهم إلى الدنيا أن جذبه أحدهم جذبة شديدة أثرت في عاتقه لخشونه البْرد الذي كان عليه، ثم قال يا محمد مر من مال الله الذي عندك! فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم وضحك، ثم أمر له بعطاء، وأعجب من هذا وذاك مقالة ذلك الأعرابي الذي لم تتضح له الحكمة من توزيع النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم على هذا النحو فقال: اعدل يا محمد ! فما زاد النبي صلى الله عليه وسلم على أن قال له: ( ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل! لقد خبت وخسرت إذا لم أكن أعدل)، ويستأذن عمر النبي صلى الله عليه وسلم في ضرب عنقه، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي! فما أصبره وأحلمه، وما أحكمه.
وكان من حسن سياسته صلى الله عليه وسلم وطيب معشره أن جعل يسترضى أصحابه، ويبين لهم الحكمة من إعطاء المؤلفة هذه العطايا الباهظة دون استحقاق، فقال لهم : ( إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلى منه، مخافة أن يكبه الله في النار ) ويقول لهم أيضاً : ( إني لأعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقواماً إلى ما جعله الله في قلوبهم من الغنى و الخير ) وكانت الأنصار قد نالهم ما لم ينل غيرهم من هذه السياسة، فقد حرموا جميعاً رغم حسن بلائهم ، في الوقت الذي فر فيه هؤلاء الذين يرجعون الآن بالغنائم، فكان الأنصار وجدوا في أنفسهم، وقال قائلهم: يعطى قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم! فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فجمعهم ليسترضيهم، ويطلعهم على الحكمة التي غابت عنهم من تصرفه مع المؤلفة، وقال: ( أوجدتم في نفوسكم يا معشر الأنصار في لُقاعة من الدنيا تألفت بها قوماً أسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام ؟ أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم ؟ فوالذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شعبا لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، اللهم أرحم الأنصار وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار ) فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً.
إن مقارنة عجلى بين الأنصار وبين المؤلفة من الأعراب و الطلقاء تؤكد لنا أهمية التربية الجادة وخطورتها، إن الأنصار قوم تمكنت التربية من قلوبهم، فهانت عليهم الدنيا، وصار البذل و العطاء والتضحية والفداء لنصرة هذا الدين أحب شيء إليهم، ألم تقم بدر وأحد وما بعدهما على أكتافهم وكانوا أكثر وقودها، ومازالوا صابرين ؟ ألم يفر الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ولم تغن عنهم كثرتهم، فكان نداء العباس للأنصار مفتاح النصر وتحول الهزيمة إلى فتح مبين، إن مائة تربوا تربية جادة، استطاعوا أن يحولوا الهزيمة إلى نصر كبير وثبتوا أمام عشرين ألفا من أعدائهم، بينما لم يستطع هذا آلاف من الأعراب والطلقاء  ممن لم يأخذ بعد حظه من التربية الجادة، وداخله من حب الدنيا وزخرفها ما أقعده عن هذه الهمم وتلكم الطموحات!.
وبعد قسمة الغنائم، قدم وفد هوزان يعلن إسلامهم، ويطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم الأموال والسبي، فخيرهم بين المال والسبي فاختاروا السبي، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم في المؤمنين، إن إخوانكم هؤلاء جاءوا تائبين وإني أردت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من اول ما يفئ الله علينا فليفعل، فطيب الناس وأذنوا، وقد فرح النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام هوزان، وسأل عن مالك بن عوف زعيمها، فأخبروه إنه بالطائف مع ثقيف، فوعدهم برد أمواله إن جاء مسلماً، وأن يكرمه بمائة من الإبل كما فعل مع المؤلفة، فجاء وأسلم وحسن إسلامه، ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قسمة الغنائم بالجعرانة أهل معتمراً منها فأدى العمرة، ثم انصرف راجعاً إلى المدينة، وهاهو ذا بعد ثمانية أعوام يدخل المدينة التي استقبلته مهاجراً خائفاً لتستقبله مرة أخرى وقد دانت له مكة، وألقت تحت قدميه كبرياءها وجاهليتها، فأنهضها ليعزها بالإسلام وعفا عن خطيئتها الأولى: { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ }[يوسف:90].