اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- أحد ركائز دين الإسلام وأساسياته، ومن مُسلمات الشريعة والأمور المعلومة منها بالضرورة، وقد استفاضت النصوص الشرعية الصحيحة في بيان ذلك والتأكيد عليه، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7]، وقوله -عز وجل-: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴿80﴾﴾ [النساء: 80]، إلا أن ذلك لم يمنع انحراف طوائف من المسلمين عن سلوك الجادة فيه ولزوم الطريق السوي، حيث اضطربت فيه أفهام وزلت أقدام؛ مما جعل الحاجة لإيضاحه تعظم، والبيان يتوجب ، ولذا: فسأحاول في هذه الدراسة التعريج عليه لإظهار حقيقته وحكمه، وتجلية منزلته وشيء من مظاهره، وبيان السبل المعينة على فعله وبعض عوائقه، راجيا من ربي الغفور أن يوفق للخير ويصلح القصد، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير. الاتباع في اللغة: مصدر اتبع الشيء إذا سار في أثره وتلاه، والكلمة تدور حول معاني اللحاق والتطلب والاقتفاء والاقتداء والتأسي. يقال: اتبع القرآن: ائتم به وعمل بما فيه، واتبع الرسول -صلى الله عليه وسلم-: اقتدى به واقتفى أثره وتأسى به [1]. الاتباع في الشرع: هو الاقتداء والتأسي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في الاعتقادات والأقوال والأفعال والتروك، يعمل مثل عمله ، على الوجه الذي عمله -صلى الله عليه وسلم- من إيجاب أو ندب أو إباحة أو كراهة أو حظر، مع توفر القصد والإرادة في ذلك. - ويكون الاتباع للنبي -صلى الله عليه وسلم- في الاعتقادات: بأن يعتقد العبد ما اعتقده النبي -صلى الله عليه وسلم-، على الوجه الذي اعتقده، من ناحية الوجوب أو البدعة، أو لكونه من أسس الدين أو ناقضًا لأصله أو قادحًا في كماله... إلخ. من أجل أنه اعتقده -صلى الله عليه وسلم-. - ويكون الاتباع للنبي -صلى الله عليه وسلم- في الأقوال: بامتثال مدلولها، وما جاءت به من معاني، لا أن تكرر ألفاظها وتردد نصوصها فحسب، فمثلاً: الاتباع لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (صلوا كما رأيتموني أصلي) [2] يكون بالصلاة كصلاته، والاتباع لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تحاسدوا ولا تناجشو) [3] بترك الحسد والنجش، والاتباع لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (من سئل عن علم عَلِمه ثم كتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار) [4] ينشر الإنسان لعلمه الصحيح النافع وعدم كتمانه له. - كما يكون الاتباع للنبي -صلى الله عليه وسلم- في الأفعال: بأن تفعل مثل فعله، على الوجه الذي فعله، من أجل أنه فعله. فقولنا: « مثل فعله »؛ لأنهه لا تأسي مع اختلاف صورة الفعل وكيفيته. وقولنا: « على الوجه الذي فعله »: معناه المشاركة في غرض ذلك الفعل ونيته -إخلاصاً، وتحديداً للفعل من حيث كونه واجباً أو مندوباً ؛ لأنه لا تأسي مع اختلاف الغرض والنية، وإن اتحدت صورة الفعل. وقولنا: « من أجل أنه فعله »؛ لأنه لو اتحدت الصورة والقصد ولم يكن المراد التأسي والاقتداء فإنه لا يكون اتباعاً. ولتوضيح الاتباع في الفعل: لو أردنا أن نقتدي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في صومه فلابد أن نصوم على الصورة التي صامها -صلى الله عليه وسلم-، بحيث نمسك عن جميع المفطرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، بقصد التقرب إلى الله –تعالى- ، فلو أمسك أحدنا عن بعض المفطرات فقط لم يكن متبعاً، كما لو أمسك في جزء من الوقت فقط لم يكن متبعاً. كما لابد أن نصوم على الوجه الذي صامه -صلى الله عليه وسلم- من ناحية القصد بحيث نريد بصيامنا وجه الله –تعالى- وصيام الواجب أداءً أو قضاءً أو نذراً، أو النفل، كالقصد الذي صام لأجله -صلى الله عليه وسلم- [5]. كما لابد أن نصوم من أجل أنه صام -صلى الله عليه وسلم-؛ ولذا لا يعد الشخص متأسياً بشخص آخر غير النبي -صلى الله عليه وسلم- يشاركه في الصورة والقصد إذا كان كل منهما يعمل ذلك امتثالاً لأمر الله –تعالى- واتباعا لرسوله -صلى الله عليه وسلم-. - ويكون الاتباع للنبي -صلى الله عليه وسلم- في التروك: بأن ترك ما ترك ، على الصفة والوجه الذي ترك، من أجل أنه ترك، وهي القيود نفسها في الاتباع في الأفعال. ولتوضيح ذلك: قام النبي -صلى الله عليه وسلم- بترك الصلاة عند طلوع الشمس، فيترك المتأسي الصلاة في ذلك الوقت على الوجه الذي ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- ، لأجل أنه ترك [6]. المخالفة ضد الاتباع: ضد الاتباع المخالفة، وتكون في الاعتقاد والقول والفعل والترك. أما المخالفة في الاعتقاد فتكون بأن يعتقد العبد خلاف ما اعتقده النبي -صلى الله عليه وسلم-، كأنٍ يستحل إنسان ما عُلم بالضرورة تحريمه من دين الإسلام، أو يوجب ما علم بالضرورة حله أو تحريمه من دين الإسلام، ومثل أن يبتدع عبد في دين الله –تعالى- ما ليس منه، ومثل أن يعتقد أحد بأن للمخالفين لشرع الله –تعالى- وما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- هم أولياء الله وأحبته. والمخالفة في القول تكون بترك امتثال ما اقتضاه القول ودل عليه من وجوب أو حظر. والمخالفة في الفعل تكون بالعدول عن مثله مع كونه واجباً. وللمخالفة في الترك تكون بفعل ما ترك مع كونه محرماً. ولا تكون للمخالفة في ترك المندوب وفعل المكروه، بل لا تكون إلا في ترك الواجب وفعل المحرم، سواء أكانت مخالفة في القول أم الفعل أم الترك [7]. علاقة الاتباع بالزمان والمكان: لا علاقة للزمان المخصص أو المكان المخصص بالفعل لمجرد وقوعه فيه إلا بدليل خارجي عن ذلك الفعل، فإن خصص المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لنا بذلك الدليل الخارجي لذلك الفعل زماناً أو مكانا خصصناه به، كتخصيص الطواف بالكعبة، والاستلام بالحجر الأسود والركن اليماني مع اختلاف في الصفة، والصيام الواجب بشهر رمضان، والوقوف بعرفات في اليوم التاسع من ذي الحجة، وعيدي الفطر والأضحى بوقتهما المعروف. وأما ما فعله بحكم الاتفاق والمصادفة، ولم يقصده لذاته، فلا تشرع فيه المتابعة ولو تكرر ذلك، مثل: أن ينزل بمكان، ويصلي فيه لكونه نزل فيه، لا قصدًا لتخصيصه بالصلاة والنزول فيه، فإذا قصدنا تخصيص ذلك المكان بالصلاة فيه أو النزول لم نكن متبعين على الأصوب، وقد ورد نهي الفاروق عمر -رضي الله عنه- حين رأى الناس في سفر يتبادرون إلى مكان فسأل عن ذلك، فقالوا: قد صلى فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- ، فقال: « إنما هلك أهل الكتاب أنهم اتبعوا آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعاً، فمن عرضت له الصلاة [أي: في موضع صلاته -صلى الله عليه وسلم-]، فليصل أو فَلْلَمضِ » [8]، وفي رواية أنه قال: « من أدركته الصلاة في شيء من هذه المساجد التي صلى فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليصل فيها وإلا فلا يتعمدها » [9]، وتؤكد هذا المعنى أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- فتقول: (نزول الأبطح ليس بسنة، إنما نزله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأنه كان أسمح لخروجه إذا خرج) [10]. وقد قرر كثير من أهل العلم هذا المعنى: كابن تيمية في الفتاوى [11]، والآمدي في إحكامه حيث قال: « ... فلو وقع فعله في مكان أو زمان مخصوص فلا مدخل له في المتابعة والتأسي، وسواء تكرر أو لم يتكرر، إلا أن يدل الدليل على اختصاص العبادة به، كاختصاص الحج بعرفات، واختصاص الصلوات بأوقاتها، وصوم رمضان » [12]. الأفعال النبوية من حيث الاتباع والتأسي: تنقسم أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- من حيث الاتباع والتأسي إلى ثلاثة أقسام هي: 1- الأفعال الجبلية: كالقيام والقعود والشرب والنوم ونحو ذلك، وهي نوعان من جهة التأسي والاتباع: نوع جاء النص الخارجي عن الفعل بإيجابه أو ندبه، كالأكل باليمين، والشرب ثلاثاً وقاعدًا، والنوم على الشق الأيمن، فهذا يشرع التأسي والاقتداء به في ذلك. ونوع لم يأت نص دل على مشروعيته، وهو باق على الأصل من حيث الإباحة للجميع؛ وذلك لأن «الأوصاف التي يطبع عليها الإنسان كالشهوة إلى الطعام والشراب لا يطلب برفعها ولابإزالة ما غرز في الجبلة منها » [13]. وهذا النوع محل خلاف بين أهل العلم في مشروعية التأسي والاقتداء به -صلى الله عليه وسلم- فيه على جهة الندب على قولين: أ- أن التأسي والاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا النوع مندوب، وقد كان ابن عمر -رضي الله عنه- يفعل مثل ذلك وإن كان قد فعله -صلى الله عليه وسلم- اتفاقا ولم يقصده. ب- أنه لا يشرع التأسي والاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ،وهذا قول جمهور الصحابة -رضي الله عنهم- وفعلهم، ومنهم الفاروق وعائشة -رضي الله عنهما- كما في كلاهمهما المتقدم [14]. ويلحق بالأفعال الجبلية: الأفعال التي فعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- بمقتضى العرف والعادة كلبس الجبة والعمامة وإطالة الشعر ونحو ذلك؛ إذ لا تدل على الأظهر على غير الإباحة إلا إذا ورد دليل على مشروعيتها [15]. 2- الأفعال التي علم أنها من خصائص -صلى الله عليه وسلم-: ذكر أهل العلم في باب خصائصه -صلى الله عليه وسلم- أمورًا من المباحات والواجبات والمحرمات، بعضها متفق على حكمه بالنسبة له -صلى الله عليه وسلم-، وبعضها الآخر فيه خلاف ليس المقام مقام تحريرها... فمن المباح له: الزيادة على أربع نسوة في النكاح، والنكاح بلا مهر، ونكاح الواهبة نفسها، ومن الواجب عليه: وجوب التهجد وقيام الليل، ومن المحرم عليه: الأكل من الصدقة، وأكل ذي الرائحة الخبيثة كالثوم والبصل. فهذه خصائص لا يشاركه فيها أحد ولا يُقتدى ويتأسى به فيها [16]؛ قال الشوكاني: « والحق أنه لا يُقتدى به -صلى الله عليه وسلم- فيما صرح لنا بأنه خاص به كأئنا ما كان إلا بشرع يخصنا » [17]. ويلحق بهذا ويرجع إليه: ما خصَّ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعض أصحابه دون بعض، كشهادة خزيمة التي جعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- تعدل شهادة رجلين، وأضحية أبي بردة الذي ضحى بجذعة من المعز ، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- له: (اذبحها ولن تصلح لغيرك) [18]، كما يلحق به ما خص به -صلى الله عليه وسلم- أهل بيته -رضي الله عنهم- كالمنع من أكل الصدقة. 3- الأفعال التعبدية: وهي الأفعال غير الجبلية وغير الخاصة التي يقصد بها التشريع ، فهذه مطلوب الاقتداء والتأسي به -صلى الله عليه وسلم- فيها ، وهي الأصل في أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- لقوله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ …﴾ [الأحزاب: 21]، إلا أن صفتها الشرعية تختلف من حيث الإيجاب أو الندب بحسب القرائن. قواعد مهمة في الاتباع: لتقرير ما سبق حول مفهوم الاتباع وحقيقته أذكر القواعد التالية: أ- إن مبنى دين الإسلام على الوحي والنقل الصحيح لا العقل والاستنباط، فما جاءنا من أمر ونهي في كتاب الله –تعالى- أو سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وجب علينا قبوله والمبادرة إلى امتثاله فعلاً أو تركاً. ولذا كان السلف رحمهم الله يدورون مع النصوص حيث دارت ويحكمون على الرجل بأن على الطريق ما كان على الأثر [19]، قال الزهرى: « من الله الرسالة، وعلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- البلاغ، وعلينا التسليم » [20]. وقال ابن أبي العز شارحًا قول الطحاوي: « ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام: أي لا يثبت إسلام من لم يُسلم لنصوص الوحيين وينقاد إليها ولا يتعرض عليها ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه » [21]. وما أجمل مقولة الخليفة الراشد علي -رضي الله عنه- حين قال: « إياكم والاستنان بالرجال؛ فإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنة فيموت وهو من أهل الجنة، فإن كنتم لابد فاعلين فبالأموات لا بالأحياء. وأشار إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام » [22]. ومقولة أبي الزناد -رحمه الله- « إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيرًا على خلاف الرأي، فما يجد المسلمون بدا من اتباعها، من ذلك: أن الحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة » [23]. ب- يجب على المسلم البحث عن الحكم الشرعي والتثبت فيه قبل إتيان العمل في جميع شئون حياته لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) [24]، وتطبيق ذلك هو حقيقة الاتباع والتأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، يقول الشاطبي حول ذلك: «كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله باطل» [25]. ج- المراد باتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- العمل بكل ما جاء به من أوامر ونواهي في القرآن الكريم باعتباره وحيًا من الله –تعالى- إليه -صلى الله عليه وسلم-، والعمل بالسنة المطهرة؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) [26]، قال عطاء: « طاعة الرسول: اتباع الكتاب والسنَّة » [27]، وقال العلامة السعدي: « وإن ما جاء به الرسول يتعين على العباد الأخذ به واتباعه ولا تحل مخالفته، وإن نص الرسول على حكم كنص الله –تعالى- لا رخصة لأحد ولا عذر في تركه، ولا يجوز تقديم قول أحد على قوله » [28]. د- ما تركه النبي -صلى الله عليه وسلم- من جنس العبادات ولم يفعله مع وجود المقتضي لفعله على عهده -صلى الله عليه وسلم- ففعله بدعة، وتركه سنة، كالاحتفال بالمولد وإحياء ليلة الإسراء والمعراج، والهجرة، ورأس السنة، ونحوها، يدل لذلك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) [29]، يقول الإمام مالك -رحمه الله-: « فما لم يكن يومئذٍ دينا فلا يكون اليوم دينًا » [30]، ويقول ابن تيمية: « والترك الراتب سنة، كما أن الفعل الراتب سنة » [31] ويقول ابن كثير: « وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل أو قول لم يثبت عن الصحابة -رضي الله عنهم- هو بدعة؛ لأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه » [32]. هـ- كل ما يحتاجه الناس في أصول وفروعه، في أمور الدنيا والآخرة من العبادات والمعاملات في السلم أو الحرب، في السياسة أو الاقتصاد.. إلخ جاءت الشريعة ببيانه وإيضاحه؛ قال الله –تعالى-: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89] وقال سبحانه: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، وقال رجل من المشركين لسلمان الفارسي: قد علمكم نبيكم -صلى الله عليه وسلم- كل شيء حتى الخراءة، فقال: ( أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول... ) الحديث [33]. و- أن الاتباع لا يتحقق إلا إذا كان العمل موافقاً للشرع في ستة أمور، هي: 1- السبب: فإذا تعبد الإنسان لله تعالى بعبادة مقرونة بسبب ليس شرعياً فهي بدعة مردودة على صاحبها، مثل إحياء ليلة السابع والعشرين من رجب بالتهجد يدَّعون أنها ليلة الإسراء والمعراج [34] ، فالتهجد في أصله عبادة، لكن لما قرن بهذا السبب كان بدعة، لكونه بني على سبب لم يثبت شرعاً. 2- الجنس: فإذا تعبد الإنسان لله تعالى بعبادة لم يشرع جنسها فهي غير مقبولة، كالتضحية بفرس؛ لأن الأضاحي لا تكون إلا من جنس بهيمة الأنعام وهي الإبل - البقر - الغنم. 3- القدر: فلو أراد إنسان أن يزيد صلاة على أنها فريضة أو ركعة في فريضة، فعمله ذلك بدعة مردودة؛ لأنها مخالفة للشرع في المقدار أو العدد. 4- الكيفية: فلو نكس إنسان الوضوء أو الصلاة لما صح وضوؤه ولا صلاته ؛ لأن عمله مخالف للشرع في الكيفية. 5- الزمان: فلو ضحى إنسان في رجب، أو صام رمضان في شوال، أو وقف بعرفات في التاسع من ذي القعدة لما صح ذلك منه؛ لمخالفته للشرع في الزمان. 6- المكان: فلو اعتكف إنسان في منزله لا في المسجد ، أو وقف يوم التاسع من ذي الحجة بمزدلفة لما صح منه؛ لمخالفته للشرع في المكان [35]. ز- الأصل في العبادة بالنسبة للمكلف التعبد والامتثال دون الالتفات إلى الحكم والمعاني، وإن كانت ظاهرة في كثير منها، يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- مقررا ذلك: « يجب أن نعلم أن ما أمر الله به ورسوله، أو نهى الله عنه ورسوله فهو الحكمة، فعلينا أن نسلم، ونقول إذا سألنا أحد عن الحكمة في أمر من الأمور: إن الحكمة أمر الله ور سوله في المأمورات، ونهي الله ورسوله في المنهيات، ودليل ذلك من القرآن الكريم : قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 36]، وسئلت عائشة -رضي الله عنها- (ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاءالصيام ولا نؤمر بقضاء الصلاة) [36] فاستدلت بالسنة ولم تذكر العلة، وهذا هو حقيقة التسليم والعبادة، أن تكون مسلِّماً لأمر الله ورسوله عرفت حكمته أم لم تعرف، ولو كان الإنسان لا يؤمن بالشيء حتى يعرف حكمته لقلنا: إنك ممن اتبع هواه فلا تمتثل إلا حيث ظهر لك أن الامتثال خير » [37]. ولله در الفاروق عمر -رضي الله عنه- حين قال: « فيم الرَمَلان والكشف عن المناكب وقد أطَّأ الله الإسلام، ونفى الكفر وأهله؟ مع ذلك لا ندع شيئًا كنا نفعله على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- » [38]. ولا يفهم أحد مما سبق أن البحث عن الحكم والمعاني في العبادات التي دلت عليها القرائن ليس بمطلوب، كيف لا وقد ذكر الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- الشرك شيئًا من ذلك مثل قول الله تعالى: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ ، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله) [39]، ولكن المراد التحذير من التنطع في استخراجها، أو ربط القيام بالتنفيذ والعمل بمعرفتها، والأصل في العادات والمعاملات الالتفات إلى المعاني والبحث عن الحِكَم ، وإن كانت قد لا تظهر في أشياء منها [40]. ح- المشقة ليست مقصودة في الشريعة، ولذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للشيخ الذي نذر أن يمشي وكان يهادي بين ابنيه: (إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني)، وأمره أن يركب [41]، قال العز بن عبد السلام مقررًا ذلك: « لا يصح التقرب بالمشاق؛ لأن القرب كلها تعظيم للرب -سبحانه وتعالى- وليس عين المشاق تعظيمًا ولا توقيرًا » [42]، والمراد من العبد هو اجتناب النهي وامتثال الأمر بقدر الاستطاعة بدليل قوله -صلى الله عليه وسلم-: (فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ،وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) [43]، ومبنى الشريعة والأصل فيها: التيسير ورفع الحرج عن العباد؛ بدليل قول الله –تعالى- : ﴿ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ﴾ [المائدة: 6]، ولذا كان تفاوت الأجر والثواب مترتبًا على تفاوت رتب الأعمال ومقدار شرفها، عظمت المشقة أو قلت [44]. ولكن لا شك أن المشقة غير المقصودة التي تلحق المكلف بسبب أدائه للعمل المشروع تزيد في ثوابه، قال الله –تعالى-: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ﴾ [التوبة: 120]، وعن جابر -رضي الله عنه- قال: كانت ديارنا نائية عن المسجد فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقرب من المسجد فنهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (إن لكم بكل خطوة درجة) [45]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة حين قالت: (يا رسول الله، يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك؟: انتظري، فإذا طهرت فاخرجي إلى التنعيم فأهلي ثم ائتينا بمكان كذا، ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك) [46]. يقول العز بن عبد السلام في كلام له نفيس حول ذلك: « إن قيل : ما ضابط الفعل الشاق الذي يؤجر عليه أكثر مما يؤجر على الخفيف؟ قلت: إذا اتحد الفعلان في الشرف والشرائط والسند والأركان وكان أحدهما شاقًا فقد استويا في أجرهما؛ لاستوائهما في جميع الوظائف وانفرد أحدهما بتحمل المشقة لأجل الله –تعالى- فأثيب على تحمل المشقة لا على عين المشاق » [47]. منزلة الاتباع في الشريعة: للاتباع منزلة عظيمة في الشريعة الإسلامية، ويتضح ذلك من خلال ما يلي: 1- الاتباع شرط لقبول العبادات: لا قبول لعمل من الأعمال العبادية إلا بالاتباع والموافقة لما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-، بل إن الأعمال التي تُعمل بلا اتباع وتأس لا تزيد عاملها من الله إلا بعدًا؛ وذلك لأن الله تعالى إنما يعبد بأمره الذي بعث به رسوله -صلى الله عليه وسلم- لا بالآراء والأهواء ؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) ، قال الحسن البصري: « لا يصح القول إلا بعمل، ولا يصح قول وعمل إلا بنية، ولا يصح قول وعمل ونية إلا بالسنة » [48]، ويقول ابن رجب: « فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله –تعالى- فليس لعامله فيه ثواب؛ فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله فليس من الدين في شيء » [49]. 2- الاتباع أحد أصلي الإسلام الأساسيي: الإخلاص وإفراد الله بالعبادة هو حقيقة إيمان العبد وشهادته بأن لا إله إلا الله، والاتباع والتأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو حقيقة إيمان العبد وشهادته بأن محمداً رسول الله ، فلا يتحقق إسلام عبد ولا يقبل منه قول ولا عمل ولا اعتقاد إلا إذا حقق هذين الأصلين « الإخلاص - الاتباع »، وأتى بمقتضاهما؛ قال الله –تعالى-: ﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدً﴾ [ الكهف: 110]، ويقول ابن تيمية: « وبالجملة فمعنا أصلان عظيمان، أحدهما: ألا نعبد إلا الله، والثاني: الا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بعبادة مبتدعة، وهذان الأصلان هما تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله » [50]، ويقول ابن القيم: « فلا يكون العبد متحققًا بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ [الفاتحة: 5] إلا بأصلين عظيمين: أحدهما: متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والثاني: الإخلاص للمعبود » [51]. ويقول ابن أبي العز الحنفي: « فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسل، وتوحيد متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- » [52]. 3- الاتباع سبب لدخول الجنة: ويدل لذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: ( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) [53]، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾ [آل عمران: 106] « فأما الذين ابيضت وجوههم فأهل السنة والجماعة وأولوا العلم، وأما الذين اسودت وجوههم فأهل البدع والضلالة » [54]. وقال الزهري رحمه الله تعالى: « الاعتصام بالسنة نجاة » [55]. 4- الاتباع دليل محبة الله تعالى: ويدل ذلك قول الله تعالى: ﴿ قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿31﴾﴾ [آل عمران: 31]؛ يقول ابن تيمية: « وما ينبغي التفطن له أن الله سبحانه قال في كتابه: ﴿ قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ …﴾ قال طائفة من السلف: ادعى قوم على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم يحبون الله فأنزل الله هذه الآية: ﴿ قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ …﴾ الآية، فبين سبحانه أن محبته توجب اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، وأن اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- يوجب محبة الله للعبد، وهذه محبة امتحن الله بها أهل دعوى محبة الله؛ فإن هذه الباب تكثر فيها الدعاوي والاشتباه » [56]، ويقول ابن كثير: « هذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين المحمدي في جميع أقواله وأفعاله » [57]. وقال ابن القيم: « ﴿ يُحْبِبْكُمُ اللهُ ﴾ إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها وفائدتها؛ فدليلها وعلامتها اتباع الرسول، وفائدتها وثمرتها محبة المرسِل لكم، فما لم تحصل المتابعة فليست محبتكم له حاصلة، ومحبته لكم منتفية » [58]. ويقول: « ثباتاها -أي محبة الله- إنما يكون بمتابعة الرسول في أعماله وأقواله وأخلاقه، فبحسب هذا الاتباع يكون منشأ هذه المحبة وثباتها وقوتها، وبحسب نقصانها يكون نقصانها » [59]. 5- الاتباع طريق تحصيل محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الحقيقة: أوجب الله –تعالى- على عباده محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتقديم ذلك على محبة النفس والمال والولد والوالد والناس أجمعين؛ كما في الحديث: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ) [60]، وقوله -صلى الله عليه وسلم- لعمر بن الخطاب، حين قال: يا رسول الله، لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي ، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليَّ من نفسي، فقال -صلى الله عليه وسلم-: الآن يا عمر) [61]. ولا سبيل لتحصيل تلك المحبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وتحقيقها إلا عن طريق الاتباع والحرص على الكمال فيه؛ يقول الخطابي حول هذا المعنى: « لم يُرد به حب الطبع بل أراد به حب الاختيار؛ لأن حب الإنسان لنفسه طبع ولا سبيل إلى قلبه، قال: فمعناه: لا تَصْدُق في حبي حتى تفني في طاعتي نفسَك، وتؤثر رضاي على هواك وإن كان فيه هلاكك » [62]. 6- الاتباع سبيل امتثال الأوامر بطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وتجنب الوعيد المترتب على ذلك: أمر الله عباده بطاعة نبيه في آيات كثيرة منها قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ… ﴾ [النساء: 59] ورتب الوعيد الشديد على مخالفته، كما في قوله تعالى: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴿32﴾﴾ [آل عمران: 32]، وقوله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴿24﴾﴾ [الأنفال: 24]. ولا سبيل للعبد إلى امتثال تلك الأوامر بطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والاستجابة له وتجنب الوعيد الشديد على ذلك دنيا وآخرة إلا بالاتباع للنبي -صلى الله عليه وسلم- والتأسي به. 7- الاتباع من صفات المؤمنين اللازمة لهم: ويدل لذلك قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿51﴾ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴿52﴾﴾ [النور: 51 ، 52]، وقد نفى الله -سبحانه وتعالى- الإيمان عمن أعرض عن طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولم يرض بحكمه؛ فقال الله –تعالى-: ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴿65﴾﴾ [النساء: 65]. 8- الاتباع علامة من علامات التقوى: اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- من علامات ودلائل تقوى القلب وصحة إيمانه؛ قال الله تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴿32﴾﴾ [الحج: 32] وشعائر الله: أوامره وأعلام دينه الظاهرة، ومن أبرزها وأعلاها طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- واتباع شرعه [63]. حكم الاتباع: اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- والتأسي به فيما جاء به من ربه من الأمور المستقرة، والتي لا يسع أحد الجهل بها؛ لأنها من المعلوم الدين بالضرورة؛ نظراً لتواتر النصوص الدالة على ذلك واستفاضها، ومن ذلك: 1- قول الله –تعالى- : ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا …﴾ [الحشر: 7]، قال ابن كثير في تفسيره: « أي مهما أمركم به فافعلوه، وما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمر بخير، وإنما ينهى عن شر » [64]. وقال الشوكاني بعد إيراده لبعض الأقوال التي قد يفهم منها أن الآية خاصة بالفيء: « والحق أن هذه الآية عامة في كل شيء يأتي به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أمر أو نهي أو قول أو فعل، وإن كان السبب خاصاً فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وكل شيء أتانا به من الشرع فقد أعطانا إياه وأوصله إلينا، وما أنفع هذه الآية وأكثر فائدتها » [65]. 2- قول الله –تعالى- ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴿65﴾﴾ [النساء: 65]، يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: « يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول -صلى الله عليه وسلم- في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهرًا، ولهذا قال: ﴿ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم، فلا يجدون في أنفسهم حرجا مما حكم به، وينقادون له في الظاهر والباطن، فيسلموا لذلك تسليمًا كلياً، من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة » [66]. ويقول العلامة السعدي: « ثم أقسم تعالى بنفسه الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله ﴿ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ﴾ أي: في كل شيء يحصل فيه اختلاف » [67]. 3- قول الله -عز وجل-: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿63﴾﴾ [النور: 63]، قال ابن كثير: « وقوله: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ﴾ أي: عن أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله فما وافق ذلك قُبل، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله ، كائناً ما كان » [68]. 4-عن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعظ الناس فقالوا: يا رسول الله، إن هذه لموعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: (قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ) [69]. 5- عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فمن رغب عن سنتي فليس مني) [70]، قال ابن حجر في شرحه له: « المراد بالسنة الطريقة، لا التي تقابل الفرض والرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره ، والمراد: من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيرري فليس مني » [71]. أحوال الناس والاتباع: يختلف حال الناس في الاتباع من شخص لآخر، إذ لا يخلو حال أحد منهم من أربعة أحوال: فمنهم من يمتثل المأمور ويكف عن اقتراف المحظور، وهذا أكمل أحوال أهل الدين، وأفضل صفات المتقين، وهو الذي يستحق جزاء العاملين وثواب المطيعين. ومنهم من لا يمتثل المأمور ويقترف الحظور، وهذا أخبث أحوال المكلفين، وشر صفات المتعبدين ، وهو الذي يستحق عذاب اللاهي عن فعل ما أمر به من الطاعات، وعذاب المُقْدِم على ارتكاب المنهيات، قال ابن شبرمة: « عجبت لمن يحتمي من الطيبات مخافة الداء كيف لا يحتمي من المعاصي مخافة النار ». ومنهم من يمتثل المأمور ويقترف المحظور، وهو الذي يستحق عذاب المجترئ على انتهاك الحرمات وتجاوز الحدود؛ لأنه تورط بغلبة الشهوة على الإقدام على المعصية، وإن سلم من التقصير في فعل الطاعة. ومنهم من لا يمتثل المأمور ولا يقترف المحظور، فهذا يستحق عذاب ترك الطاعات والغفلة عن القربات [72]. للاتباع مظاهر كثيرة، من أهمها وأبرزها: 1-تعظيم النصوص الشرعية: من أبرز مظاهر الاتباع ودلائله تعظيم النصوص الشرعية الثابتة بتقديرها وإجلالها، وتقديمها وعدم هجرها، واعتقاد أن الهدى فيها لا في غيرها، وتعلمها وفهمها وتدبرها والعمل بها والتحاكم إليها وعدم معارضتها، وقد كان هذا هو هدي أئمة الاتباع وسادته من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم. فقد رأى عبد الله بن مغفل رجلاً من أصحابه يخذف، فقال له: لا تخذف، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان ينهى عن الخذف، وكان يكرهه، ثم رآه بعد ذلك يخذف فقال له: ألم أخبرك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان ينهى عنه؟ ثم أراك تخذف؟ والله لا أكلمك أبداً [73]، وقال خراش بن جبير: « رأيت في المسجد فتى يخذف، فقال له شيخ: لا تخذف؛ فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الخذف، فغفل الفتى فظن أن الشيخ لا يفطن له، فخذف فقال له الشيخ: أحدثك أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن الخذف ثم تخذف، والله لا أشهد لك جنازة، ولا أعودك في مرض، ولا أكلمك أبداً » [74]. وحدث ابن عمر -رضي الله عنهما- «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعه) فقال أحد بنيه: إذن والله أمنها، فأقبل عليه ابن عمر فشتمه شتيمة لم يشتمها أحد قبله قط، ثم قال: أُحدِّث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقول: إذن والله أمنعها!» [75]. وقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: (حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما بين لابتيها. قال: يريد المدينة ، قال: فلو وجدت الظباء ساكنة ما ذعرته) [76]. وذكر عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن درهمين بدرهم فقال فلان: ما أرى بهذا بأسًا يدًا بيد، فقال عبادة: أقول: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقول: لا أرى به بأسًا، والله لا يظني وإياك سقف واحد » [77]. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: تمتع النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال عروة بن الزبير: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة، فقال ابن عباس: « أراهم سيهلكون أقول: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقولون: نهى أبو بكر وعمر » [78]، وحدث ابن سيرين رجلاً بحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال رجل: قال فلان وفلان كذا، فقال ابن سيرين: « أُحدثك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقول: قال فلان وفلان كذا وكذا؟ والله لا أكلمك أبداً » [79]، وقال الشعبي لرجل: « ما حدثوك هؤلاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخذ به، وما قالوه برأيهم فألقه في الحش » [80]. 2- الخوف من الزيغ والاستدراج: من أبرز علامات الاتباع ومظاهره: خوف العبد من انحرافه وذنوبه، وخشيته من استدراجه وعدم ثباته على الحق الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقد كان ذلك واضحاً جلياً لدى الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم-. يقول ابن مسعود -رضي الله عنه- مصورًا الأمر: ( إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا ) [81]. ويقول الحسن البصري: « المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن » [82]. قال البخاري: « قال إبراهيم التيمي: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبًا. وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل، ويذكر عن الحسن : ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق » [83]. بل إن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر الصديق كان يقول: « لست تاركًا شيئًا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعمل به إلا عملت به، وإني لأخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ! »، وقد عقب ابن بطة على كلمة الصديق تلك فقال: « هذا يا إخواني الصديق الأكبر يتخوف على نفسه من الزيغ إن هو خالف شيئًا من أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فماذا عسى أن يكون من زمان أضحى أهله يستهزئون بنبيهم وأوامره ويتباهون بمخالفته ويسخرون بسنته؟! نسأل الله عصمة من الزلل، ونجاة من سوء العمل » [84]. 3- الاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- والتأسي به ظاهراً وباطناً: بحيث يجرد العبد متابعته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويكتفي بالتلقي والأخذ عنه، والعمل بما جاء به عملاً بقوله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا ﴿21﴾﴾ [الأحزاب: 21]؛ فلا اعتقاد ولا عبادة ولا معاملة ولا خلق ولا أدب ولا نظام اجتماعي ولا اقتصادي أو سياسي... إلخ إلا عن طريقه، وعلى وفق ما جاء به من أحكام وتعاليم في الكتاب الكريم والسنة الصحيحة، بحيث تكون شريعته هي المهيمنة والرائدة، يقول ابن القيم -رحمه الله- في كلام له عن قوله تعالى: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 6]: « وهو دليل على أن من لم يكن الرسول أولى به من نفسه فليس من المؤمنين، وهذه الأولوية تتضمن أمورًا منها أن لا يكون للعبد حكم على نفسه أصلاً بل الحكم على نفسه للرسول -صلى الله عليه وسلم- يحكم عليها أعظم من حكم السيد على عبده أو الوالد على ولده، فليس له على نفسه تصرف قط إلا ما تصرف فيه الرسول الذي هو أولى به منها » [85]. 4- تحكيم العبد للشرع وتحاكمه إليه: بحيث يُحكم ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الكتاب والسنَّة ويتحاكم إليهما، ويجعل ذلك هو الميزان الذي يزن بواسطته الاعتقادات والأقوال والأفعال والتروك، فما وافقها قبله وعمل بما فيه، وما خالفه رده وإن جاء به من جاء. قال الله –تعالى-: ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ﴾ [النساء: 65]، وقال -عز وجل-: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴿59﴾﴾ [النساء: 59]، وتحكيم العبد وتحاكمه إلى الشريعة وحرصه على أن تكون جميع شئونه خاضعة لها: هو السمة البارزة والعلامة الفارقة بين المسلم الحريص على الاتباع للحق، وبين من اتبع هواه بغير هدى من الله فضل وأضل، سواء أسُمِّي ذلك الهوى عقلاً أم ذوقًا أم مصلحة إمامًا أم حزبًا أم نظامًا.. إلخ. 5- الرضا بحكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشرعه: من مظاهر الاتباع للرسول -صلى الله عليه وسلم- الرضى بحكمه وشرعه، عن العباس -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: « ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً » [86]. فإذا رضي المسلم بمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًا ورسولاً: لم يلتفت إلى غير هديه، ولم يعول في سلوكه على غير سنته، وحكمه وحاكم إليه، وقبل حكمه وانقاد له وتابعه واتبعه، ورضي بكل ما جاء به من عند ربه، فيسكن قلبه لذلك، وتطمئن نفسه، وينشرح صدره، ويرى نعمة الله عليه وعلى الخلق بهذا النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وبدينه العظيم أيما نعمة، فيفرح بفضل ربه عليه ورحمته له بذلك؛ حيث جعله من أتباع خير المرسلين وحزبه المفلحين؛ قال الله –تعالى-: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴿57﴾ قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴿58﴾﴾ [يونس: 57 ، 58]. والرضا كلمة تجمع القبول والانقياد؛ فلا يكون الرضا إلا حيث يكون التسليم المطلق والانقياد الكامل ظاهراً وباطناً لما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من ربه [87]. الوسائل المعينة على الاتباع: الوسائل المعينة على اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرة، من أهمها: 1-تقوى الله -عز وجل- والخوف منه: وذلك لأن من اتقى الله -عز وجل- وخافه جعل له فرقانًا، يميز به بين الحق والباطل، وبين النور والظلمة؛ فكان ذلك سب نجاته وسعادته في الدنيا والآخرة؛ قال الله –تعالى-: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا …﴾ [الأنفال: 29]، وقال -عز وجل-: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿28﴾﴾ [الحديد: 28] قال السعدي في معنى قوله: ﴿ َيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ﴾ أي: « يعطيكم علماً وهدى ونورًا تمشون به في ظلمات الجهل » [88]. وقال الله -عز وجل-: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴿2﴾﴾ [الأنفال: 2]. 2- الإخلاص لله، والتجرد في طلب الحق: لا يتوقف البحث عن الحق وتطلبه على الحرص على معرفته وإدراكه فقط، بل لابد مع ذلك من أمر نفسي هو التجرد، والحرص على سلامة القصد والممارسة من الجهل والهوى والظلم، ولا يكون ذلك إلا بالإخلاص لله تعالى. وهذا الأمر له تعلق بتنقية النفوس من الأهواء والشوائب وتزكيتها؛ لأن العبد كلما سعى في تنقية نفسه وتزكيتها وإلزامها بطاعة الله –تعالى- وترك معصيته ظاهراً وباطناً، كلما ازداد قبوله للحق وإقباله عليه؛ يقول ابن تيمية: « وكذلك من أعرض عن اتباع الحق - الذي يعلمه- تبعاً لهواه، فإن ذلك يورثه الجهل والضلال حتى يعمي قلبه عن الحق الواضح، كما قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴿5﴾﴾ [الصف: 5] وقال تعالى: ﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا ﴾ [البقرة: 10]... [89]. والتجرد والإخلاص معينان للعبد على الرجوع عن البدع والأخطاء متى وقع فيها، وقد حصل ذلك من أعيان كبار في علم الكلام والفلسفة وغير ذلك، كأبي الحسن الأشعري، والجويني، والغزالي، والفخر الرازي، وغيرهم كثير. 3- اللجوء والتضرع إلى الله -عز وجل- وإظهار الافتقار له: من أعظم الأسباب المعينة للعبد على الاتباع لما جاء به نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- من الهدى والنور: لجوء العبد إلى ربه وتضرعه بين يديه وإظهار الافتقار والحاجة إليه، ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا ما يفعل ذلك، فقد كان دعاؤه حيث يفتتح الصلاة من الليل: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، أهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) [90]. وكان من دعائه أيضاً: (اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علم) [91]، وأيضاً: (اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أُضَل، أو أزل أو أُزل... ) [92]، وأيضاً: (اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رهبة ورغبة إليك، لا ملجأ مك إلا إليك... ) [93]. وقد أمر الله –تعالى- عباده بدعائه والتضرع بين يديه ، فقال -عز وجل-: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴿60﴾﴾ [غافر: 60] وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن من لم يسأل الله –تعالى- ويظهر الافتقار والحاجة إليه فإنه يغضب عليه، ففي الحديث الذي يرويه أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من لم يسأل الله يغضب عليه) [94]. 4- تعلم الأحكام الشرعية: وذلك لأن الإسلام دين مبني على الوحي ، والوحي لا يدرك إلا بالتعلم وبالتالي: لا وسيلة للعمل بأحكام الإسلام واتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا عن طريق التعلم لما جاء عنه في القرآن والسنة؛ لأنه من غير الممكن أن يعمل ن بشيء لا يعرفه ولم يتعلمه، ولذا: قال الإمام البخاري في صحيحه: « باب العلم قبل القول والعمل، لقول الله –تعالى- : ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ﴾ ، فبدأ بالعلم » [95]. وكان أول ما أنزل من القرآن الكريم: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿1﴾﴾ [العلق: 1]. والقراءة أداة للتعلم. 5- فهم النصوص الصحيحة وتدبر معانيها: القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة هما مصدر تلقي الحق والهدى؛ قال الله –تعالى-: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض) [96]. ولقد تكفل الله –تعالى- بحفظ نصوص كتابه من أن يدخلها تحريف أو تبديل؛ قال الله –تعالى-: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴿9﴾﴾ [الحجر: 9]، ويتضمن ذلك حفظ سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي على الرغم مما دخلها من أحاديث ضعيفة وموضوعة، إلا أن الله –تعالى- هيأ لها أئمة نذروا أنفسهم وأعمارهم في خدمتها وتمييز صحيحها من ضعيفها وموضوعها، ولذا فإنه لابد للحريص على الاتباع الحق للنبي -صلى الله عليه وسلم- من الحرص على صحة النصوص التي يعمل بها، والقيام بفهمها وتدبرها، ومن ثم العمل بموجبها فعلاً وتركًا. يقول الشيخ السعدي في تفسير لقوله تعالى: ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴿24﴾﴾ [محمد: 24] « أي: فهلا يتدبر هؤلاء المعرضون كتاب الله، ويتأملونه حق التأمل، فإنهم لو تدبروه لدلهم على كل خير، ولحذرهم من كل شر، ولملأ قلوبهم من الإيمان وأفئدتهم من الإيقان، ولأوصلهم إلى المطالب العالية والمواهب الغالية، ولبين لهم الطريق الموصلة إلى الله، وإلى جنته ومكملاتها ومفسداتها، والطريق الموصلة إلى العذاب، وبأي شيء يحذر، ولعرفهم بربهم بأسمائه وصفاته، وإحسانه، ولشوقهم إلى الثواب الجزيل، ورهبهم من العقاب الوبيل. ﴿ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ أي: قد أغلق على ما فيها من الإعراض والغفلة والاعتراض، وأقفلت فلا يدخلها خير أبداً! هذا هو الواقع » [97]. قلت: والعائد من تدبر النصوص النبوية الصحيحة كالعائد من تدبر النصوص القرآنية؛ لأن كلا منهما مصدر للأحكام، وطريق للاعتصام بالحق، والأمن من الزيغ والضلال. 6- اتباع طريقة السلف في العلم والعمل: بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن خير قرون هذه الأمة وأفضلها: أقربها إليه، فقال: (خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم..) [98] وأوضح في حديث الافتراق أن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا ملة واحدة، قيل: (من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي) [99]. ولقد بدأ خط الانحراف يدخل في أوساط المسلمين ابتداًء من نهاية دولة الخلافة الراشدة، واستمر يتسع ويزداد، وبالتالي بدأت تقل أعداد المستمسكين بالحق الخالص الذي كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته، والداعين إليه، قرنًا بعد قرن وزمانًا بعد آخر، حتى صارالقابض عليه في بعض الأماكن والأزمان كالقابض على الجمر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولذا فلا طريق لمن أراد أن يستمسك بدينه، ويتبع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اتباعا نقيًا صحيحاً، إلا أن يضبط فهمه للنصوص الصحيحة واستيعابه لها، وعمله على تنفيذها، بالطريقة التي كان عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته، ومن جاء بعدهم ممن سار على نهجهم، حذو القذة بالقذة؛ نظراً لكون النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي لا ينطق عن الهوى قد حدد أن الحق هو ما كان عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام، ونظرا لقلة العلم وكثرة الأهواء في الأزمنة التي جاءت بعده، فقد ازدادت الحاجة إلى معرفة طريقة السلف والعمل بها. وما أحسن قول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- حيث قال: « من كان مستنًا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم »[100]. 7- الصحبة الصالحة: صحبة أهل السنة والجماعة الملتزمين بما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته من أعظم الأسباب التي تعين على الاتباع والاستمساك بالحق؛ وذلك لأن الصاحب سابح للمرء وقائد ، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الرجل على دين خليله، فليننظر أحدكم من يخالل) [101]. وسبب ذلك: أن الخليل يحمل صاحبه على ما هو عليه، فإن كان صاحب سنة واتباع حمله على ذلك، وإن كان صاحب بدعة وفسوق حمله على ذلك، ولذا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة) [102]. ومما يدل على تأثير الصحبة دلالة واقعية قول يوسف بن أسباط: « كان أبي قدريًا، وأخوالي روافض، فأنقذني الله بسفيان » [103]. ولذا استفاضت أقوال السلف في الحث على صحبة أهل الاتباع والسنة وترك صحبة ما سواهم، ومن أقوالهم في ذلك: عن أيوب قال: « إن من سعادة الحدث والأعجمي أن يوفقهما الله لعالم من أهل السنة » [104]. وعن عبد الله بن شوذب قال: « إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك أن يواخي صاحب سنة يحمله عليها » [105]. ويقول الملائي: « إذا رأيت الشاب أول ما ينشأ مع أهل السنة والجماعة فارجه، وإذا رأيته مع أهل البدع فايئس منه؛ فإن الشباب على أول نشوئه » [106]. ويقول ابن عباس -رضي الله عنهما- محذرًا: « لا تجالس أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلب » [107]، ويقول أبو قلابة: « لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم؛ فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم ما تعرفون » [108]. عوائق الاتباع: هناك عوائق كثيرة تمنع العبد من الاتباع الصحيح للنبي -صلى الله عليه وسلم-، من أبرزها: 1- الجهل: الجهل من أعظم عوائق الاتباع، بل هو أعظم أسباب الوقوع في المحرمات جميعها من كفر وبدع ومعاص [109]، سواء أكان الجهل جهلاً بالنصوص بعدم الاطلاع عليها، أم كان جهلاً بمنزلتها في الدين وكون التقدمة لها وبقية المصادر تبعاً لها، أم كان جهلاً بدلالات الألفاظ، ومقاصد الشريعة، وقواعد العلوم وأصولها: كالمطلق والمقيد، والعام والخاص، والناسخ والمنسوخ، والمجمل والمبين [110]. ونظرا لخطورة الجهل الكبيرة نجد القرآن الكريم والسنة الصحيحة حافلين بالنصوص التي تحذر من الجهل وتبين خطورته، وتحث على العلم وتبين فضله، ومنها: قال الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴿33﴾﴾ [الأعراف: 33]، يقول السعدي: ﴿ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ في أسمائه وصفاته وأفعاله وشرعه » [111]، ويقول ابن القيم: « وأما القول على الله بلا علم فهو أشد هذه ال محرمات وأعظمها إثما؛ ولهذا ذكر في المرتبة الرابعة من المحرمات التي اتفقت عليها الشرائع والأديان ولا تباح بحال، بل لا تكون إلا محرمة، ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه، فقال: ﴿ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ ، فهذا أعظم المحرمات عند الله وأشهدها إثما، فإنه يتضمن الكذب على الله ونسبته إلى ما لا يليق به، وتغيير دينه وتبديله، ونفي ما أثبته، وإثبات ما نفاه، وتحقيق ما أبطله، وإبطال ما حققه، وعداوة من والاه، وموالاة من عاداه، وحب ما أبغضه، وبغض ما أحبه، ووصفه بما لا يليق به في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله، فليس في أجناس المحرمات أعظم عند الله منه ، ولا أشد إثماً وهو أصل الشرك والكفر، وعليه أسست البدع والضلالات، فكل بدعة مضلة في الدين أساسها القول على الله بلا علم... » [112]. وقال -عز وجل-: ﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴿36﴾﴾ [الإسراء: 36]، يقول سيد قطب: « والعقيدة الإسلامية عقيدة الوضوح والاستقامة والنصاعة، فلا يقوم شيء فيها على الظن أو الوهم أو الشبهة... ﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [الإسراء: 36] ولا تتبع ما لم تعلمه علم اليقين وما لم تتثبت من صحته: من قول يقال: أو رواية تروى، من ظاهرة تفسر، أو واقعة تعلل، ومن حكم شرعي ، أو قضية اعتقادية » [113]. وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: ( قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلو) [114]. وعن علي -رضي الله عنه- في صفة الخوارج قال: (سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية... ) [115] . ومن أقوال السلف في ذلك: عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: « اغد عالماً أو متعلمًا أو مستمعًا، ولا تكن الرابع فتهلك » [116]. وعن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال: « لا يزال الناس بخير ما بقي الأول، حتى يتعلم الآخر، فإذا هلك الأول قبل أن يتعلم الآخر هلك الناس » [117]. 2- اتباع الهوى: اتباع الهوى وما تشتهيه الأنفس من أعظم عوائق الاتباع وأسباب الانحراف والزيغ عن الحق، بل إن جميع البدع والمعاصي إنما تنشأ من تقديم الهوى على النص الصحيح، وذلك لأن من طبيعة النفس البشرية أنها تميل وترغب إلى ما تهوى وتحب، ويصعب على صاحبها صرفها عن ذلك وبخاصة إذا كانت قد تعودت عليه ما لم يقو إيمانه ويصلب يقينه، بل إن كل من لم يتابع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويستجب له فيما جاء به: فإنه لم يذهب إلى هدى، وإنما ذهب واتبع الهوى [118]؛ ولذا: نجد النصوص قد توافرت في ذم اتباع الهوى والتحذير منه، ومن ذلك: قال الله تعالى: ﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿50﴾﴾ [القصص: 50]. وقال الله -عز وجل-: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴿23﴾﴾ [الجاثية: 23]. وعن معاوية -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله) [119]. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخاف من الأهواء، ويتعوذ بالله منها قائلا: (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء) [120]. وليست الإشكالية في وجود هوى في نفس العبد يدعوه إلى مخالفة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن ذلك ميدان للاختبار والامتحان، وقد لا يملكه العبد، وإنما الإشكالية في اتباع العبد للهوى، وأخذه لما يحب ، وتركه لما يبغض، وجعل ذلك هو الباعث والدافع إلى القول والفعل ، سواء وافق ذلك محبوب الله –تعالى- أم خالفه [121]. وقد يدخل الهوى على من له تعلق بالنصوص وارتبط بها؛ بحيث لا يدعوه هواه إلى ترك النصوص بالكلية والإعراض عنها، وإنما يجعله يقرر ما يريده أولاً ثم يذهب إلى النصوص ليأخذ ما وافق هواه منها، يقول محمود شلتوت: « وقد يكون الناظر في الأدلة ممن تمتلكهم الأهواء فتدفعه إلى تقرير الحكم الذي يحقق غرضه، ثم يأخذ في تلمس الدليل الذي يعتمد عليه ويجادل به، وهذا في الواقع يجعل الهوى أصلاً تحمل عليه الأدلة، ويحكم به على ا لأدلة، وهو قلب لقضية التشريع، وإفساد لغرض الشارع من نصب الأدلة » [122]. 3- تقديم آراء الآباء والشيوخ والأكابر على النصوص الثابتة: من عوائق الاتباع الكبرى: تقديم آراء الآباء والشيوخ والأكابر على النصوص الصحيحة؛ يقول الله –تعالى-: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾ [المائدة: 104]، قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: أي: إذا دعوا إلى دين الله وشرعه وما أوجبه، وترك ما حرمه: قالوا يكفينا ما وجدنا عليه الآباء والأجداد من الطرائق والمسالك؛ قال الله –تعالى-: ﴿ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا ﴾ [المائدة: 104] أي لا يفهمون حقاً، ولا يعرفونه، ولا يهتدون إليه، فكيف يتبعونهم والحالة هذه ؟! لا يتبعهم إلا من هو أجهل منهم وأضل سبيلاً » [123]. وقال -عز وجل-: ﴿ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ ﴿66﴾ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا ﴿67﴾ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ﴿68﴾﴾ [الأحزاب: 66- 68]. قال الشوكاني: « والمراد بالسادة والكبراء هم الرؤساء والقادة الذين كانوا يمتثلون أمرهم في الدنيا ويقتلون بهم، وفي هذا زجر عن التقليد شديد، وكم في الكتاب العزيز من التنبيه على هذا والتحذير منه والتنفير عنه، ولكن لمن يفهم معنى كلام الله ويقتدي به وينصف من نفسه، لا لمن هو من جنس الأنعام في سوء الفهم ومزيد البلادة وشدة التعصب » [124]. وقد وردت آثار كثيرة عن السلف تحذر من ذلك، ومنها: قول ابن عباس -رضي الله عنهما- لعروة بن الزبير حين قال له في مسألة: أما أبو بكر وعمر فلم يفعلا: « والله وما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله، نحدثكم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وتحدثونا عن أبي بكر وعمر » [125]. وقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: « ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً، إن آمن آمن وإن كفر كفر، فإن كنتم لابد مقتدين فبالميت؛ فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة » [126]، وفي رواية عنه: « لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً، إن آمن آمن وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر » [127]. وقال عمر بن عبد العزيز: « لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- » [128]. وقال الشافعي: « أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس »، وصح عنه أنه قال: « لا قول لأحد مع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- » [129]. وقال ابن خزيمة: « لا قول لأحد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صح الخبر عنه » [130]. ولابن تيمية كلام نفيس حول ذلك، إذ يقول: « فدين الله مبني على اتباع كتاب الله، وسنة نبيه، وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة هي المعصومة، وما تنازعت فيه الأمة إلى الله والرسول, وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصًا يدعو إلى طريقته، يوالي عليها ويعادي، غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصا أو كلاما يفرقون به بين الأمة، يوالون به على ذلك الكلام أو تلك السنة ويعادون » [131]. ويدل على مبلغ الجنابة التي يوصل إليها تقديم آراء الرجال أيا كانوا على النص الصحيح قول الكرخي عفا الله عنه: « كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤولة أو منسوخة، وكل حديث كذلك فمؤول أو منسوخ » [132]. قلت: وهذا هو ما عليه كثير من أبناء زماننا الذين قدموا رأي شيوخهم أو جماعاتهم أو أحزابهم على النصوص الصحيحة الثابتة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. 4- تقديم العقل على النقل الصحيح: كرم الله الإنسان وفضله بالعقل ، وامتدح في كتابه ذوي الألباب والعقول المستنيرة ، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ ﴾ [الرعد: 19]، وقال سبحانه: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ ﴿29﴾﴾ [ص: 29] ولكن كثيرًا من الناس لم يبقوا العقل في المكانة التي وضعه الله تعالى فيها، بل زلوا فيه على صنفين: صنف عطله ولم يقم له وزنًا، وصنف بالغ فيه وجعله مصدرًا للتشريع وقدمه على النقل الصحيح، حيث بنوا لأنفسهم ضلالات يسمونها تارة بالحقائق واليقينيات، وتارة بالمصالح والغايات التي تهدف النصوص إلى تحقيقها وإن لم تنص عليها، ثم يأخذون النصوص الثابتة والتي يسمونها بالظنيات، فيعرضونها على تلك الضلالات، فما وافقها قبلوه وما عارضها ردوه، اعتمادًا منهم على قاعدة: اليقين لا يزول بالشك!! ولم يعلم هؤلاء أن للعقول حدودًا تنتهي في الإدراك إليها، وأن الله –تعالى- لم يجعل لها سبيلاً إلى إدراك كل شيء [133]، كما لم يعلم أولئك أن الله حافظ دينه، وعاصم نبيه -صلى الله عليه وسلم- من الزلل والانحراف في تبليغ دينه، وبالتالي: فما جاء به حق لا مرية فيه، كما أن ما يسمونه حقائق ويقينيات هي عين الباطل؛ بدليل اختلاف العقول والأفهام في تعيين الحقائق والمصالح من إنسان لآخر، وبدليل أن الله –تعالى- أمرنا بالتسليم لحكمه وحكم رسوله، تسليماً مطلقاً، لا بمحاكمة النصوص إلى العقول قبل التسليم بها، كما في قوله -عز وجل-: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65]. وما أحسن كلام ابن أبي العز الحنفي حين شرح قول الطحاوي: « ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام »، فقال: « أي: لا يثبت إسلام من لم يسلم لنصوص الوحيين، وينقاد إليها، ولا يعترض عليها، ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه، روى البخاري عن الإمام محمد بن شهاب الزهري -رحمه الله- أنه قال: « من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم » [134]. 5- التعليق بالشبهات: دين الإسلام قائم على تسليم العبد المطلق بالوحي، ولكن كثيرًا ممن قلت معرفته بالوحي تعلق بالشبهات وبضروب من الخيالات وتوهم المصالح، ظنا منهم أنها طريق معرفة الحق وسبيل الوصول إليه، ولذا: تجد من هذا حاله إذا جاءه من أخبره بالحق الثابت بالنص: تعلق قلبه بما سبق إلى قلبه من شبهات وضلالات، فلم يؤمن بالحق في ذاته نفسه، وأخذ يُلبس على الناس الحق بما في قلبه وذهنه من باطل، فضل وأضل، ونتيجة لهذا الأمر الخطير فقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته من هذا الصنف، فقال فيما ترويه عائشة -رضي الله عنها-: (... فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ) [135]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (سيكون في آخر أمتي ناس يحدثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم؛ فإياكم وإياهم) [136]، وتواترت أقاويل أئمة السلف في التحذير من الشبهات وأصحابها، ومن ذلك قول عمر: « إنه سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن؛ فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله » [137]، وقول أبي قلابة: « لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تحادثوهم، إني لا آمن أن يغمروكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون » [138]، ويقول ابن سيرين محذرا: « إن هذا العلم دين، فانتظروا عمن تأخذون دينكم » [139]. 6- سكوت العلماء: بسكوت العلماء عن نشر الحق والتحذير من الباطل يرتفع صوت الباطل، ويضعف صوت الحق، ويظن كثير من الناس أن أصحاب الباطل نتيجة كثرتهم وفشوهم هم أصحاب الحق؛ بدليل ظهورهم وإلا لما برزوا وظهروا، وينتج عن ذلك قلة أتباع الحق. ولذا جاءت النصوص بالتحذير من كتمام العلم وعدم نشره، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ﴿159﴾ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿160﴾﴾ [البقرة: 159 ، 160]، قال الشوكاني في تفسيره لهذه الآية: « اختلفوا في المراد بذلك، فقيل: أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين تركوا أمر محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقيل: كل من كتم الحق وترك بيان ما أوجب الله بيانه، وهو الراجح؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما تقرر في الأصول، فعلى فرض أن سبب النزول ما وقع من اليهود والنصارى من الكتم، فلا ينافي ذلك تناول هذه الآية كل من كتم الحق، وفي هذه الآية من الوعيد الشديد ما لا يقادر قدره ، فإن من لعنه الله ولعنه كل من يتأتى منه اللعن من عباده قد بلغ من الشقاوة والخسران إلى الغاية التي لا تُلحق ولا يدرك كنهها » [140]. وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من سئل عن علم علمه ثم كتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار ) [141] وفي رواية لابن ماجه: (ما من رجل يحفظ علماً فيكتمه إلا أُتي به يوم القيامة ملجما بلجمام من نار) [142]. 7- مجالسة أهل البدع والمعاصي: من أعظم عوائق الاتباع مجالسة العبد لأهل البدع والمعاصي، حيث يزين أصحاب السوء لجليسهم ما هم عليه من باطل ويرونه إياه حقاً، فإن لم يستطيعوا أن يقبلوا الحق في ذهنه ويغيروا مفاهيمه حاولوا إجباره على فعل باطلهم، إما مجاملة لهم، أو خوفًا من استهزائهم ونقدهم، فإن لم يستطيعوا ذلك فلا أقل من أن يداهنهم بترك الإنكار عليهم، أو بعدم القيام بعمل الحق الذي لا يتفق مع أهوائهم. ولذا اشتد نكير السلف وعظم تحذيرهم لأهل السنة من مخالطة جلساء السوء، ففي قصة عمر مع صبيغ قال أبو عثمان الراوي: « إن عمر كتب إلينا أن لا تجالسوه، قال: فلو جلس إلينا ونحن مائة لتفرقنا عنه » [143]، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: « لا تجالس أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلب » [144]، وقال مصعب بن سعد: « لا تجالس مفتونًا، فإنه لن يخطئك منه إحدى اثنتين: إما أن يفتنك فتتابعه، وإما أن يؤذيك قبل أن تفارقه » [145]، وقال مفضل بن مهلل: « لو كان صاحب البدعة إذا جلست إليه يحدثك ببدعته حذرته وفررت منه، ولكنه يحدثك بأحاديث السنة في بُدُوِّ مجلسه، ثم يُدخل عليك بدعته فلعلها تلزم قلبك، فمتى تخرج من قلبك؟! » [146]، وقال رجل لابن سيرين: إن فلانًا يريد أن يأتيك ولا يتكلم بشيء، قال: « قل لفلان: لا ! ما يأتيني ؛ فإن قلب ابن آدم ضعيف، وإني أخاف أن أسمع منه كلمة فلا يرجع قلبي إلى ما كان » [147]. 8- الاعتماد على النصوص الضعيفة والموضوعة: من أعظم عوائق الاتباع: الاعتماد على النصوص الضعيفة والموضوعة، وإثبات الأحكام بها، والقيام برد الحق الثابت بالنصوص الصحيحة بها، سواء أكان ذلك بسبب جهلهم وعدم قدراتهم على التمييز بين الصحيح والضعيف والموضوع منها، أم بسبب الاغترار بمقولة بعض أهل العلم بجواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، متناسين أن لذلك شروطاً، أهمها: ألا يعتقد عند العمل ثبوت الحديث؛ لئلا ينسب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما لم يقله، وألا يكون الضعف شديداً، وأن يكون الحكم الذي يثبته الحديث الضعيف مندرجًا تحت أصل عام، ليخرج بذلك ما لا أصل له والذي يمتنع تأسيس الأحكام وإثباتها عن طريق ما كان كذلك [148]. هذه نظرات في حقيقة الاتباع، وأهديها لأحبتي في الله –تعالى- ؛ لتجريد المتابعة الحقة للحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، ولتظهر حقيقة أدعياء المحبة من المبتدعة والطرقيبن وغيرهم ومدى انحرافهم عن الجادة: ﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود: 88]. [1] انظر لسان العرب: 1/ 416، المعجم الوسيط: 1/ 81. [2] البخاري مع الفتح: 2/ 131، 132، رقم 631. [3] مسلم: 44/ 1986، رقم 2564. [4] الترمذي: 5/ 29، رقم 2649: وصححه الألباني في صحيح الترمذي: 2/ 336، رقم 2135. [5] إذا ثبتت كيفيات أو مقاصد خاصة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- كالوصال في الصوم والوجوب فيقيام الليل: فلا يجوز مشاركة النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما اختص به من كيفية أو قصد: وتبقى قضية الاتباع مرتبطة بالمقاصد والكيفيات التي شرعها -صلى الله عليه وسلم- لأمته. [6] انظر: الفتاوى لابن تيمية: 10/ 409، والإحكام للآمدي: 1/ 226، 227. [7] انظر الإحكام للآمدي: 1/ 227. [8] مجموع الفتاوى: 10/ 410، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ثبت بالإسناد الصحيح، فتح الباري لابن حجر: 1/ 569. [9] مختصر المختصر لأبي المحاسن الحنفي: 2/ 177. [10] صحيح مسلم: 2/ 951، رقم 1311. [11] انظر الفتاوى لابن تيمية: 10/ 409. [12] الإحكام للآمدي: 1/ 226. [13] الموافقات للشاطبي: 2/ 108. [14] انظر في تقرير ذلك: كتاب قواعد جليلة في التوسل والوسيلة: ص 105 ، 106: لابن تيمية، والفتاوى له : 10/ 409 ، والإحكام للآمدي: 1/ 227، 228 وانظر فعل ابن عمر في الإبانة الكبرى لابن بطة: 1/ 240- 245. [15] انظر أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- للأشقر: 1/ 235، 245. [16] انظر الإحكام للآمدي: 1/ 228. [17] إرشاد الفحول: 35، 36. [18] انظر: صحيح البخاري، رقم: 2807، 5556، الموافقات للشاطبي: 2/ 245، 246. [19] انظر قول ابن سيري بنحو من ذلك عند الدارمي رقم 140. [20] صحيح البخاري مع الفتح: 13/ 504. [21] شرح العقيدة الطحاوية: 1/ 219. [22] الاعتصام للشاطبي: 2/ 358. [23] البخاري مع الفتح: 4/ 192، قال ابن حجر: « وقول أبي الزناد: « إن السنن لتأتي كثيرًا على خلاف الرأي » كأنه يشير إلى قول علي: « لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أحق بالمسح من أعلاه »، أخرجه أحمد 1267، وأبو داود 162، والدارقطني 1/ 199، ورجال إسناده ثقات. ونظائر ذلك في الشرعيات كثير. [24] مسلم: 3/ 1343، رقم: 1718. [25] الموافقات: 2/ 333. [26] أحمد: 4/ 131، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 1/ 516، رقم 2643. [27] الدارمي: 1/ 77، رقم 223. [28] تفسير السعدي: 7/ 333. [29] مسلم: 3/ 1344، رقم 1718. [30] الاعتصام للشاطبي: 1/ 49. [31] الفتاوى لابن تيمية: 26/ 172. [32] تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 4/ 156. [33] مسلم: 1/ 223 ، وانظر تفسير السعدي: 4/ 230، 231. [34] اختف في تحديد ليلة الإسراء والمعراج على أقوال تزيد على العشرة، انظر: فتح الباري لابن حجر: 7/ 203. وللشيخ ابن باز -رحمه الله- حول ذلك كلام نفيس إذ يقول: « وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج لم يأت في الأحاديث الصحيحة تعيينها، وكل ما ورد في تعيينها فهو غير ثابت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عند أهل العلم بالحديث ، ولله الحكمة البالغة في إنساء الناس لها، ولو ثبت تعيينها لم يجز للمسلمين أن يخصوها بشيء من العبادات، فلم يجز لهم أن يحتفلوا بها، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم- لم يحتفلوابها، ولم يخصوها بشيء، ولو كان الاحتفال أمرا مشروعًا لبينه الرسول -صلى الله عليه وسلم- للأمة، إما بالقول أو الفعل، ولو وقع شيء من ذلك لعرف واشتهر ولنقله الصحابة -رضي الله عنهم- إلينا، فقد نقلوا عن نبيهم -صلى الله عليه وسلم- كل شيء تحتاجه الأمة، ولم يفرطوا في شيء من الدين، بل هم السابقون إلى كل خير، فلو كان الاحتفال بهذه الليلة مشروعًا لكانوا أسبق الناس إ ليه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- هو أنصح الناس للناس، وقد بلغ الرسالة غاية البلاغ وأدى الأمانة ، فلو كان تعظيم هذه الليلة والاحتفال بها من دين الإسلام لم يغفله النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يكتمه، فما لم يقع شيء من ذلك علم أن الاحتفال بها وتعظيمها ليس من الإسلام في شيء »، وانظر: فتاوى اللجنة الدائمة: 3/ 65. [35] انظر الإبداع في بيان كمال الشرع وخطر الابتداع لابن عثيمين: 21 ، 22. [36] انظر البخاري مع الفتح: 1 / 501، رقم 321. [37] الشرح الممتع على زاد المستنقع: 4/ 165 ، 166. [38] سنن أبي داود، رقم: 1887، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود، رقم 2662: حسن صحيح. [39] سنن ابي داود رقم: 1888، وحسنه الأرناؤوط في تخريجه لجامع الأصول رقم: 1505. [40] راجع مبحث الشاطبي النفيس في ذلك في الموافقات: 2/ 300- 310. [41] مسلم: 3/ 1263 ، قم 1642. [42] قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 1/ 30. [43] البخاري مع الفتح: 13/ 264، رقم 7288. [44] انظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 1/ 29 ، 30. [45] مسلم: 1/ 461 ، رقم 664. [46] البخاري مع الفتح: 3/ 714 ، رقم 1787. [47] قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 1/ 30. [48] شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي: 1/ 57 ، رقم 18. [49] جامع العلوم والحكم: 1/ 176. [50] الفتاوى: 1/ 333- 334. [51] مدارج السالكين: 1/ 104. [52] شرح الطحاوية: 1/ 228. [53] البخاري مع الفتح: 13/ 263 ، رقم 7280. [54] شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي، 1/ 71، رقم: 74. [55] شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي: 1/ 56 ، رقم 15. [56] الفتاوى لابن تيمية: 10/ 81. [57] تفسير القرآن العظيم: 1/ 358. [58] مدارج السالكين: 3/ 22. [59] مدارج السالكين: 3/ 37. [60] البخاري مع الفتح: 1/ 75 ، رقم 15. [61] البخاري مع الفتح: 11/ 532، رقم 6632. [62] انظر شرح النووي لمسلم: 2/ 15. [63] انظر تفسير القرآن العظيم: 3/ 219، وتفسير السعدي: 5/ 293. [64] تفسير القرآن العظيم: 4/ 336. [65] فتح القدير: 5 / 282. [66] تفسير القرآن العظيم: 1/ 520. [67] تفسسير السعدي: 2/ 92. [68] تفسير القرآن العظيم: 3/ 307. [69] ابن ماجه: 1/ 16، رقم 43، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه: 1/ 13، رقم 41. [70] البخاري مع الفتح: 9/ 5، رقم 5063. [71] فتح الباري: 9/ 7. [72] انظر: أدب الدنيا والدين للماوردي: 103- 105، نضرة النعيم، لمجموعة من الباحثين: 7/ 2673. [73] صحيح مسلم، رقم: 1954، سنن الدارمي: 1/ 124، رقم 446، واللفظ له. [74] سنن الدارمي: 1/ 127، رقم: 437. [75] سنن الدارمي: 1/ 124، رقم 448. [76] صحيح البخاري، سنن الدارمي: ومعنى: ذعرتها: أفزعتها. [77] سنن الدارمي: 1/ 129 ، رقم: 443. [78] جامع بيان العلم وفضله: 2/ 1210 ، رقم 2381. [79] الدارمي: 1/ 124 ، رقم 247. [80] الدارمي: 1/ 72 ، رقم 304. [81] صحيح البخاري: 6308. [82] تفسير ابن كثير: 2/ 235. [83] البخاري مع الفتح: 1/ 135. [84] انظر كلمة الصديق في البخاري رقم: 3093، وتعقيب ابن بطة في الإبانة الكبرى: 1/ 245 ، 246. [85] بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم: 3/ 442. [86] مسلم: 1/ 62، رقم 34. [87] انظر: الضوء المنير على التفسير، للصالحي: 2/ 253 ، 254. [88] تفسير السعدي: 7 / 305. [89] الفتاوى لابن تيمية: 10/ 10. [90] مسلم: 1/ 534، رقم 770. [91] ابن ماجه: 1/ 92، رقم 251، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه: 1/ 47، رقم 203. [92] أبو داود: 5/ 327، رقم 5094، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 3/ 959، رقم:4248. [93] أبو داود: 5/ 298، رقم 506، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 3/ 952، رقم: 4219. [94] الترمذي : 5/ 56 ، رقم / 3373، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي: 3/ 138، رقم 2686. [95] البخاري مع الفتح: 1/ 192. [96] المستدرك للحاكم: 1/ 93، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 1/ 556 ، رقم 2937. [97] تفسير السعدي: 7/ 80. [98] البخاري مع الفتح: 5/ 306 ، رقم 2651. [99] الترمذي: 5/ 6، رقم 2641، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي: 2/ 334، رقم 2129. [100] شرح الطحاوية: 2/ 546. [101] أبو داود: 5/ 168، رقم 4833، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود: 3/ 917، رقم 4046. [102] البخاري مع الفتح: 9/ 577 ، رقم 5534. [103] شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي،: 1/ 60 رقم 32. [104] المصدر السابق: 1/ 60، رقم 30. [105] المصدر السابق: 1/ 60، رقم 31. [106] الإنابة الكبرى لابن بطة: 1/ 205، رقم 33. [107] المصدر السابق: 2/ 438، رقم 371. [108] المصدر السابق: 2/ 427 ، رقم 369. [109] انظر: الفتاوى لابن تيمية: 14/ 22. [110] انظر: حقيقة البدعة وأحكامها للغامدي: 1/ 171 ، 178. [111] تفسير السعدي: 3/ 22. [112] مدارج السالكين: 1/ 378. [113] في ظلال القرىن: 4/ 2227. [114] البخاري مع الفتح: 1/ 23 ، رقم 100. [115] مسلم: 2/ 746 ، 747 ، رقم 1066. [116] الدارمي: 1/ 84 ، رقم 252. [117] المصدر السابق: 1/ 84 ، رقم 253. [118] انظر تفسير السعدي: 6/ 33. [119] أبو داود: 5/ 5- 6، رقم 4597، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود: 3/ 869، رقم 383. [120] الترمذي: 5/ 575، رقم 3591، وصححه الألبني في صحيح الترمذي: 3/ 184، رقم 2840. [121] انظر الفتاوى لابن تيمية: 28/ 131- 133. [122] البدعة أسبابها ومضارها لشلتوت: ص 24. [123] تفسير القرآن العظيم: 2/ 108 ، 109. [124] فتح القدير: 4/ 431. [125] جامع بيان العلم وفضله: 2/ 1309- 1210، رقم 2377. [126] شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي: 1/ 903، رقم 130. [127] إعلام الموقعين: 2/ 135. [128] المصدر السابق: 2/ 201. [129] المصدر السابق: 2/ 201. [130] المصدر السابق: 2/ 202. [131] الفتاوى لابن تيمية: 20/ 164. [132] الرسالة في أصول الحنفية للكرخي: 169- 170، « مطبوع مع تأسيس النظر للدبوسي ». [133] انظر الاعتصام للشاطبي: 2/ 349. [134] شرح الطحاوية: 1/ 331، وانظر البخاري مع الفتح: 13/ 512. [135] البخاري مع الفتح: 8/ 57 ، رقم 4547. [136] مسلم: 1/ 12، رقم 6. [137] الدارمي: 1/ 53، رقم 119. [138] سير أعلام النبلاء: 4/ 472. [139] مسلم: 1/ 14. [140] فتح القدير: 1/ 238. [141] الترمذي: 5/ 29 ، رقم 2649. [142] ابن ماجه: 1/ 69 ، رقم 261، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه: 1/ 49 ، رقم 210. [143] الإبانة الكبرى لابن بطة: 1/ 414 ، رقم 329. [144] المصدر السابق: 2/ 438 ، رقم: 371. [145] المصدر السابق: 2/ 442 ، رقم: 385. [146] المصدر السابق: 2/ 444 ، رقم: 394. [147] المصدر السابق: 2/ 446 ، رقم: 399. [148] انظر: الاعتصام للشاطبي: 1/ 228- 231