محمد -صلى الله عليه وسلم- متواضعًا: كان -صلى الله عليه وسلم- عجيبًا في ذلك، فتواضعه تواضع من عرف ربّه مهابة، واستحيا منه وعظمه وقدّره حقّ قدره، وتطامن له وعرف حقارة الجاه والمال والمنصب، فسافرت روحه الى الله وهاجرت نفسه الى الدار الآخرة، فما عاد يعجبه شيء مما يعجب أهل الدنيا، فصار عبدا لربه بحق: يتواضع للمؤمنين، يقف مع العجوز ويزور المريض ويعطف على المسكين، ويصل البائس ويواسي المستضعفين ويداعب الأطفال ويمازح الأهل ويكلم الأمة، ويواكل الناس ويجلس على التراب وينام على الثرى، ويفترش الرمل ويتوسّد الحصير، قد رضي عن ربّه، فما طمع في شهرة أو منزلة أو مطلب أرضي أو مقصد دنيوي، يكلم النساء بلطف، ويخاطب الغريب بودّ، ويتألف الناس ويتبسّم في وجوه أصحابه يقول: (إنما أنا عبد: آكل كما يأكل العبد واجلس كما يجلس العبد) [أخرجه ابن أبي عاصم في الزهد 1\6، وابن سعد في الطبقات 1\371 وانظر كشف الخفاء 1\17] ، ولما رآه رجل ارتجف من هيبته قال: (هوّن عليك، فإني ابن امرأة كانت تاكل القديد بمكة) [أخرجه ابن ماجه 3312، والحاكم 4366 عن ابن مسعود، وانظر الكامل لابن عدي 6\286] . وكان يكره المدح، وينهى عن إطرائه ويقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبدالله ورسوله، فقولوا عبدالله ورسوله) [أخرجه البخاري 3445 عن ابن عباس رضي الله عنهم] ، وكان ينهى أن يقام له، وأن يوقف على رأسه، وكان يجلس حيثما انتهى به المجلس، وكان يختلط بالناس كأنه أحدهم، ويجيب الدعوة ويقول: (لو دعيت الى كراع لأجبت، ولو أهدي إليّ ذراع لقبلت) [أخرجه البخاري 2568، 5178] . وكان يحب المساكين، ويروى عنه قوله: (اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين) [أخرجه الترمذي 2352 عن أنس رضي الله عنه، وابن ماجه 4126 والحاكم 7911 عن أبي سعيد الخدري وصححه] . وكان يحرّم الكبر وينهى عنه، ويبغض أهله ويقول: (يحشر المتكبرون يوم القيامة في صورة الذر، يغشاهم الذل من كل مكان) [أخرجه أحمد 6639، والترمذي 2492، انظر كشف الخفاء 3236] . ويروي عن ربه أنه قال: (الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منها قذفته في النار) [أخرجه مسلم 2620 وأبو داود 4090 واللفظ له] . فكان -صلى الله عليه وسلم- محببا الى القلوب: تأخذه الجارية بيده فيذهب معها، ويزور أم أيمن وهي مولاة. ولما مدحه وفد عامر بن صعصعة وقالوا: أنت خيرنا وأفضلنا وسيدنا وابن سيدنا قال لهم: (يا أيها الناس! قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، لا يستجريّنكم الشيطان) [أخرجه أحمد 15876 وأبو داود 4806] ، وغضب لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت، وقال: (ويحك! أجعلتني والله عدلا؟ بل ما شاء الله وحده) [أخرجه أحمد 1842، 2557 والنسائي في السنن الكبرى 10825 عن ابن عباس رضي الله عنهم] . وكان يحمل حاجة أهله ويخصف نعله ويرقع ثوبه ويكنس بيته ويحلب شاته ويقطع اللحم مع أهله، ويقرّب الطعام لضيفه، ويباسط زوّاره ويسأل عن اخبارهم، ويتناوب ركوب الراحلة مع رفيقه، ويلبس الصوف ويأكل الشعير، وربما مشى حافيا، وينام في المسجد، ويركب الحمار، ويردف على الدابة، ويعاون الضعيف ويتفقد السرية، ويكون في آخرهم فيساعد من احتاج، ويرافق الوحيد منهم.. فـ -صلى الله عليه وسلم- ما تحرّك بذكره اللسان، وسارت بأخباره الركبان، وردّد حديثه الإنس والجان. محمد -صلى الله عليه وسلم- حليما: ما دام أنه رسول الله فلا بد أن يكون أحلم الناس وأوسعهم صدرا، وألينهم عريكة وأدمثهم خلقا وألطفهم عشرة، فقد كان يطظم غيظه ويعفو ويصفح ويغفر لمن زلّ، ويتنازل عن حقوقه الخاصة ما لم تكن حقوقا لله. وقد عفا عمن ظلمه وطره من وطنه وآذاه وسبّه وشتمه وحاربه، فقال لهم يوم الفتح: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) [أخرجه الشافعي في الأم 7\361، والطبري في تاريخه 2\161 والبيهقي في السنن الكبرى 18055 انظر صحيح الجامع 4815] . وعفا عن ابن عمّه سفيان بن الحارث يوم الفتح لما وقف أمامه وقال له: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، فقال عليه الصلاة والسلام:﴿لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [يوسف:92] . وقد واجهه الأعراب بالجفاء وسوء الأدب، فحلم وصفح، وقد امتثل أمر ربه في قوله:﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ [الحجر:85] ، فكان لا يكافئ على السيئة بالسيئة، بل يعفو ويصفح، وكان لا ينفذ غضبه إذا كان لنفسه، ولا ينتقم لشخصه، بل إذا غضب ازداد حلما، وربّما تبسّم في وجه من أغضبه، ونصح أحد أصحابه فقال: (لا تغضب، لا تغضب، لا تغضب) [أخرجه البخاري 6116] . وكان يبلغه الكلام السيء فيه، فلا يبحث عمن قاله ولا يعاتبه ولا يعاقبه. وورد عنه أنه قال: (لا يبلغني أحد منكم ما قيل فيّ، فإني أحب أن أخرج إليك وأنا سليم الصدر) [أخرجه احمد 3750 وأبو داود 4860 والترمذي 3896 عن عبدالله بن مسعود] . وبلّغه ابن مسعود كلاما قيل فيه، فتغيّر وجهه وقال: (رحم الله موسى، أوذي بأكثر من هذا فصبر) [أخرجه البخاري 3150، 3405 ومسلم 1062] . وقد أوذي من خصومه في رسالته وعرضه وسمعته وأهله، فلما قدر عليهم عفا عنهم وحلم عليهم، وقال: (من كف غضبه كف الله عنه عذابه) [أخرجه أبو يعلى 4338 والبيهقي في الشعب 8311 وانظر العلل لابن أبي حاتم 1919 ومجمع الزاوئد 10\298] . وقال له رجل: اعدل، فقال: (خبت وخسرت إذا لم أعدل) [أخرجه البخاري 3138 ومسلم 1063 واللفظ له عن جابر بن عبدالله] ، ولم يعاقبه بل صفح عنه. وواجه بعص اليهود بما يكره، فعفا وصفح، وقد وسع بخلقه وتسامحه الناس، وأطفأ بحلمه نار العداوات ممتثلا قول ربه:﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾ [المؤمنون:96] وكان مع أهله أحلم الناس، يمازحهم ويلاطفهم ويعفو عنهم فيما يصدر منهم، ويدخل عليهم باسما ضحاكا، يملأ قلوبهم وبيوتهم أنسا وسعادة، يقول خادمه أنس بن مالك: خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين ما قال لي في شيء فعلته: لم فعلت هذا؟ ولا شيء لم أفعله: لم لم تفعل هذا؟ وهذا غاية الحلم ونهاية حسن الخلق، وقمة جميل السجايا ولطيف العشرة، بل كان كل من رافقه أو صاحبه أو بايعه يجد من لطفه وودّه وحلمه ما يفوق الوصف، حتى تمكن حبّه من القلوب فتعلقت به الأرواح ومالت له نفوس الناس بالكلية: وإذا رحمت فأنت أمّ أو أب هذان في الدنيا هم الرحماء وإذا سخوت بلغت بالجود المدى وفعلت ما لم تفعل الأنواء وإذا صحبت رأى الوفاء مجسّما في بُردك الأصحاب والخلطاء وأبديت حلمك للسفيه مداريا حتى يضيق بحلمك السفهاء محمد -صلى الله عليه وسلم- رحيما: وصفه ربه بقوله:﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107] ، فهو رحمة للبشرية.. ورد عنه أنه قال: (إنما أنا رحمة مهداة) [أخرجه الدارمي 15 مرسلا، والحاكم موصولا عن أبي هريرة برقم 100 وصححه] . ورأى ولد إحدى بناته تفيض روحه، فبكى، فلما سئل عن ذلك قال: (هذه رحمة يضعها الله في قلب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباه الرحماء) [أخرجه البخاري 1284، 6655 ومسلم 923 عن أسامة بن زيد رضي الله عنه] . وكان رحمة على القريب والبعيد، عزيز عليه أن يدخل على الناس مشقة، فكان يخفف بالناس مراعاة لأحوالهم، وربما أراد أن يطيل في الصلاة فيسمع بكاء الطفل فيخفف لئلا يشق على أمه. (ولما بكت أمامة بنت زينب ابنته حملها وهو يصلي بالناس، فإذا سجد وضعها، وإذا قام رفعه). [أخرجه البخاري 516، ومسلم543 عن أبي قتادة رضي الله عنه] . وسجد مرة فصعد الحسن على ظهره، فأطال السجود، فلما سلّم اعتذر للناس وقال: (إن إبني هذا ارتحلني، فكرهت أن أرفع رأسي حتى ينزل) [أخرجه أحمد 27100 والنسائي 1141 عن شداد بن الهاد رضي الله عنه] . وقال: (من أمّ منكم الناس فليخفف، فإن فيهم الكبير والصغير والمريض وذا الحاجة) [أخرجه البخاري 703 ومسلم 467 عن أبي هريرة رضي الله عنه] . وقال لمعاذ لمّا طوّل بالناس: (أفتّان أنت يا معاذ؟) [أخرجه البخاري 705، 6106 ومسلم 465 عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه] . وقال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) [أخرجه البخاري 887 ومسلم 252 عن أبي هريرة رضي الله عنه] . وربما ترك العمل خشية أن يفرض على الناس، وكان يتخوّل أصحابه بالموعظة... كل ذلك رحمة منه -صلى الله عليه وسلم-، وكان يقول: (والقصد القصد تبلغو) [أخرجه البخاري 6463 عن أبي هريرة رضي الله عنه] . ويقول: (بُعثت بالحنيفية السمحة) [أخرجه أحمد 21788 عن أبي أمامة رضي الله عنه] . ويقول: (خير دينكم أيسره) [أخرجه أحمد 15506 وانظر مجمع الزوائد 3\308] . ويقول: (عليكم هدياً قاصد) [أخرجه أحمد 22454، 22544 والبيهقي في السنن الكبرى 4519 عن بريدة الأسلمي، وانظر البيان والتعريف 2\109] . ويقول: (خذوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملو) [أخرجه البخاري 5862 ومسلم 782 عن عائشة رضي الله عنه] . وما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، وأنكر على الثلاثة الذين شدّدوا على أنفسهم في العبادة، وقال: (والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكنني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، فمن رغب عن سنتي فيس مني) [أخرجه البخاري 5063 ومسلم 1401 عن أنس بن مالك رضي الله عنه] . وأفطر في سفر في رمضان، وقصر الرباعية، وجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في السفر، ونادى مؤذنه في المطر أن صلوا في رحالكم، وقال: (هلك المتنطعون) [أخرجه مسلم 2670 عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه] . وقال: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه) [أخرجه مسلم 2594 عن عائشة رضي الله عنه] . وأنكر على عبدالله بن عمرو بن العاص إرهاق نفسه بالعبادة، ويقول: (إيّاكم والغلو) [أخرجه أحمد 1854، 3238 والنسائي 3057، وابن ماجه 3029 وابن أبي عاصم في السنة 1\46 عن ابن عباس رضي الله عنهما وصححه] .
ويروى عنه قوله: (أمتي أمة مرحومة) [أخرجه أحمد 19179، 19253 وأبو داود 4276 والحاكم 8372 عن أبي موسى رضي الله عنه وصححه] . وقال: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) [أخرجه البخاري 7288 ومسلم 1337 عن أبي هريرة رضي الله عنه] .
وهذا اليسر في حياته عليه الصلاة والسلام يوافق يسر الملة وسهولة الشريعة، وهو امتثال منه -صلى الله عليه وسلم- لقول ربه: ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾ [الأعلى:8] ، ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَ﴾ [البقرة 286] ، ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن 16] ،﴿يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185] ، ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78] .. وغيرها من الآيات. فهو -صلى الله عليه وسلم- سهل ميسّر رحيم في رسالته ودعوته وعبادته وصلاته وصومه وطعامه وشرابه ولباسه وحله وترحاله وأخلاقه، بل حياته مبنية على اليسر؛ لأنه جاء لوضع الآصار والأغلال عن الأمة، فليس اليسر أصلا إلا معه، ولا يوجد اليسر إلا في شريعته، فهو اليسر كله، وهو الرحمة والرفق بنفسه، -صلى الله عليه وسلم-. محمد -صلى الله عليه وسلم- ذاكرًا: كان -صلى الله عليه وسلم- أكثر الناس ذكرا لربه، حياته كلها ذكر لمولاه، فدعوته ذكر وخطبه ذكر ومواعظه ذكر وعبادته ذكر وفتاويه ذكر، وليله ونهاره وسفره وإقامته بل أنفاسه كلها ذكر لمولاه عز وجل، فقلبه معلق بربه، تنام عينه ولا ينام قلبه، بل النظر اليه يذكّر الناس بربّهم، وكل مراسيم حياته ومناسباته وذكر لخالقه جلّ في علاه. وكان -صلى الله عليه وسلم- يحث الناس على ذكر ربهم، فيقول: (سبق المفردون: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات) [أخرجه مسلم 2676 عن أبي هريرة رضي الله عنه] ، ويقول: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره كمثل الحيّ والميت) [أخرجه البخاري 6407 ومسلم 779 عن أبي موسى رضي الله عنه] . ويقول: (لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله) [أخرجه أحمد17227، 17245 والترمذي 3375 وابن ماجه 3793 انظر المشكاة 2279] . وأخبر أن أفضل الناس أكثرهم ذكرا لربه، وروى عن ربّه عز وجل قوله: (أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت شفتاه) [أخرجه البخاري معلقا في كتاب التوحيد، باب قول الله ﴿لاتحرك به لسانك﴾، وأحمد10585، 10592 وابن ماجه3792 عن أبي هريرة رضي الله عنه] . ويقول: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم) [أخرجه البخاري 7405 ومسلم 2675 عن أبي هريرة رضي الله عنه] . وله عليه الصلاة والسلام عشرات الأحاديث الصحيحة التي تحث على الذكر وترغّب فيه، والتهليل والتسبيح والتحميد والتكبير والحوقلة والاستغفار والصلاة والسلام عليه -صلى الله عليه وسلم-. وكان يذكّر الناس بأجر الذكر وما يترتب على ذلك من ثواب، وذكر الأعداد في ذلك مع ذكر المناسبات، وعمل اليوم والليلة، فهو -صلى الله عليه وسلم- الذاكر الشاكر الصابر، وهو الذي ذكّر الأمة بربها وعلمها تعظيمه وتسبيحه، وبيّن لها فوائد الذكر ومنافعه. فهو أسعد الناس بذكر ربه، وأهنؤهم عيشا بهذه النعمة، وأصلحهم حالا بهذا الفضل، فكان له أوراد من الأذكار مع حضور قلب وخشوع وخضوع وهيبة وخوف ومحبة ورجاء وطمع في فضل ربه. محمد -صلى الله عليه وسلم- داعيًا: يقول تعالى:﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر:60] ، ويقول: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة:186] ، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: (الدعاء هو العبادة) [أخرجه أحمد 17888، 17919 وأبو داود 1479 والترمذي 2969، 3247 عن النعمان بن بشير وصححه] . ويقول: (من لم يسأل الله يغضب عليه) [أخرجه البخاري في الأدب المفرد 658 والترمذي 3373 عن أبي هريرة رضي الله عنه وصححه] . وكان عليه الصلاة والسلام لاهجا بدعاء ربه في كل حالاته، قد فوّض أمره لمولاه، وأكثر الإلحاح على خالقه يناشده رحمته وعفوه، ويطلب برّه وكرمه، وكان يختار جوامع الدعاء الكامل الشامل كقوله: (اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) [أخرجه البخاري 4522، 6389 ومسلم 2688 عن انس رضي الله عنه] . وقوله: (اللهم إني أسألك العفو والعافية) [أخرجه أحمد 4770 وأبو داود 5074 وابن ماجه 3871 والحاكم 1902 عن ابن عمر رضي الله عنهما وصححه] . وكان يكرر الدعاء ثلاثا، ويبدأ بالثناء على ربه، وكان يستقبل القبلة عند دعائه، وربما توضأ قبل الدعاء، وكان يعلم الأمة أدب الدعاء، كالبداية بحمد الله والصلاة والسلام على رسوله، ودعاء الله بأسمائه الحسنى، والإلحاح في الدعاء، وتوخّي أوقات الإجابة كأدبار الصلوات، وبين الأذان والإقامة، وآخر ساعة من يوم الجمعة، ويوم عرفة، وفي حالة السجود والصوم والسفر، ودعوة الوالد لولده، وكان عليه الصلاة والسلام وقت الأزمات يلحّ على ربه ويناشده، ويكرر السؤال مع تمام الذلّ والخوف والحب وحسن الظن، وتمام الرجاء، كما فعل يوم بدر ويوم الخندق ويوم عرفة. وكان الله يجيب دعوته ويلبّي طلبه، كما حصل له على المنبر يوم استسقى فنزل الغيث مباشرة، ويوم شق له القمر، وبارك له في الطعام والمال، ونصره في حروبه، ورفع دينه وأيّد حزبه وخذل أعداءه، وكبت خصومه، حتى حقق الله له مقاصده وأكرم مثواه وجعل له العاقبة -صلى الله عليه وسلم-. محمد -صلى الله عليه وسلم- طموحًا: ولدت همته عليه الصلاة والسلام معه يوم ولد، فمنذ طفولته زنفسه مهاجرة الى معالي الأمور ومكارم الخلق، لا يرضى بالدون ولا يهوى السفاسف، بل هو الطموح والسبّاق المتفرّد والمبرز المحظوظ، ولقد ذكر أهل السير أنه عليه الصلاة والسلام وهو طفل كان لجده عبدالمطلب فراش في ظل الكعبة لا يجلس عليه إلا هو لمنزلته، فجاء محمد -صلى الله عليه وسلم- فنازع الخدم حتى جلس عليه، وأبى أن يجلس دونه. وكان فيه قبل النبوة من سمات الريادة والزعامة والقيادة ما جعل قريش يسمونه الصادق الأمين، ويرضون حكمه ويعودون اليه في أمورهم. فلما منّ الله عليه بالبعثة تاقت نفسه إلى الوسيلة، وهي أعلى درجة في الجنة، فسأل الله إياها، وعلّمنا ان نسألها له من ربه، بلغ سدرة المنتهى، وحاز الكمال البشري المطلق، والفضيلة الإنسانية. ومن علوّ همّته رفضه للدنيا وعدم الوقوف مع مطالبها الزهيدة لولاياتها ومناصبها وقصورها ودورها. الرسول -صلى الله عليه وسلم- في القرآن قال تعالى: ﴿يا أيها النبي حسبك الله﴾ حسبك الله يكفيك من كل ما أهمّك، فيحفظك في الأزمات، ويرعاك في الملمّات، ويحميك في المدلهمّات، فلا تخش ولا تخف ولا تحزن ولا تقلق. حسبك الله فهو ناصرك على كل عدو، ومظهرك على كل خصم، ومؤيدك في كل أمر، ويعطيك إذا سألت، ويغفر لك إذا استغفرت، ويزيدك إذا شكرت، ويذكرك إذا ذكرت، وينصرك إذا حاربت، ويوفّقك إذا حكمت. حسبك الله فيمنحك العز بلا عشيرة، والغنى بلا مال، والحفظ بلا حرس، فأنت المظفّر لأن الله حسبك! وأنت المنصور لأن الله حسبك، وأنت الموفق لأن الله حسبك، فلا تخف من عين حاسد ولا من كيد كائد، ولا من مكر ماكر، ولا من خبث كافر، ولا من حيلة فاجر لأن الله حسبك. وإذا سمعت صولة الباطل، ودعاية الشرك، وجلبة الخصوم، ووعيد اليهود، وتربّص المنافقين، وشماتة الحاسدين، فاثبت لأن حسبك الله. إذا ولّى الزمان، وجفا الإخوان، وأعرض القريب، وشمت العدو، وضعفت النفس، وأبطأ الفرج، فاثبت لأن حسبك الله. إذا داهمتك المصائب، ونازلتك الخطوب، وحفّت بك النكبات، وأحاطت بك الكوارث، فاثبت لأن حسبك الله، لا تلتفت الى أحد من الناس، ولا تدع أحدا من اليشر، ولا تتجه لكائن من كان غير الله.. لأن حسبك الله. إذا ألمّ بك مرض، وأرهقك دين، وحلّ بك فقر، أوعرضت لك حاجة، فلا تحزن لأن حسبك الله. إذا أبطأ النصر، وتأخر الفتح، واشتد الكرب، وثقل الحمل، وادلهمّ الخطب، فلا تحزن لأن حسبك الله، أنت محظوظ لأنك بأعيننا، وأنت محروس لأنك خليلنا، وأنت في رعايتنا لأنك رسولنا، وأنت في حمايتنا لأنك عبدنا المجتبى ونبيّنا المصطفى. قال تعالى: ﴿لا تحزن إن الله معن﴾ هذه الكلمة الجميلة الشجاعة قالها -صلى الله عليه وسلم- وهو في الغار مع صاحبه أبي بكر الصدّيق، وقد أحاط بهما الكفار، فقالها قوية في حزم، صادقة في عزم، صارمة في جزم:﴿لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَ﴾ التوبة 40. فما دام الله معنا فلم الحزن ولم الخوف ولم القلق، اسكن.. اثبت.. اهدأ.. اطمئن، لأن الله معنا. لا نُغلب، لا نُهزم، لا نضل، لا نضيع، لا نيأس، لا نقنط، لأن الله معنا، النصر حليفنا، الفرج رفيقنا، الفتح صاحبنا، الفوز غايتنا، الفلاح نهايتنا لأن الله معنا. من أقوى منا قلبا، من أهدى منا نهجا، من أجلّ من مبدأ، من أحسن منا سيرة، من أرفع مان قدرا؟! لأن الله معنا. ما أضعف عدوّنا، ما أذلّ خصمنا، ما أحقر من حاربنا، ما أجبن من قاتلنا، لأن الله معنا. لن نقصد بشرا، لن نلتجئ الى عبد، لن ندعو إنسانا، لن نخاف مخلوقا، لأن الله معنا. نحن أقوى عدة وأمضى سلاحا، وأثبت جنانا وأقوم نهجا، لأن الله معنا. نحن الأكثرون الأكرمون الأعلون الأعزّون المنصورون، لأن الله معنا. يا أبا بكر اهجر همّك، وأزح غمّك، واطرد حزنك، وأزل يأسك، لأن الله معنا. يا أبا بكر ارفع رأسك، وهدئ من روعك، وأرح قلبك، لأن الله معنا. يا أبا بكر أبشر بالفوز، وانتظر النصر، وترقّب الفتح، لأن الله معنا. غدا سوف تعلو رسالتنا وتظهر دعوتنا وتسمع كلمتنا، لأن الله معنا. غدا سوف نُسمع أهل الأرض روعة الأذان وكلام الرحمن ونغمة القرآن، لأن الله معنا. غدا سوف نخرج الإنسانية ونحرر البشرية من عبودية الأوثان، لأن الله معنا