الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد,
عجباً لأمر المؤمن يتقلب في الخيرات في جميع أحواله ويتنقل بين أنواع العبودية في السراء والضراء، لا ينسى حق ربه ومولاه في يسره وعسره! واسمع معي لهذا الحديث الذي رواه مسلم عن صهيب بن سنان -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (عجبا لأمر المؤمن إن أمره له كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)، فالمؤمن يستشعر أنه عبد وملك لله -عز وجل-؛ لذا إذا أقبلت عليه النعم شكر مولاه وربه المنعم عليه بها، ولم ينشغل بالنعمة عن المنعم -سبحانه وتعالى-، وإنما يري فضل الله عليه، فينكسر له ويشكره على منّه وعطائه، وهذا سلوك الأنبياء فهذا سليمان -عليه السلام- لما فهم قول النملة قال : (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ)(النمل:19)، فلم ينسب الفضل إلي نفسه، ولم يثنِ عليها، بل يتضرع إلى ربه أن يوفقه لشكر نعمته.
وهذا يوسف -عليه السلام- في أوج نصره ورفعته، اسمع إلى قول الله -تعالى- عنه: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)(يوسف:100). فينسب الفضل إلي الله أنه حقق رؤياه وأحسن به إذ أخرجه من السجن، وجاء بأهله من البدو، فهو مشغول بالثناء على ربه، والإقرار بإحسانه -سبحانه وتعالى-، وهكذا سلوك المؤمنين أيضاً، فيعتريهم عند النعم انكسار القلب لفضل الرب -عز وجل-، فتلهج ألسنتهم بالحمد لله والثناء عليه، وقلوبهم بالإقرار، ويزدادون محبة له -سبحانه وتعالى- فيحبهم على ذلك، وقد قيل: "المحبة تنبت على شهود المنن".
وهذا يجلب لهم محبة الله ورضاه، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله ليرضي عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمد الله عليها وأن يشرب الشربة فيحمده عليها).
ويقر بعجزه عن شكر نعم الله: يا رب، كيف أشكرك وشكرك نعمة تحتاج إلي شكر؟!
وإذا نزلت بالمؤمن الضراء فتجده في عبودية أخري عبودية الصبر.
والصبر ضياء، ففيه نور وحرارة، فلا يجزع عند نزول البلاء ولا يسخط ولا يعترض على قضاء الله وقدره، بل يعلم أن وراء ذلك الخير الكثير، وكيف لا والله يقول: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(البقرة: من الآية216)، فالعبد يقر بجهله عن معرفة الحكمة من وراء ذلك البلاء، وان كان يعرف في جملة الأمر أن لها حكماًن فربما تحمل المحنُ مِنَحاً، والبلايا عطايا، وربما يعطيه ربه في صورة منع، ويرفعه في صورة خفض، ويغنيه في صورة فقر، وكيف لا يصبر وله في أنبياء الله وأتباعهم الأسوة والقدوة: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
والصابر يوفي أجره بغير حساب (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)(الزمر: من الآية10)، فهذه عبودية المؤمن يتقلب فيها من خير إلي خير ومن طاعة إلي أخرى، وقد اختلف العلماء أيهما أفضل: الصابر أم الشاكر؟ والراجح أنهما سواء، وأفضلهما اتقاهما لله، وقد صح في الحديث: (الطاعم الشاكر كالصائم الصابر).
وأما الكافر والفاجر فعلى الضد من ذلك، فينتقل من سوء إلى سوء، ومن شر إلى مثله في حالتي السراء والضراء، ففي السراء يختال ويفخر، وينسب الفضل إلى نفسه، ويتكبر على خلق الله ويمنع حق الله -تعالى- كحال قارون (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)، وكصاحب الجنة في سورة الكهف (قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً)(الكهف:35-36) كلام يقطر فخراً وعجباً وكبراً وجهلاً.
وأصحاب الجنة في سورة القلم يمنعون حق الله -تعالى-، وأيضاً الأقرع والأبرص والأعمى يقول كل واحد منهم: "إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر" ويمنع الحق ويقول: "الحقوق كثيرة"، وينكر فضل الله عليه، وإحسانه إليه بشفائه بعد مرضه، وغناه بعد فقره، وهذا حال كثير من الخلق نسأل الله العافية (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)(سـبأ: من الآية13).
فتجد أحدهم يتقلب في النعيم المادي من العافية، الولد، المال، الأمن، الملبس والمسكن، فينسى فضل الله، بل ينسب ذلك إلى نفسه الجاهلة الظالمة، وينسى أنه لو شاء الله لحول ذلك إلي غيره ونزعه منه، فهو على كل شئ قدير.
وانظر إلى بؤسه أيضاً في حال الضراء، حيث يمتلئ قلبه غيظاً وضيقاً وحرجاً، فيفر من ذلك إلى المخدرات والمسكرات، وربما قتل نفسه وانتحر -عياذاً بالله-، فهو كالمستجير من الرمضاء بالنار، وكل ذلك لعدم إيمانه باليوم الآخر والقضاء والقدر، أو ضعفه، وهذه البلايا يكثر انتشارها بين الكفار والفجار، فتنتشر فيهم الأمراض النفسية، ويكثر بينهم المسكرات والمخدرات لإعراضهم عن هدي ربهم والله -تعالى- يقول: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى)(طه123-126) أعمى البصيرة في الدنيا، أعمى البصر في الآخرة، فنسأل الله العافية.
وختاماً يقول الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهار وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ)(محمد:12).
وصلى الله علي النبي، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.