كتبه/ سعيد السواح
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
أيها المسلم الحبيب
في بعض الأحيان يتبادر إلى ذهن الإنسان أن لو كان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- لفعل وفعل.
لو كان واحداً من الصحابة -رضي الله عنه-م لكان حاله كذا وكذا.
ويظُن في نفسه الخير، ويُرى هذا الندم على وجهه أنه لم يكن وُلد على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فنقول له: (سلوا الله العافية – وهل حاربه إلا قومه؟!)
فنقول لك أيها المسلم الحبيب:
• فماذا تفعل لو كنت مكان فلان أو فلان من الصحابة؟ وكيف يكون تصرفك إذا تعرضت لما تعرض له فلان أو فلان من ألوان المحن والابتلاءات؟!
• أترى أنك سوف تفعل وتتصرف كما فعل وتصرف، أم إن الأمر معك سوف يختلف؟
• كيف بك إذا وقعت عليك المحن، وتعرضت لهذه الشدائد التي تعرض لها هؤلاء الرجال الذين اختارهم الله -تعالى- لصحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ولإقامة دينه؟
فهذه صورة ونماذج لبعض المحن التي تعرض لها الصحابة، وما عليك أيها الحبيب إلا أن تضع نفسك في مكان كل محنة تعرض لها أمثال هؤلاء الرجال، فتنظر من حالك أكنت تستطيع التحمل والصمود أمام هذه الشدائد كما صمد هؤلاء الأفذاذ؟
(1) سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-:
يقول سعد -رضي الله عنه-: "وما إن سمعت أمي بخبر إسلامي، حتى ثارت ثائرتها، وكنت فتى باراً بها محباً لها، فأقبلت علي تقول: يا سعد، ما هذا الدين الذي اعتنقته، فصرفك عن دين أمك وأبيك، والله لتدعن دينك الجديد، أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت، فيتفطر فؤادك حزناً علي، ويأكلك الندم على فعلتك التي فعلت، وتعيرك بها الناس أبد الدهر".
فهذا لاشك اختبار صعب تعرض له سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-، ولكن كيف تصرف سعد؟ وما هو موقفه أمام هذه المحنة الشديدة؟!
قال سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- لأمه: "لا تفعلي يا أماه، فانا لا أدع ديني لأي شيء".
لكنها مضت في وعيدها، فاجتنبت الطعام والشراب، ومكثت أياماً على ذلك لا تأكل ولا تشرب، فهزل جسمها، ووهن عظمها وخارت قواها.
فجعلتُ ساعة بعد ساعة اسألها أن تتبلغ بشيء من طعام أو قليل من شراب، فتأبى ذلك أشد الإباء، وتُقسم ألا تأكل أو تشرب حتى تموت أو أدع ديني عند ذلك قلت لها: "إني على شديد حبي لك لأشدُ حباً لله ورسوله، ووالله لو كان كل ألف نفس، فخرجت منك نفساً بعد نفس ما تركت ديني هذا لشيء".
يقول سعد:
فلما رأت الجد مني أذعنت للأمر وأكلت وشربت في كره منها، فأنزل الله -تعالى- بهذا الشيء قرآناُ يُتلى ويُتعبد به إلى يوم القيامة: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) [لقمان:15].
فلا مقامرة بالدين، كما قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ) [البقرة:165].
فما حالك أيها المسلم لو كنت مكان سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- ببره وحبه لأمه؟ ولكن ما كان له أن يدع طاعة أوجبها الله علينا كمطلب لوالديه، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وقد يبتلى المرء بأدنى من ذلك من والديه، فلا يستطيع أن يصبر، كأن يأمره أحد الوالدين بحلق اللحية أو عدم الالتزام مع هذه المجموعة في المسجد أو بخلع النقاب، أو بعدم حضور دروس العلم، أو بعدم النزول لصلاة الفجر، أو غير ذلك فيضعف أمام إصرار الوالدين.
أبعد ذلك لك أن تقول: آه لو كنت في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-؟!
(2) خباب بن الأرت -رضي الله عنه-:
قامت أم أنمار الخزاعية بشراء خباب بن الأرت من سوق النخاسين (بائعوا العبيد) ودفعته إلى قين (حداد)؛ ليعلمه صناعة السيوف، ولما تمكن خباب بن الأرت من الصنعة، واشتد ساعده وصلب عوده استأجرت له أم أنمار دكاناً، واشترت له عدة وجعلت تستثمر مهاراته في صنع السيوف.
ولما وصل إلى مسمع خباب بن الأرت مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- مضى إليه وسمع منه، فبسط إليه يديه، وشهد أن لا اله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فكان -رضي الله عنه- سادس ستة أسلموا على وجه الأرض، ولم يكتم خباب إسلامه عن أحد، فلما بلغ خبره إلى أم أنمار استشاطت غضباً وغيظاً وصحبت أخاها سباع بن عبد العزى، ولحق بهما جماعة من فتيان خزاعة، ومضوا جميعاً إلى خباب، وانهالوا عليه، وجعلوا يضربونه بأيديهم ويركلونه بإقدامهم، ويقذفونه بما يصلون إليه من المطارق وقطع الحديد حتى هوى إلى الأرض فاقد الوعي والدماء تنزف منه.
والأمر لم يتوقف في تعذيب خباب -رضي الله عنه- عند هذا الحد.
ولكن كانت إذا اشتدت الهاجرة وغدت أشعة الشمس تلهب الأرض إلهاباً أخرجوه إلى بطحاء مكة، ونزعوا عنه ثيابه وألبسوه دروع الحديد ومنعوا عنه الماء، حتى إذا بلغ منه الجهد كل مبلغ اقبلوا عليه، وقالوا: ما تقول في محمد، فيقول:
عبد الله ورسوله جاءنا بدين الهدى والحق؛ ليخرجنا من الظلمات إلى النور.
فيوسعونه ضرباً ولكماً ويأتون بالحجارة المحمية ويلصقونها بظهره ويبقونها عليه حتى يسيل دهن كتفيه.
أما أم أنمار فلم تكن أقل قسوة من أخيها سباع، فكانت تجيء خباب يوماً بعد يوم، فتأخذ حديدة محمية كبيرة، فتضعها على رأسه حتى يدخن رأسه ويغمى عليه.
ودخل ذات يوم على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في خلافته، فأعلى عمر مجلسه، وبالغ في تقريبه، وقال له: "ما أحد أحق من بهذا المجلس غير بلال"، ثم سأله عن أشد ما لقي من أذى المشركين فاستحيا أن يجيبه، فلما ألح عليه أزاح رداءه عن ظهره، فجفل (نفر مما رأى) عمر مما رأى، وقال: كيف سار ذلك؟
فقال خباب -رضي الله عنه-: "أوقد المشركون لي حطباً حتى أصبح جمراً، ثم نزعوا عني ثيابي، وجعلوا يجرونني عليه حتى سقط لحمي عن عظام ظهري، ولم يطفئ النار إلا الماء الذي نز من جسدي".
فماذا تفعل أيها المسلم الحبيب لو فعل بك ما فُعل بخباب بن الأرت؟
فلا نقول لك إلا: سلوا الله العافية، إن الله لم يبتلِنا بما ابتلى به هؤلاء الرجال.
(3) عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-:
وهو أول مسلم على ظهر الأرض جهر بالقران بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مكة -وكانوا قلة مستضعفين-، فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهم إياه؟
فقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنا أسمعهم إياه، فقالوا: إنا نخشاهم عليك إنما نريد رجلاً له عشيرة تحميه وتمنعه منهم إذا أرادوه بشر، فقال دعوني؛ فان الله سيمنعني ويحميني.
ثم غدا إلى المسجد حتى أتى مقام إبراهيم في الضحى، وقريش جلوس حول الكعبة، فوقف عند المقام وقرأ -رافعاً به صوته-: (الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن ].
ومضى يقرأها، فتأملته قريش وقالت: ماذا قال ابن أم عبد؟! تباً له، إنه يتلو بعض ما جاء به محمد.
وقاموا إليه وجعلوا يضربون وجهه وهو يقرأ، حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه، والدم يسيل منه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك. فقال: والله ما كان أعداء الله أهون في عيني منهم الآن، وان شئتم لأغادينهم بمثلها غداً: قالوا: حسبك، لقد أسمعتهم ما يكرهون.
فهل أسمعت أنت أحداً، وهل دعوت أحداً لدين الله -تعالى-؟ فما حالك إذا دعوت أحداً أو أنكرت عليه منكراً، فرمقك بعينه، أو أسمعك ما لا تحب، أو سفه كلامك فإنك لا تعود لهذه الكرة مرة ثانية!
فما كنت فاعلاً لو كنت في موقف ابن مسعود أكنت تتحمل ما تحمله في هذا الموقف؟ أكنت تستطيع أن تتلو على القوم من كلام ربك، وهم يتربصون بك الدوائر بل لا يتورعون أن يقوموا بقتلك.
(4) مصعب بن عمير -رضي الله عنه-:
كان مصعب -رضي الله عنه- أنعم غلام بمكة وأجوده حلة، وكان أبواه يحبانه، وكانت أمه مليئة كثيرة المال تكسوه أحسن ما يكون من الثياب وأرقه، وكان أعطر أهل مكة، يلبس الحضرمي من النعال (وهو نعل لا يلبسه إلا الملوك) وبلغ من كلف أمه أن يبيت وقعب الحيس عند رأسه (سمن وتمر تعجن وتأكل)، فلما أسلم مع النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، يقول سعد بن أبي وقاص: لقد رأيته جهد في الإسلام جهداً شديداً، حتى لقد رأيت جلده يتحشف (أي يتطاير).
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلما ذكره قال: (وما رأيت بمكة أحداً أحسن لمة، ولا أرق حلة، ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير)
قال خباب بن الأرت -رضي الله عنه-: "هاجرنا من مكة إلى المدينة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونحن نبتغي وجه الله، فوقع أجرنا على الله -تعالى- فمنا من مضى في سبيله ولم يأكل من أجره شيئاً منهم مصعب بن عمير قُتل يوم أحد، ولم يترك إلا نمرة كنا إذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجلاه بدا رأسه".
فانظر أيها المسلم الحبيب
كيف ضحى بحياة الترف والرغد من أجل ذلك الدين، عادى قومه من أجل ذلك الدين، وحسبك أنه أول سفير في الإسلام حيث بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، قبل أن يهاجر إليها -صلى الله عليه وسلم-، فدخل أهلها الإسلام على يديه
فماذا فعلت أنت لهذا الدين؟ وما هي التضحيات التي ضحيت بها من أجل ذلك الدين؟ أم كنت من الذين يضحون بالدين من أجل قومك ومن أجل الدنيا؟
(5) أنس بن النضر -رضي الله عنه-:
الذي وفى بعهده الذي أخذه على نفسه مع ربه.
يقول أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين؛ لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرن الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلون، قال: "اللهم إني اعتذر إليك مما صنع هؤلاء (أي الصحابة)، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء (أي المشركين)"، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ -رضي الله عنه- فقال، يا سعد بن معاذ، الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد، قال: فما استطعت يا رسول الله ما صنع.
قال أنس بن مالك -رضي الله عنه- كنا نظن أو نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب:23].
فقل بربك أيها المسلم الحبيب..
أكنت تقوى على فعل أنس بن النضر أم كنت الأعذار والمبررات، أتعلم ما معنى هذه الطعنات والضربات التي ما تركت جزءاً من جسده إلا وكانت به إصابة، فنقول لك كفى ببريق السيف فتنة، ماذا كنت صانعاً وقد رأيت الكفار يرفعون سيوفهم البراقة، ويعمدون ويحرصون في ذلك على قتلك.
ماذا كنت فاعلاً عندما ترى هذه النبل والسهام، وهي في طريقها لتستقر في بدنك؟
ماذا كنت فاعلاً وأنت ترى هذه الوجوه الكافرة التي هي أحرص على إقصائك من الحياة؟
أكنت فعلاً موفياً كما وفى أنس بن النضر -رضي الله عنه-؟
فلا نملك إلا أن نقول: (سلوا الله العافية)
ما هذه إلا بعض نماذج لجيل فريد اختاره الله -تعالى- لصحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ولا إقامة دينه، فكانوا كما وصفهم الله -تعالى-: (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ).
وعليك أيها الحبيب:
قبل أن تطوى هذه الصفحات أن تنظر: ما الدوافع التي جعلت هؤلاء يحملون أمثال هذه الشدائد دون توجع ودون مقامرة بدينه.
وانظر إلى حالك:
لماذا غابت عنا هذه الدوافع التي كانت عند الصحابة -رضي الله عنهم- فمن هنا يبدأ تصحيح المسار.