كتبه/ محمد الجهمي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
إن الأسباب التي أدت إلى توهين وإضعاف أمتنا الإسلامية كثيرة، والعصبية بشتى أشكالها وألوانها واحدة من أهم تلك الأسباب، لذلك أحببنا أن نشير إشارة سريعة إلى هذا المرض -مرض العصبية- الذي عانى منه المسلمون كثيراً ولا يزالون يعانون منه حتى اليوم، بل إن معاناتهم اليوم أشد مما وقع في عصورِ سابقة.
مفهوم العصبية:
العصبية منسوبة إلى العصبة، وعصبة الرجل أقاربه من جهة أبيه، سمُّـوا عصبة لإحاطتهم به إحاطة العصابة بالرأس.
قال ابن منظور: "وعصبة الرجل الأقارب من جهة الأب لأنهم يعصبونه ويعتصب بهم أي يحيطون به ويشتد بهم".
ولا يحصر الإسلام مفهوم العصبية المقيتة في نصرة المرء لقومه فحسب، بل يعديه إلى كل أنواع الولاءات التي يقوم التناصر فيها على أساس من ذلك الانتماء وهو نصرة الرجل القوم الذين ينتمي إليهم، سواء أكانوا محقين أو مبطلين، فالذي ينصر أهل مذهبه أو أهل قريته أو أهل مدينته وموطنه أو ينصر أهل لونه، كل ذلك هو من العصبية المزعومة.
أما الذي يناصر من ينتمي إليهم إذا كانوا محقين ويمنعهم عن ظلمهم إذا كانوا ظالمين فليس ذلك من العصبية، فقد حول الإسلام المفهوم الخاطئ لشعار أهل الجاهلية: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" إلى مفهوم صحيح ببيان أن نصرة الأخ الظالم تكون برده وكفه عن ظلمه، ذلك أنك بكفك إياه عن الظلم تنصره على نفسه وهواه وشيطانه، وتنجيه في الدنيا مما يمكن أن يحيق به من غضب ربه، وفي الآخرة تمنعه من النار.
أضرار العصبية:
الذي يتعصب لأهل وطنه أو قبيلته وجنسه يظن نفسه من طينة غير طينة البشر، ولذا فإنه يتعاظم في نفسه ويعظم في عينيه من يتعصب لهم ويرى غيرهم دونهم في الفضل والمكانة، ويرى أن من حقه أن يسود وتسود أمته، وبذلك ينشأ الصراع بين المسلمين بناءً على تصورات فاسدة موهومة.
وقد حولت العصبية الجاهلية العرب إلى أعداء وحولت الجزيرة العربية إلى ساحة صراع، وقد أخبرنا ربنا بالحال الذي كان أهل الجاهلية عليه في قوله -تعالى-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً)(آل عمران:103).
وإذا طالعنا تاريخ العرب قبل الإسلام؛ لا نجد وصفاً للعلاقة التي كانت سائدة بينهم أدق من التعبير القرآني (أَعْدَاءً) وليس هذا الوصف قصراً على عرب الجاهلية، بل ينطبق على كل من تعصب تعصبهم وسار مسيرتهم.
أنواع العصبية:
النوع الأول:
عصبية القرابة والنسب: وهي أن يتعصب المرء لأهل قرابته ونسبه محقين كانوا أو مبطلين، ولا يزال لهذه العصبية وجود حتى اليوم؛ ولازلنا نرى في أيامنا هذه حروباً طاحنة في مختلف دول العالم يتسبب في إثارتها اختلاف الأعراف والقبائل والأجناس.
النوع الثاني:
التعصب للمبادئ والمذاهب وقد شكل أصحاب هذا النوع من العصبية تيارات وتجمعات في العالم الإسلامي، فترى الفرد من هذه الجماعات يناصر جماعته سواء كانوا محقين أم مبطلين، وبعض هذه التجمعات لا تسمح للفرد أن يخالف الجماعة بحال من الأحوال وإلا مصيره الطرد من إطارها.
قد يقال: فاتباع الإسلام ومناصرته هو أيضاً عصبية!!
والجواب:
أن الإسلام دين الله وهو حق الله، ومتابعة الحق ليس من العصبية في شيء، أما مناصرة المسلم للمسلم ومناصرته لأمة الإسلام فإن الواجب على المسلم حتى يتخلص من العصبية أن ينصرهم إذا كانوا مستمسكين بالحق قائمين عليه، فإذا حادوا عنه وجب عليه نصحهم وردهم عن ظلمهم وخطئهم.
والتجمعات الإسلامية لا يكون أتباعها متعصبين لها إذا تابعوها في حال استقامتها على الإسلام، ونصحوا لها حينما تخالف أمراً من أموره أو حكماً من أحكامه، فإن كانت الجماعة لا تسمح لأفرادها بالمخالفة والمعارضة وكان الأفراد ملزمين بالمتابعة في كل حال فتلك عصبية يرفضها الإسلام.
النوع الثالث:
العصبية الإقليمية: وهذه العصبية نشأت بعد تشكل الكيانات السياسية في العالم الإسلامي على إثر انهيار دولة الخلافة، وقد كانت تجزئة الدولة الإسلامية والأمة الإسلامية هدفاً من أهداف أعداء الإسلام، وقد نجح أعداء الإسلام في تحقيق هدفهم هذا فضعفت الأمة الإسلامية، وسهل على أعدائنا السيطرة علينا والتلاعب بنا.
وقد كان سبب اندثار الأندلس وزوال ملك المسلمين فيها هو انقسامها إلى دول وممالك، فقد وقع الصراع والقتال فيما بينها حتى زال ملك المسلمين من تلك الديار.
ها هو التاريخ يعيد نفسه؛ فقد قُسمت الأمة الإسلامية إلى دول فاقت على الخمسين، وأخذ القائمون على الأمر في كل قطر ينفخون في المسلمين القاطنين في قطرهم ويذكون فيهم روح العصبية، وبدأت تتشكل لكل أهل قطر عصبية يعتزون بها، فالمصري يظن أنه يملك من الخصائص ما يميزه على غيره، وكذلك السعودي والفلسطيني والكويتي، وبدأ هذا الداء يسري حتى إلى حملة الدعوة الإسلامية بشكل أو بآخر وثارت الحروب بين هذه الكيانات في بعض الأحيان.
أما النزاعات فيما بينها على الحدود المشتركة فأمر سارت بأخباره الركبان.
أما تخصيص المكاسب المغانم والوظائف بأهل ذلك القطر وتقديمهم على غيرهم، ومنع غير أصحاب ذلك القطر من دخول البلد إلا بإذن، فأصبح وكأنه أمر مقرر لا ينازع فيه، وكلما امتد الزمان ترسخت العصبيات الإقليمية في ديار الإسلام حتى أنها امتدت إلى أهل القطر الواحد، فتجد أهل كل ناحية منه يتعصبون لها فهنا في مصر مثلاً نجد الإسكندراني والمصراوي والصعيدي والبحراوي والمنوفي والكفراوي -نسبة إلى مدينة كفر الشيخ- والدمياطي وغير ذلك.
كل واحد يتعصب إلى ناحيته وربما في سبيل ذلك يسفكون دماء غيرهم وتسفك دماؤهم.
النوع الرابع:
عصبية اللون: وتأثير هذا النوع ضعيف في الأمة الإسلامية فألوان البشر في عالمنا الإسلامي قلما توجد مشكلة، ولكن هذا النوع متعمقة جذوره في عالم الغرب.
موقف الإسلام من العصبية:
توالت التوجيهات النبوية محذرة من العصبية الجاهلية بشتى أنواعها، وهي تحذيرات مخيفة ترهب الذين يخشون ربهم ويخافون وقوفهم بين يديه.
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات ميتة جاهلية ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لِعَصَبَةٍ أو يدعو إلى عَصَبَةٍ أو ينصر عَصَبَةً فقتل فقتْلةٌ جاهلية)، وفي رواية عند مسلم: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات ميتة جاهلية ومن قتل تحت راية عمية يغضب للعَصَبَة ويقاتل للعَصَبَة فليس من أمتي).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الْجِعْلانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتِنَ)(رواه أبو داود وحسنه الألباني)، وروى أبو داود بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: (مَنْ نَصَرَ قَوْمَهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ فَهُوَ كَالْبَعِيرِ الَّذِي رُدِّيَ فَهُوَ يُنْزَعُ بِذَنَبِهِ)(رواه أبو داود، وقال الألباني صحيح موقوفاً ومرفوعاً).
إن التجمع والتناصر على أساس العصبية الجاهلية يناقض أصول الإسلام وتعاليمه.
إن المسلم الذي آمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- رسولاً، يمتلئ قلبه بحب الله -تبارك وتعالى- وحب الذين يحبهم الله -جلا وعلا-، وبغض الذين يبغضهم، فهو يوالي أحباب الله ويناصرهم ويبغض أعداء الله ويعاديهم.
إن الموقف الذي يجب على المسلم أن يقفه من قومه إن تنكبوا الطريق وخالفوا الدين الذي جاءهم من عند الله، هو موقف إبراهيم -عليه السلام- والذين آمنوا معه: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)(الممتحنة:4).
إن التجمع الذي يريده الإسلام ويرتضيه هو الاجتماع على الإسلام، فالإسلام يصلح القلوب والنفوس ويشكل من المؤمنين به أمة واحدة تتراص صفوفها حتى تشكل بناءً واحداً هو دولة الإسلام، وتصبح أمة الإسلام كالجسد الواحد الذي تسري فيه روح واحدة والمسلمون يتناصرون ويوالي بعضهم بعضاً بالإسلام وبه يرحم بعضهم بعضاً ويعاون بعضهم بعضاً، فهم يد على من سواهم كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) متفق عليه.
إن ميزان التفاضل لا يعود في الإسلام إلى الأجناس والألوان والأقاليم، بل يعود إلى التقوى والصلاح (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )(الحجرات:13)، وهو ميزان عالمي إلهي رباني، ولقد صهر الإسلام الأجناس والشعوب والقبائل في بوتقة واحدة على الرغم من اختلاف ديارهم ولغاتهم وألوانهم، وشكلوا جميعاً دولة واحدة يحكمها حاكم واحد يقودها بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
لقد رسم لنا القرآن طريق الخلاص من دنس العصبية بقوله: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)، والمناداة بالعصبية تنافي الاعتصام بحبل الله، وهي في الوقت نفسه دعوة إلى الفرقة والاختلاف وردة إلى الجاهلية الأولى، حيث جعلت العصبية الأمة الإسلامية أمة متعادية، وقد ذكَّرنا الله بحالهم تلك محذراً من عودتنا إليها (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً).
فليعلم المسلمون أن رفعهم لراية العصبية يذلهم ويضعفهم ويسلط أعداؤهم عليهم، وهاهي الأحداث شاهدة على صدق ما نقول.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يؤلف بين قلوبنا، وينزع الغل والحقد والحسد والضغينة من صدورنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.