تحقيق المحبة الصادقة له -صلى الله عليه وسلم-
كتبه/ عصام حسنين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
إن محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- واجبة، ويجب تقديمها على النفس والوالد والولد؛ لقول الله -تعالى-: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)(الأحزاب:6)، ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) رواه مسلم، وفي رواية له أيضاً: (حتى أكون ِأحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين).
قال الخطابي -رحمه الله-: "معناه: لا تصدق في حبي حتى تفني في طاعتي نفسك، وتؤثر رضاي على هواك، وإن كان فيه هلاكك".
وقال ابن بطال -رحمه الله-: "معناه: أن من استكمل الإيمان علم أن حق النبي -صلى الله عليه وسلم- آكد عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعين، لأن به -صلى الله عليه وسلم- استنقذنا من النار، وهدينا من الضلال".
وقال القاضي عياض -رحمه الله-: "ومن محبته -صلى الله عليه وسلم- نصرة سنته، والذب عن شريعته، وتمني حضور حياته، فيبذل ماله ونفسه دونه. وإذا تبين أن حقيقة الإيمان لا يتم إلا بذلك، ولا يصح الإيمان إلا بتحقيق إعلاء قدر النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومنزلته على كل والد وولد ومحسن ومفضل، ومن لم يعتقد هذا، واعتقد سواه، فليس بمؤمن". أ.هـ من شرح مسلم2/ 19.
كما أن محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- سبب لتحصيل لذة الإيمان وحلاوته، قال -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما...) متفق عليه.
درجات محبة النبي -صلى الله عليه وسلم-
قال ابن رجب -رحمه الله-:
"محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- على درجتين:
إحداهما: فرض، وهي المحبة التي تقتضي قبول ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من عند الله، وتلقيه بالمحبة والرضا والتعظيم والتسليم، وعدم طلب الهدى من غير طريقه بالكلية، ثم حسن الاتباع له فيما بلغه عن ربه من تصديقه في كل ما أخبر به، وطاعته فيما أمر به من الواجبات، والانتهاء عما نهى عنه من المحرمات، ونصرة دينه، والجهاد لمن خالفه بحسب القدرة، فهذا القدر لابد منه، ولا يتم الإيمان بدونه.
والدرجة الثانية: فضل، وهي المحبة التي تقتضي حسن التأسي به، وتحقيق الاقتداء بسنته في أخلاقه وآدابه ونوافله وتطوعاته وأكله وشربه ولباسه، وحسن معاشرته لأزواجه، وغير ذلك من آدابه الكاملة وأخلاقه الطاهرة، والاعتناء بمعرفة سيرته وأيامه، واهتزاز اللب عند ذكره، وكثرة الصلاة عليه لما سكن في القلب من محبته وتعظيمه وتوقيره، ومحبة استماع كلامه وإيثاره على كلام غيره من المخلوقين.
- ومن أعظم ذلك: الاقتداء به في زهده في الدنيا والاجتزاء باليسير منها، ورغبته في الآخرة." أ.هـ من (استنشاق نسيم الأنس صـ34/35).
بواعث محبة النبي -صلى الله عليه وسلم-
لابد وأن نستثير محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في أنفسنا، وذلك بما يلي:
أولاً: أن نوافق الله -تعالى- في مراده، لأن الله -تعالى- قد اتخذه -صلى الله عليه وسلم- خليلاً.
ثانياً:" أن نعلم أن مقتضى الإيمان به -صلى الله عليه وسلم- محبته وتوقيره ومحبته على محبة كل أحد، ونصرته بكل مستطاع.
قال الله -تعالى-: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(الأعراف:157).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
"التعزير اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه، والتوقير اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم ما يصونه عن كل ما يخرجه عن حدّ الوقار". أ.هـ. من الصارم المسلول 1/45.
ثالثاً: التعرف على خصائصه ومميزاته التي ميزه الله به، وهي كثيرة عظيمة شريفة تجدها في كتب المناقب من دواوين السنة.
رابعاً: التفكر في جهاده -صلى الله عليه وسلم- حق جهاده حتى أتاه اليقين من ربه -تعالى-، وكذلك التفكر في رحمته وشفقته وحرصه على هداية قومه والأمثلة على ذلك كثيرة من سيرته -صلى الله عليه وسلم-.
وكذلك التفكر في هذا الخير الذي نحن فيه من الهداية والإيمان، فقد هدانا الله به، وأخرجنا الله به من الظلمات إلى النور، فهو أول المسلمين، وأول المؤمنين، وأول الداعين إلى الله -تعالى-.
خامساً: كثرة الصلاة والتسليم عليه -صلى الله عليه وسلم-، قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(الأحزاب:56).
وهذا تكريم الله لرسولنا -صلى الله عليه وسلم-، ومن رَفْع ذكره، إذ أطبق أهل السموات والمؤمنون من أهل الأرض على الصلاة عليه -صلى الله عليه وسلم-.
وفوق ذلك صلاة الله -تعالى- عليه، وهي الثناء عليه في الملأ الأعلى!
وهذه الآية مع أحاديث أخر دليل على وجوب الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا ذُكِر، وأما ابتداءً فهو استحباب، لأن الله أمر بها، والأمر يفيد الوجوب، وقول جبريل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك)(رواه البيهقي وصححه الألباني).
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (البخيل من ذُكِرتُ عنده فلم يصلّ عليّ)(رواه الترمذي وصححه الألباني)، وجعل الله -تعالى- الثواب العظيم في الصلاة والسلام عليه -صلى الله عليه وسلم-، فعن أبي بن كعب -رضي الله عنه- قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخرج في ثلثي الليل فيقول: جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه. وقال أبي: يا رسول الله، إني أصلي من الليل، أفأجعل لك ثلث صلاتي؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: الشطر -أي النصف-. قال: أفأجعل لك شطر صلاتي؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: الثلثان أكثر.قال: أفأجعل لك صلاتي كلها؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: إذن يغفر لك ذنبك كله)(رواه أحمد والترمذي، وقال الألباني حسن صحيح).
ومعناه أن أُبياً -رضي الله عنه- أراد أن يجعل من الليل وقتاً معيناً للصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: إذا جعلت هذا الوقت من الليل كله للصلاة علي يغفر ذنبك كله.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (من صلى عليّ حين يصبح عشراً، وحين يمسي عشراً، أدركته شفاعتي يوم القيامة)(رواه الطبراني وحسنه الألباني).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات وحطت عنه عشر خطيئات ورفعت له عشر درجات)(رواه النسائي وصححه الألباني).
- والدعاء محجوب حتى يصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (كل دعاء محجوب حتى يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم)(رواه بقي بن مخلد في المنتقى، حسن بشواهده).
- وجعل الله -تعالى- ملائكة خاصة سياحين في الأرض يبلغون النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أمته السلام حيث قال -صلى الله عليه وسلم-: (إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام)(رواه النسائي وصححه الألباني).
- وأي مجلس لا يذكر فيه الله -تعالى-، ولا يصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه إلا كان على أهله حسرة يوم القيامة، قال -صلى الله عليه وسلم-: (ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله -تعالى- فيه، ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة -أي: حسرة-، فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم)(رواه الترمذي وصححه الألباني).
- وأمرنا -صلى الله عليه وسلم- أن نكثر من الصلاة والسلام عليه في يوم الجمعة حيث قال: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي فقالوا يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت أي بليت فقال قال إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء)(رواه أبو داود وصححه الألباني).
حبّ الصحابة للنبي -صلى الله عليه وسلم-
لقد عبَّر عليٌّ -رضي الله عنه- عن محبة الصحابة للنبي -صلى الله عليه وسلم- أصدق تعبير بقوله: "كان أحب إلينا من أنفسنا وأموالنا وأولادنا وأهلينا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ".
وانظر لشهادة عروة بن مسعود قبل إسلامه لصحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتوقيرهم وحبهم الشديد له -صلى الله عليه وسلم-، يقول عروة بن مسعود -رضي الله عنه-: (والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيما له) رواه البخاري.
وانظر أيضاً لشهادة أبي سفيان -رضي الله عنه- قبل إسلامه، وهو يقول لزيد بن الدثنة -رضي الله عنه- حين قدموه ليقتلوه: "أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ قال: والله، ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة توذيه، وأنا جالس في أهلي. قال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً" رواه ابن إسحاق.
وانظر إلى الرجل الذي لا نعرفه ولكن الله يعرفه، الذي جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: (إنك لأحب إلي من نفسي، وإنك أحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وأني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يرد عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئاً حتى نزل جبريل بهذه الآية: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً)(رواه الطبراني بسند حسن).
وكذلك الرجل الذي سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- متى الساعة؟ قال: (إنها لآتية، فما أعددت لها؟ قال: لم أعد لها كثير صلاة ولا صيام غير أني أحب الله ورسوله. فقال -صلى الله عليه وسلم-: المرء مع من أحب. قال أنس -رضي الله عنه-: فما فرح الصحابة بشيء فرحهم بهذا. قال أنس: وأنا أحب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر)(رواه الترمذي وصححه الألباني).
قلت: وأنا أحب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر وباقي العشرة والصحابة أجمعين والصالحين من هذه الأمة!
- ويقول عمرو بن العاص -رضي الله عنه-: (ما كان أحد أحب إلي من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا أجلَّ في عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه) رواه مسلم.
- وعمر -رضي الله عنه- يقول للعباس -رضي الله عنه- يوماً: (إن تُسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب، لأن ذلك أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)(رواه البيهقي والبزار).
- بل ووصل الأمر ببعضهم أن يحب الطعام الذي كان -صلى الله عليه وسلم- يحبه، ففي الصحيح عن أنس -رضي الله عنه- قال في حديث الخياط الذي دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- لطعام صنعه، وفيه: (فرأيت الرسول صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء -القـَرْع- من حوالي الصحفة. فلم أزل أحب الدباء من يومئذ) متفق عليه.
قال النووي: "يستحب أكل الدباء، وكذلك كل شيء كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحبه، وأن يحرص على تحصيل ذلك" شرح مسلم 13/224.
- وأيضاً جابر -رضي الله عنه- استضافه الرسول -صلى الله عليه وسلم- يوماً في بيته، فلم يكن في البيت إلا فِلق من خبز وخل، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (نعم الإدام الخل)، يقول جابر: فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من نبي الله -صلى الله عليه وسلم-. وقال طلحة بن نافع: "ما زلت أحب الخل منذ سمعتها من جابر" رواه مسلم7/14.
والأخبار في ذلك كثيرة جداً، ولو تتبعناها لطال بنا المقام، وفيما ذكرنا كفاية للمحب الصادق.
جعلنا الله -تعالى- منهم، وجعلنا ممن يقومون بواجبات وحقوق المصطفى -صلى الله عليه وسلم- على الوجه الذي يُرضي الله -تعالى- عنا. آمين.