تحقيق الاتباع الصحيح للنبي -صلى الله عليه وسلم-
كتبه/ عصام حسنين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
إن العباد مضطرون فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وما جاء به، وتصديقه فيما أخبر به، وطاعته فيما أمر.
فلا سعادة ولا فلاح إلا من طريقه -صلى الله عليه وسلم-، ولا معرفة للخير من الشر، وللطيب من الأقوال والأعمال والأخلاق إلا من هديه -صلى الله عليه وسلم-.
وبمتابعته -صلى الله عليه وسلم- يتميز أهل الهدى من أهل الضلال.
قال الله -تعالى-: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(النور:54)، لأنه يدعو إلى صراط مستقيم (صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)(الشورى:53) أ.هـ. تفسير ابن كثير 3/ 309.
وقال -تعالى-: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(النور:56). "يأمر -تعالى- عباده المؤمنين بإقامة الصلاة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وإيتاء الزكاة، وهي الإحسان إلى المخلوقين ضعفائهم وفقرائهم، وأن يكونوا في ذلك مطيعين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أي: سالكين وراءه فيما به أمرهم، وترك ما عنه زجرهم، لعل الله يرحمهم بذلك، ولاشك أن من فعل هذا أن الله سيرحمه كما قال الله -تعالى- في الآية الأخرى: (أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ)(التوبة:71). أ.هـ. السابق3/311.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري) رواه أحمد بسند صحيح.
قال ابن القيم: "إن الله -تعالى- أرسله رحمة للعالمين، وإماماً للمتقين، وحجة على الخلائق أجمعين. أرسله على حين فترة من الرسل، فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل، وأوجب على عباده طاعته وتوقيره وتعزيره ومحبته، والقيام بحقوقه، وسد دون جنته الطرق، فلم تفتح إلا من طريقه، فشرح له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، والعزة لأهل طاعته ومتابعته.
وبحسب متابعة الإنسان الرسولَ -صلى الله عليه وسلم-، تكون العزة والكفاية والنصرة، كما أن بحسب متابعته تكون الهداية والصلاح والنجاح، فقد علق الله السعادة والفلاح في الدارين بمتابعته، وجعل الشقاوة في الدارين في مخالفته" أ.هـ. زاد المعاد 1/5.
قال الله -تعالى-: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)(الكهف:110)، "أي: من كان يرجو ثوابه وجزاءه الصالح، ورؤيته أيضاً، لأن اللقاء يتضمن الرؤية (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً)، موافقاً لشرع الله (وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)، وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له، وهذان ركنا العمل المتقبل لابد أن يكون خالصاً لله، وصواباً على شريعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". أ.هـ. تفسير ابن كثير 3/112.
وقال -تعالى-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(الحشر:7)، "أي مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه يأمر بخير وإنما ينهى عن شر". أ.هـ. ابن كثير 4/336.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه).
وفي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -تعالى-: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).
قال النووي -رحمه الله-: "قال أهل العربية: الرد هنا بمعنى المردود، ومعناه فهو باطل غير معتد به، وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه -صلى الله عليه وسلم-، فهو صريح في رد كل البدع والمخترعات، وفي الرواية الثانية زيادة وهي أنه قد يعاند بعض الفاعلين في بدعة سُبـِق إليها، فإذا احتج عليه بالرواية الأولى يقول: أنا ما أحدثت شيئاً، فيحتج عليه بالرواية الثانية التي فيها التصريح برد كل المحدثات سواء أحدثها الفاعل أو سبق بإحداثها.
وفي هذا الحديث دليل لمن يقول من الأصوليين: "إن النهي يقتضي الفساد"، ومن قال: "لا يقتضي الفساد" يقول: "هذا خبر واحد، ولا يكفي في إثبات هذه القاعدة المهمة" وهذا جواب فاسد.
وهذا الحديث مما ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات، وإشاعة الاستدلال به". أ.هـ. شرح مسلم 12/16.
قلت: وهذا كلام متين من الإمام النووي -غفر الله له ورحمه- يدل على أنه من أهل السنة والاتباع لا من أهل البدعة والاختلاف، وإن كان من خطأ وقع فيه، فنسأل الله -تعالى- أن يغفره له.
أخي الكريم -بارك الله فيك-: إذا تبين لنا ما تقدم فلابد من مراعاة الآداب لكي تتحقق المتابعة الصحيحة للرسول -صلى الله عليه وسلم-.
أولاً: كمال التسليم له، والانقياد لأمره، وتلقي خبره القبول والتصديق دون أن يقدم عليها آراء الرجال وزبالات أذهانهم، كما فعل المبتدعة الضلال وغيرهم ممن قدموا العقل على النقل، فردوا النصوص لتعارضها مع أفهامهم السقيمة -بزعمهم-، فوقعوا في هُوة سحيقة أدت ببعضهم إلى الكفر -عياذاً بالله -تعالى-، ولو علم هؤلاء الجهال الضلاّل أن الشرع حاكم، وأن ما سواه من إنسان أو عقل محكوم، وأنا العقل مع الأدلة وفهمها طريق لاستنباط الأحكام الشرعية، وأن الشرع المحكم المتين من لدن حكيم خبير قد أتى بما تحتار فيه العقول السليمة، ويتوافق مع الفطر المستقيمة لا بما تستحيله هذه العقول؛ ما وقعوا فيما وقعوا فيه من هذا الضلال والخذلان!
قال الله -تعالى-: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ)(الأعراف:3)
"أي: اقتفوا آثار النبي الأمي -صلى الله عليه وسلم- الذي جاءكم بكتاب أنزل إليكم من رب كل شيء ومليكه (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاء)، أي: لا تخرجوا عما جاءكم به الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى غيره، فتكونوا قد عدلتم عن حكم الله إلى حكم غيره (قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) كقوله -تعالى-: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)(يوسف:103) أ.هـ. تفسير ابن كثير2/205.
ثانياً: ألا يتقدم بين يديه -صلى الله عليه وسلم- بأمر ولا نهي، حتى يأمر هو وينهى ويأذن، وهذا باقٍ إلى يوم القيامة لم ينسخ، ولا فرق في هذا التقدم بين يديه في حياته أو بعد وفاته.
قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(الحجرات:1)
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة".
وقال الضحاك: "لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله من شرائع دينكم".
قال القرطبي -رحمه الله-: "لا تقدموا قولاً ولا فعلاً بين يدي الله وقول رسوله وفعله فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر الدين والدنيا، ومن قدَّم قوله أو فعله على الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقد قدمه على الله -تعالى-، لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما يأمر عن الله -عز وجل-". مختصر تفسير القرطبي 5/35.
وقال الجزائري -حفظه الله-: (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي: قولاً ولا عملاً ولا رأياً ولا فكراً. أي: لا تقولوا ولا تعملوا إلا تبعاً لما قال الله ورسوله، وشرع الله ورسوله، (وَاتَّقُوا اللَّهَ) في ذلك، فإن التقدم بالشيء قبل أن يشرع الله ورسوله فيه معنى أنكم أعلم وأحكم من الله ورسوله، وهذه زلة كبرى، وعاقبتها سوأى، ولذا قال: (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ) أي: لأقوالكم، (عَلِيمٌ) بأعمالكم وأحوالكم". أيسر التفاسير 5/121.
وقال ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله-: "وطريق أهل السنة أن لا يعدلوا عن النص الصحيح، ولا يعارضوه بمعقول، ولا قول فلان....، وكما قال البخاري -رحمه الله-: سمعت الحميدي يقول: كنا عند الشافعي -رحمه الله- فأتاه رجل، فسأله عن مسألة، فقال: قضى فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا وكذا. فقال رجل للشافعي: ما تقول أنت؟ فقال: سبحان الله! تراني في كنيسة؟ تراني في بيعة؟ تراني على وسطي زنار؟! أقول لك: قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنت تقول: ما تقول أنت؟ ونظائر ذلك في كلام السلف كثير، وقال -تعالى-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)(الأحزاب:36)". أ.هـ. شرح الطحاوية289.
ومن كلام السلف في ذلك ما رواه الإمام أحمد -رحمه الله- بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "ليس منا أحد إلا يؤخذ من قوله ويُدع غير النبي -صلى الله عليه وسلم-".
وروى البيهقي بسند صحيح عن أبي غطفان قال: كان ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول في الأصابع: عشر عشر "أي: كل أصبع فيه عشر من الإبل"، فأرسل إليه مروان أمير المؤمنين فقال: أتفتي في الأصابع عشر عشر وقد بلغك عن عمر -رضي الله عنه- في الأصابع، فقال ابن عباس: "رحم الله عمر، قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحق أن يتبع من قول عمر -رضي الله عنه-".
وبسند صحيح أن ابن عباس -رضي الله عنهما- أفتى بوجوب التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال رجل: إن أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- لا يريان التمتع بالعمرة إلى الحج، ويريان أن إفراد الحج أفضل، فقال -رضي الله عنه-: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء؛ أقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقولون: قال أبو بكر وعمر!"
وقال الإمام أبو حنيفة -رحمه الله-: "إذا جاء الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة -رضي الله عنهم- فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن التابعين فنحن رجال وهم رجال".
أي: في الاجتهاد؛ فهو إمام مجتهد -رحمه الله-.
وقال أيضاً -رحمه الله-: "إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه، فاتركوا قولي لكتاب الله. قيل: إذا كان قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخالفه؟ قال:اتركوا قولي لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-. وقيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه؟ قال: واتركوا قولي لقول الصحابة.
وقال الإمام مالك -رحمه الله-: "ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر -صلى الله عليه وسلم-".
وقال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن له أن يدعها لقول أحد".
وقال أيضاً -رحمه الله-: "إذا صح الحديث بما يخالف قولي فاضربوا بقولي الحائط".
وقال الإمام أحمد -رحمه الله-: "عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، ويذهبون إلى رأي سفيان"، والله -تعالى- يقول: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(النور:63) أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك".
وجميع الأئمة -رحمهم الله- قالوا لتلاميذهم: "إذا صح الحديث فهو مذهبي".
أي: سواء في حياتي ولم أعلم به، أو بعد مماتي فأنا تارك قولي، وذاهب إليه.
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "أقسم الله -تعالى- بأنه لا يؤمن أحد حتى يحكمه -صلى الله عليه وسلم- في كل ما ينازع هو وغيره فيه، ثم يرضى بحكمه، فليس لأحد أن يختار شيئاً بعد أمره -صلى الله عليه وسلم-، بل إذا أمر فأمره حتم، وإنما الخيرة في قول غيره إذا خفي أمره -صلى الله عليه وسلم-، وكان ذلك الغير من أهل العلم به وبسنته، فبهذه الشروط يكون قول غيره سائغ الاتباع لا واجب الاتباع، فلا يجب على أحد اتباع قول أحد سواه، بل غايته أنه يسوغ له اتباعه، ولو ترك الأخذ بقول غيره لم يكن عاصياً لله ورسوله، فأين هذا ممن يجب على جميع المكلفين اتباعه، ويحرم عليهم مخالفته، ويجب عليهم ترك كل قول لقوله؟! فلا حكم لأحد معه...". أ.هـ. زاد المعاد صـ5.
وقال أيضاً -رحمه الله-: "ومن الأدب معه -صلى الله عليه وسلم-: أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه... من خطبة أو جهاد أو رباط أو غيره كما قال الله -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ...)(النور:62).
إذا كان هذا في أمر عارض، فكيف بمذهب مطلق في تفاصيل الدين أصوله وفروعه، هل يشرع الذهاب إليه قبل استئذانه (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(النحل:43).
فقبل أن تعمل عملاً أو تقول قولاً فارجع إلى سنته -صلى الله عليه وسلم- واستأذنه فيها!!
- ومن الأدب معه:
ألا تستشكل قوله، بل تستشكل الآراء لقوله، ولا تعارض نصه بقياس، بل تهدر الأقيسة لنصوصه، ولا يوقف قبوله على قبول ما جاء به -صلى الله عليه وسلم- على موافقة أحد، فكل هذا من قلة الأدب معه -صلى الله عليه وسلم-، وهو عين الجرأة"
وقال أيضاً -رحمه الله-: "ومن الأدب معه -صلى الله عليه وسلم- عدم رفع الصوت فوق صوته، فإنه سبب لحبوط العمل، فما ظنك برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنته وما جاء به". أ.هـ. من مدارج السالكين3/365 وما بعدها.
قال القاضي ابن العربي -رحمه الله-: "حرمة النبي -صلى الله عليه وسلم- ميتاً كحرمته حياً، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثال كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه، وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به.
وقد نبه الله -سبحانه- على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(الأعراف:204)، وكلامه -صلى الله عليه وسلم- من الوحي، وله من الحكمة مثل ما للقرآن، إلا معاني مستثناة، بيانها في كتب الفقه". أ.هـ. من مختصر تفسير القرطبي 5/ 37.
كان الإمام مالك -رحمه الله- إذا أراد أن يحَدث توضأ وضوءه للصلاة، ولبس أحسن ثيابه، وتطيَّب ومشط لحيته، فقيل له في ذلك، فقال: أوقِّر به حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وكان يكره -رحمه الله- أن يحدث بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الطريق أو وهو قائم أو مستعجل.
وقال مصعب بن عبد الله: "كان مالك إذا ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يوماً في ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم على ما ترون، ولقد كنت أرى محمد بن المنكدر -وكان سيد القراء- لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا يبكي حتى نرحمه.
ولقد كنت أرى جعفر بن محمد -وكان كثير الدعابة والتبسم- فإذا ذكر عنده النبي -صلى الله عليه وسلم- اصفرَّ، وما رأيته يحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا على طهارة، ولقد اختلفت إليه زماناً فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال، إما مصلياً، وإما صامتاً، وإما يقرأ القرآن، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعباد الذين يخشون الله -عز وجل-.
ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- فينظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم، وقد جف لسانه في فمه هيبة منه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولقد كنت آتى عامر بن عبد الله بن الزبير، فإذا ذكر عنده النبي -صلى الله عليه وسلم- بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع.
ولقد رأيت الزهري -وكان من أهنأ الناس وأقربهم- فإذا ذكر عنده النبي -صلى الله عليه وسلم- فكأنه ما عرفك ولا عرفته، ولقد كنت آتى صفوان بن سليم -وكان من المتعبدين المجتهدين- فإذا ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم-، بكى فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركوه".انظر الشفا بتعريف حقوق المصطفى -صلى الله عليه وسلم- للقاضي عياض -رحمه الله-.
وكان عبد الرحمن بن مهدي إذا قرأ حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر الحاضرين بالسكوت، فلا يتحدث أحد، ولا يبرى قلم، ولا يبتسم أحد، ولا يقوم أحد قائماً، كأن على رؤوسهم الطير، أو كأنهم في صلاة، فإذا رأى أحداً منهم تبسم أو تحدث لبس نعله وخرج".
وقال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "يكره للرجل أن يقول: قال رسول الله، ولكن يقول: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ تعظيماً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
لا كما ينحتها بعض المسلمين تقليداً للمستشرقين وغيرهم، فيكتب: "ص" أو "صلعم".
أخي الحبيب:
هناك آداب أخرى كثيرة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إن التزمت بما قدمناه وفقك الله -تعالى- إليها.
وأخيراً نذكِّر بقول الحسن البصري -رحمه الله- عندما كان يذكر حديث حنين الجذع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصياحه، يبكي ويقول: "هذه خشبه تحنُّ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه".
نسأل الله أن يرزقنا من فضله. آمين.