كتبه/ أحمد عبد السلام
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فإن من أخطر الأمراض القلبية التي يُصاب بها العبدُ أن يرضى عن نفسه، ويرى كمالات نفسه، ويغفل عن عيوبه، مع أنه لا يخلو إنسان من نقص وعيب وذنب وخطيئة (خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ)(الأنبياء:37)، (إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا . إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا . وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا . إِلا الْمُصَلِّينَ)(المعارج:19-22)، (وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا)(الأحزاب:72).
فإذا أراد الله بعبده خيراً صرفه إلى الاعتناء بعيوب نفسه، والإزراء عليها، ومحاولة إصلاحها، فتجده دائماً منشغلاً بنفسه، حريصاً على تزكيتها، وقد نوه بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينه) رواه ابن حبان، وصححه الألباني.
فالإنسان -لنقصه وحب نفسه- يتوفر على تدقيق النظر في عيب أخيه، فيدركه مع خفائه، فيعمى به عن عيبٍ في نفسه ظاهر، ولو أنه اشتغل بعيب نفسه عن التفرغ لتتبع عيوب الناس، لكف عن أعراض الناس وسد الباب إلى الغيبة.
عجبت لمن يبكي على مــــــوت غيره
دمـــوعاً ولا يبكي على موته دما
وأعجب من ذا أن يرى عــــــيب غيره
عظيماً وفي عينيه عن عيبه عمى
قال الإمام أبو حاتم بن حبان -رحمه الله-:
"الواجبُ على العاقل لزومُ السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس، ومع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه، فإن من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره، أراح بدنه ولم يتعب قلبه، فكلما اطلع على عيب لنفسه هان عليه ما يرى مثله من أخيه. وإن اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمي قلبه وتعب بدنه، وتعذر عليه ترك عيوب نفسه، وإن من أعجز الناس من عاب الناس بما فيهم، وأعجز منه من عابهم بما فيه، ومن عاب الناس عابوه".
المرء إن كان عاقلاً ورعا أشغله عن عيوب غيره ورعه
كما العليل السقيم أشغــله عن وجـع الناس كـلـهم وجعه
عن مجاهد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "ذكروا رجلاً، فقال: إذا أردتَ أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك".
قيل للربيع بن خثيم -رحمه الله-: ما نراك تغتاب أحداً، فقال: لستُ عن حالي راضياً حتى أتفرغ لذم الناس، ثم أنشد:
لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها لنفسي من نفسي عن الناس شاغلُ
وقال الشاعر:
قبيح من الإنسان أن ينسى عيوبه ويذكرَ عيبا في أخيه قد اختفى
ولو كـان ذا عقـل لما عـاب غـيرَه وفيه عيوب لو رآهـا قد اكتفى
وعن عون بن عبد الله قال: "لا أحسب الرجل ينظر في عيوب الناس إلا من غفلة غفلها عن نفسه".
وعن ابن سيرين قال: "كنا نحدَّث أن أكثرَ الناس خطايا أفرغُهم لذكر خطايا الناس".
وقال الفضيل: "ما من أحد أحب الرياسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يُذكَر أحدٌ بخير".
وقال مالك بن دينار: "كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا للخونة، وكفى المرء شراً ألا يكونَ صالحا ويقعَ في الصالحين".
وقال أبو عاصم النبيل: "لا يذكر الناسَ بما يكرهون إلا سفلةٌ لا دينَ لهم".
لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا فيهتك الله سترا عن مساويكا
واذكر مـحـاسـن ما فـيهم إذا ذُكِروا ولا تَعِـبْ أحـدا منهم بما فيكا
قال بكر بن عبد الله: "إذا رأيتم الرجل مولعا بعيوب الناس، ناسيا لعيبه فاعلموا أنه قد مُكِرَ به".
قال ابن السماك: إنه ينبغي لك أن يدلك على ترك القول في أخيك ثلاثُ خلال، أما واحدة: فلعلك أن تذكره بأمر هو فيك فما ظنك بربك إذا ذكرت أخاك بأمر هو فيك، ولعلك تذكره بأمر فيك أعظم منه فذلك أشد استحكاماً لمقته إياك، ولعلك تذكره بأمر قد عافاك الله منه، فهذا جزاؤه إذ عافاك؟! أما سمعت: ارحم أخاك، واحمد الذي عافاك.
إن شئت أن تحيا ودينك سالمٌ وحـظـك مـوفـور وعرضك صَيِّنُ
لسانـك لا تذكر به عورة امرئ فـكُـلُّـك عــورات وللـنـاس ألسـنُ
وعـيـنك إن أبدت إليـك مـساوئا فدعها وقل يا عينُ للناس أعـينُ
وعن إبراهيم قال: "إني لأرى الشيء مما يعاب، ما يمنعني من عيبه إلا مخافة أن أبتلى به".
وعن شريك قال: "سألت إبراهيم بن أدهم عما كان بين علي ومعاوية فبكى، فندمت على سؤالي إياه، فرفع رأسه فقال: إن من عرف نفسه اشتغل بنفسه ومن عرف ربه اشتغل بربه عن غيره".
سمع ابن سيرين رجلاً يسبُّ الحَجَّاج فقال: "مه أيها الرجل، إنك لو وافيت الآخرة كان أصغر ذنب عملته قط أعظم عليك من أعظم ذنب عمله الحَجاج، واعلم أن الله -عز وجل- حكم عدل، إن أخذ من الحجاج لمن ظلمه شيئاً فسيأخذ للحَجاج ممن ظلمه، فلا تشغلن نفسك بسب أحد".
فهذه الآثار فيها عبرة وعظة، فعلى العبد أن ينشغل بنفسه، ولا ينشغل بالآخرين خاصة طلبة العلم والملتزمين الذين تؤمل فيهم الأمة أن يكونوا سبب عزها ونصرتها.
ولابد أن يعلم أن الانشغال بعيوب الآخرين والغفلة عن عيوب النفس سبب للانتكاس والارتكاس؛ فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا قال الرجل هلك الناس فهو أَهلكـُهُمْ) رواه مسلم.
وعيب الآخرين كثيراً ما يكون نابعاً عن الرضى عن النفس والإعجاب بها، بل والكبر والعياذ بالله، فإن الكبر (بطر الحق وغمط الناس) رواه مسلم، و(بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) رواه مسلم.
ويشتد الأمر خطورة إذا كانت الوقيعة والعيب في العلماء والدعاة والصالحين،
قال ابن المبارك: "من استخف بالعلماء ذهبت آخرتُه، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته".
وقال أبو سنان الأسدي: "إذا كان طالب العلم قبل أن يتعلم مسألة في الدين يتعلم الوقيعة في الناس متى يفلح"؟!
وقال الإمام أحمد بن الأذرعي: "الوقيعة في أهل العلم ولاسيما أكابرهم من كبائر الذنوب".
وهم عرضة لحرب الله -تعالى- كما في الحديث القدسي: (مَنْ عَادَى لي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ) رواه البخاري، ويتعرضون لاستجابة دعوة العالم المظلوم عليهم، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، كما أن هذا من البغي؛ والبغي تعجل عقوبته في الدنيا قبل الآخرة، فعن أبي بكرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم) رواه الترمذي، وصححه الألباني .
وبما أن الجزاء من جنس العمل فليبشر الطاعن في العلماء المستهزئ بهم بعاقبة من جنس فعله.
وقد حُكي أن رجلا كان يجرِّئُ تلامذته على الطعن في العلماء وإهانتهم، وذات يوم تكلم بكلام لم يرق أحد تلامذته فقام إليه فصفعه على رؤوس الأشهاد (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ)(آل عمران:182).
ثم الخائض في أعراض العلماء والصالحين ظلما وعدوانا إن حـُمِل عنه ذلك واقتدي به فقد سَنَّ سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، والدال على الشر كفاعله.
وينبغي الحذر من إلباس الباطل ثوبَ الحق بزعم النصيحة للمسلمين، والتحذير من المبتدع، وغير ذلك من المسوغات للعيب والقدح في الآخرين، فإن لكل ذلك ضوابط لابد أن تراعى، فإن لم تتيقن فالسلامة لا يعدلها شيء، (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت) متفق عليه.
يا لسان قل خيرا تغنم أو اسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم.
نسأل الله أن يلهمنا الرشد، وأن يقينا شر أنفسنا وألسنتنا.
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.