كتبه/ إيهاب الشريف
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فقد سبقنا الإمام ابن الجوزي -رحمه الله- إلى صيد سمين صاده من خاطره، وسطـَّره في مؤلفه "صيد الخاطر"؛ متأملا ومتفكرا في الغفلة التي تطارد المتعبدين، وكيف تتغير القلوب بعد استماع الموعظة، فتعود إلى الغفلة بعد التذكر واليقظة.
تعجب الإمام من ذلك وحلل الأسباب، فقال: "قد يعرض عند سماع المواعظ للسامع يقظة، فإذا انفصل عن مجلس الذكر عادت القسوة والغفلة! فتدبرت السبب في ذلك، فعرفته.
ثم رأيت الناس يتفاوتون في ذلك، فالحالة العامة أن القلب لا يكون على صفة من اليقظة عند سماع الموعظة وبعدها، لسببين:
أحدهما: أن المواعظ كالسياط، والسياط لا تؤلم بعد انقضائها إيلامها وقت وقوعها.
والثاني: أن حالة سماع المواعظ يكون الإنسان فيها مُزَاحَ العِلَّةِ، قد تخلى بجسمه وفكره عن أسباب الدنيا، وأنصت بحضور قلبه، فإذا عاد إلى الشواغل اجتذبته بآفاتها، وكيف يصح أن يكون كما كان؟! وهذه حالة تعم الخلق، إلا أن أرباب اليقظة يتفاوتون في بقاء الأثر.
فمنهم من يعزم بلا تردد، ويمضي من غير التفات، فلو توقف بهم رَكْبُ الطَّبْعِ لَضَجُّوا، كما قال حنظلة عن نفسه: نافق حنظلة!
ومنهم أقوام يميل بهم الطبع إلى الغفلة أحياناً، ويدعوهم ما تقدم من المواعظ إلى العمل أحياناً، فهم كالسنبلة تميلها الرياح!
وأقوام لا يؤثر فيهم إلا بمقدار سماعه، كماء دحرجته على صفوان!!" -أي صخرة ملساء-. انتهى كلام الإمام.
هذا الكلام النفيس يتضمن عدة علاجات للغفلة الجاثمة على القلوب، والتي يشتكي منها بعض شباب الصحوة، فمن المفيد تفنيد ذلك وإيضاحه مع بعض الإضافة؛ كي نصل إلى الدواء الناجع -بإذن الله-.
1- العصمة ليست إلا للأنبياء، وأما نحن ومَن سوانا من بني آدم؛ فَتَحْتَ قوله -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ) رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني، ومهما تدرجت في معارج التُّقَى ستظل من بني آدم، ستظل خطاءً... نعم قد يقل الخطأ مع التزكية بالتخلية والتحلية، ولكن لن تصبح رسولا ولا ملكا، فعِ ذلك؛ كي لا تيأس إذا أصبت بسهم غـَرْبٍ من نفسك أو شيطانك، ولربما كان ذلك عقيب طاعة أو طفرة إيمانية، فأصابك ذلك بنوع يأس أو قنوط.
2- القلوب تتقلب؛ ولذلك سمي القلب قلبا، والإيمان يزيد وينقص، مكانا وزمانا، فلن تكون في محلتك كما كنت في حرم الله، ولن تكون بعد رمضان على نفس الدرجة التي كنت عليها في رمضان، فتَقَبَّلْ ذلك طالما كنت أثناء الفترة في دائرة السنة، وكلما سقطت فقم وكرر المحاولة، وأدِم طرق الباب؛ فيوشك أن يـُفتح لك.
3- أيا حنظلة اليوم... لم يوافق صاحبُ الملة -صلى الله عليه وسلم- حنظلةَ الأمس على ما أراده، وهو أن يدوم على الحالة التي يكون عليها بين يديه -صلى الله عليه وسلم-، وإنما قال له: (يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً وَلَوْ كَانَتْ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ كَمَا تَكُونُ عِنْدَ الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ حَتَّى تُسَلِّمَ عَلَيْكُمْ فِي الطُّرُقِ) رواه مسلم، فماذا عن ساعة هذه الأيام! وقد كثرت الشواغل، وفـُتحت علينا الدنيا!! فانتبه لضوابط هذه الساعة، ولـْتـُمِرَّهَا بسلام، ولا تعدمها؛ فذلك لن يكون.
4- العزيمة العزيمة... فإذا حضرت مجلسا أو استمعت الموعظة؛ فليكن همك وشغلك: ماذا سأطبق منها؟ بم سأخرج؟ ورتب ذلك في خاطرك وذهنك أو دَوِّنْهُ، وطالِبْ نفسَك بتنفيذه، ويوما بعد يوم، وموعظة بعد أخرى؛ تترقى النفس في مدارج التقى، وتسمو في سماء الهدى، وتـُقـْبـِل على ما يقربها من حبيبها، وتنفر عما يبعدها؛ فلْتَسْعَ للعمل، ولْتتبعِ القول بالفعل، فالله يحب منك ذلك، ويُقَرِّبُكَ بسببه: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)(العنكبوت:69).
5- صنـِّفْ أمراضك وعيوبك، وحدِّد لكل نوع ما يناسبه من العلاج، وأنت على يقين أنه ما من داء إلا وقد أنزل الله له دواءً؛ فمن الأمراض ما يعالج على المدى الطويل، وبجرعات محسوبة ومحددة، ومنها ما يداوى على المدى القريب؛ فليست كل الأمراض متساوية، وكن على يقين -أيضا- أن العلاج لن يخرج بحال من الأحوال عن الوحيين؛ فليعظم يقينك فيهما، وتمسك بهما؛ (تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي) رواه الحاكم، وحسنه الألباني.
6- لا تهمل العلاج، ولا وصفات الأطباء، أعني أطباء القلوب -"العلماء الربانيين"- وكن دقيقا في الأخذ بها كما يقال لك، واستشرهم فيما يطرأ عليك من مضاعفات أو تغيرات، وليكن اهتمامك بقلبك أعظم من اهتمامك ببدنك؛ فموت القلب أو مرضه ربما يؤدي بصاحبه إلى جهنم، أما موت البدن وهلاكه فلربما -مع الصبر والاحتساب- يرفع صاحبه في الجنة.
7- مع الضعف الشديد ينصح أطباء الأجساد بالإكثار من أنواع معينة من الأطعمة، بالإضافة لتناول الأدوية، وكذا يكون حال القلب؛ فتناوَلِ المنشطاتِ الإيمانيةَ، واحرص على المجالسِ النورانيةِ، ولا مانع من الإكثار من الموعظة؛ ليبقى الأثر أطول مدة، ويدوم التذكر، وتنقشع الغفلة.
8- ليس عندنا في الإسلام إراحة المريض من حياته؛ لشدة مرضه، كما يـُفعل في بلاد الغرب!! وإنما ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يأس أبدا من روْح الله، فإن تكاثرت السيئات وعظمت الذنوب فلن تكون -إن شاء الله- كقاتل المائة؛ الذي أقبل بقلبه وجسده على ربه؛ فقبله، بل حرَّك الأرض من أجله!! فقبضته ملائكة الرحمة، فلو بلغت ذنوبك عنان السماء أو كانت ملء الأرض؛ فلا عليك إلا أن تجدد التوبة، وتخلص التوحيد، وتتقرب من الرحيم الودود؛ فيكافئك بملء الأرض من المغفرة.
9- اجعل لك منبها ومذكرا؛ يذكرك إذا نسيتَ، وينبهك إذا غفلتَ، ويأخذ بيدك إذا زللتَ... تنتفع بلَفْظِهِ ولَحْظِهِ، ويُهَوِّن عليك القبضَ على الجمر؛ فإن الرفقاء من أسباب تهوين الغربة الأولى؛ كما روي إنكم تجدون على الخير أعوانا وهم لا يجدون، فابحث عنهم، وتمسك بهم، يُهَوِّنْ بعضُكم على بعضٍ الغربةَ -بإذن الله-.
10- وقبل ذلك كله وبعده عليك بدوام الافتقار إلى الله -عز وجل-، وقوة الصلة به، وحسن الرجاء فيه، والاستعانة به، وكثرة الدعاء؛ فأنا وأنت أحوج من نبينا -صلى الله عليه وسلم- إلى: (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) رواه الترمذي، وصححه الألباني، (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْقَسْوَةِ وَالْغَفْلَةِ) رواه الحاكم والطبراني، وصححه الألباني.
وبعد -أخي-؛ تلك عشرة كاملة، وكل واحدة منها تحتاج لبسط ونشر، ولكن حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق؛ فشد يديك بها وترجمها إلى واقع، ومن الله التوفيق، وعليه الاعتماد.
ثبت الله قلبك وقدمك، ورزقني وإياك حلاوة القرب منه، ولذة الأنس به؛ إنه بالإجابة جدير، وبكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ومن هنا تكون البداية؛ وفي الجنة يطيب اللقاء -إن شاء الله-.