كتبه/ سعيد صابر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
إن يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تَحَدَّر من غمام واحد
أو يـفـترق نـسب يؤلـف بينـنا ديـن أقـمـناه مـقـام الـوالـد
فالأخوَّة في الله معْـلـَم إيماني، ونعمة ربانية، وسمة من سمات المجتمع المسلم، يقول الله -تعالى-: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً)(آل عمران:103)، بيد أن هذه الأخوة باتت تشكو -ومنذ زمن- هزالاً أصابها.
يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك... ثم قال: وقد أصبحت عامة موالاة الناس اليوم على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً".
فإذا قيل هذا في زمن الخيرية، فماذا يقال في زمن الحال فيه على نحو ما ترى وتسمع؟
لذلك كان ولا بد من وقفة محاسبة ومراجعة؛ نستنقذ من خلالها بإذن الله سوياً ما نوفق لاستنقاذه، وهذه ثمة أحاديث يُرتجى من خلالها إحياء الموات، وتشييد صرح الأخوة الذي قد تهدم.
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمانِ، أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمّا سِواهُما، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلاّ للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ في الْكُفْرِ كَما يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ في النَّارِ) متفق عليه.
وعَدَّ -صلى الله عليه وسلم- سابع سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ) متفق عليه.
وفي الحديث القدسي: (قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ) رواه الإمام مالك وأحمد، وصححه الألباني.
ومما ينبغي أن يـُنتبه إليه أن الاجتماع على المباحات الدنيوية ومن باب أولى على الطاعات وإن أغنى عن الزيارة لما فيه من اللقيا والوصال؛ فإنه يوجب في المقابل حق التفقد لمن غاب، والتي تكون بالسؤال والزيارة، والمعاونة متى لزم الأمر.
ومن أعراض الهزال الذي ذكر آنفاً:
أنك تجد الرجل الذي يكون بين إخوانه ملأ السمع والبصر، وإخوانه عليه بين رائح وغادي، فإذا عرض له عارض ولم يُعد للزيارة مبرراً؛ انفض عنه إخوانه وهو أحوج ما يكون إليهم، وإنما ينشأ هذا السلوك من عدم إدراك أن الزيارة في الله مقصودة لذاتها، وأن أولى الناس بها من امتنع عن غشيان مجالس إخوانه فتتأكد الزيارة حينئذٍ، فإن كان الغياب عن فتور شحذوا همته، وإن كان عن عذر اضطراري أزالوا وحشته.
أما أن نتزاور شوقاً لمشايخنا وإخواننا مقتدين في ذلك بعمر -رضي الله عنه- ساعة أن قال: "والله إنه ليطول علي الليل إذا تذكرت أخي في الله، فأتمنى الصباح لأعانقه شوقاً إليه"، فهذا من الندرة بمكان، وتجدنا إذا أتانا آتٍ لربما قلنا في أنفسنا: "تـُرى ما الذي جاء به؟"، وكأنه بالحتم واللزوم لا بد وأن يأتي محملاً بالمصالح مدفوعاً بما ذكر سلفاً من الأغراض.
إخوتاه... لقد صرَّح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيان نبوي بتحتم تلك الشعيرة، ولزوم إحياء هذه العاطفة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا... ) رواه مسلم، فالإيمان بالله والحب في الله قـُرِنا جميعاً، فإذا ذهب أحدهما ذهب الآخر.
ثم لم يتركنا النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى هدانا إلى سبيل يصل بنا إلى واحة، ثم إلى بستان الإيمان، ثم إلى بحبوحة الجنة -بإذن الله- فقال -صلى الله عليه وسلم-: (أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ) رواه مسلم.
ومع أنه -عليه الصلاة والسلام- ندبنا إلى أن نلقي السلام على من عرفنا ومن لم نعرف، إلا أن الجفاء بيننا تردَّى بنا إلى البخل بالسلام على من عرفنا فضلاً عمن لا نعرفه، ولقد كان الناس في زمن مضى يتهموننا أننا لا نسلم إلا على من كان على شاكلتنا، فإننا اليوم قد نمر بهم، ويمرون بنا وقد ضنَّ كل منا بالسلام، وهذه صورة فجة، وعلامة أن الأخوة بيننا قد "تهلهلت".
وشتان، ثمَّ شتان، ثمَّ شتان، بيننا وبين نبينا -صلى الله عليه وسلم- الذي بلغ من عنايته وإجلاله لأمر السلام أن قال: (إِنِّى لأَرْجُو إِنْ طَالَتْ بِي حَيَاةٌ أَنْ أُدْرِكَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَإِنْ عَجِلَ بِي مَوْتٌ فَمَنْ أَدْرَكَهُ فَلْيُقْرِئْهُ مِنِّي السَّلاَمَ) رواه أحمد، وصححه الشيخ أحمد شاكر.
هذا ومن آكد حقوق الأخوة التناصح فيما بيننا، فأخوك من نصحك وإن أبكاك، بيد أننا نهش ونبش لمن جاءنا مادحاً أو مزكّياً، ولو كان مغالياً، بينما نستثقل النصيحة، ونضيق ذرعاً بأهلها، ولنا حظ ونصيب من قوله -تعالى-: (وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)(الأعراف:79).
فيا ليتنا نحسن الظن بهؤلاء الرحماء بدلاً من أن نسيء بالظن بهم، فنتهمهم بأنهم نقـَّادِين ما أرادوا بنصحهم إلا التعالي علينا، وقد قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)(الحجرات:12)، وفي الحديث: (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ) متفق عليه.
وأُرَاني لا أكون مبالغاً إن قلتُ إنَّ كثيراً من الخصومات، والعداوة والبغضاء -إن لم يكن أكثرها- مردها لسوء الظن.
وقد قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك إلا خيراً وأنت تجد لها في الخير محملاً".
وذا كان الشافعي أو غيره قد قال: "لو احتمل المرء الإيمان من وجه والكفر من 99 وجهاً لحملته على الإيمان تحسيناً للظن بالمسلم"، فالبعض منا لو احتمل قول أو فعل أو تصرف الخير من 99 وجهاً، والشر من وجه لحمله على شر المحامل، ونسأل الله العافية.
إخوتاه... لقد عظـَّم الأولون تلك العاطفة الإيمانية -عاطفة الحب في الله- حتى قال ابن السماك عند موته: "اللهم إنك تعلم أني كنت أعصيك، ولكني كنت أحب من يطيعك، فاجعل ذلك قربة لك".
وكأن الرجل لم يجد وهو على عتبات الآخرة عملاً، ولا قربى يتوسل بها ويتزلف إلى الله هي أرجى عنده من محبة الصالحين.
جاء بعضهم إلى أخيه قائلاً: قصدتك في دين عليّ، فدفع به إليه عملاً بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكَشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا) رواه الطبراني، وصححه الألباني، ثم خلا الرجل بزوجته باكياً، فقالت: سبحان الله، تعطيه مالك ثم تبكي؟ كان يسعك أن تعتذر إليه!! فقال الأسيف: إنما أبكي أني ما تفقدته حتى أحوجته إلى ذل السؤال.
هذا ولم تكن المواساة بينهم قاصرة على الأموال فحسب، بل بالأموال والأنفس على السواء.
خرج إبراهيم بن أدهم -رحمه الله- في سفر مع إخوانه فآواهم المبيت إلى مسجد، ولم يكن للمسجد باب، وكان البرد ليلتها شديداً فنام القوم بينما وقف إبراهيم على الباب حتى إذا أصبح قيل له: مالك لم تنم؟ فقال: خشيت أن يصيبكم البرد، فقمت مقام الباب!!
يجود بالنفس إذا ما ضنَّ البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود
ومن أعجب ما سطـِّر في إيثارهم قول بعضهم: "لقد أتى علينا زمان كان أحدنا إذا وقع الذباب عليه في الصلاة لا يهشه خوفاً من أن يطير فيقع على أخٍ له بجواره يقف في الصف".
فإن شق علينا إخوتاه أن نرقى هذا المرتقى العالي فلا أقل أبداً من محاولة التقريب وتضييق المفاوز، والقفار التي بيننا وبينهم.
أيها الأحبة... لقد بلغت عاطفة الأخوة عند القوم كل مبلغ حتى قال بعضهم: "إني لأضع اللقمة في فم أخي فأجد طعمها في حلقي".
وذُكِر أن أبا بكر قال إبَّان الهجرة المباركة: "فجعل رسول الله يشرب حتى ارتويت"، فرسول الله هو الشارب وأبو بكر لفرط محبته لأخيه وصفيه -صلى الله عليه وسلم- هو المرتوي الذي يجري الماء في ضلوعه.
ذكر أنه لما أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- الزواج من عائشة استشكل ذلك أبو بكر قائلاً: يا رسول الله، كيف تتزوجها وأنت أخي؟ وكأنه ظن أنه يحرم من الأخوة الإيمانية ما يحرم من الأخوة النسبية!
وكان هذا من هؤلاء النبلاء تجسيداً لما أراده الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- منا من أن نكون كنفس واحدة، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر.
ولقد عبر القرآن عن ذلك أصدق تعبير، يقول -تعالى-: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ)(النور:61)، وقال -تعالى-: (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ)(الحجرات:11)،والمراد بالنفس في كلٍ هم الإخوة.
وقال بعضهم: "لا تكتمل الصحبة حتى تقول لأخيك: "يا أنا".
ولله در القائل:
أخــي أنـا أنـت وأنــت أنا ربـاط العـقـيـدة قد ضمنا
ومهما أصابك سهم هناك تلمست جُرحاً بقلبي هنا
وقال الآخر:
قـال لـي المــحبـوب لـما زرتـه مـن بـبابي؟ قلت بالباب أنا
قــال لي أخطأت تعريف الهوى حــيـنما فــرقــت فـيه بيننا
ومـــضـى عـــام فــلما جــئـتـه أطـرق الباب عـلـيه موهنا
قــال لـي مــن؟ قــلـت: انــظــر فـما ثـم إلا أنت بالباب هنا
قال لي: أحسنت تعريف الهوى وعرفت الحب فادخل يا أنا
نسأله -جلَّ في علاه- أن يؤلف بين قلوبنا، وأن يصلح ذات بيننا، وأن ينصرنا على عدوه وعدونا.
وإلى أن ألقاك يا أنا، أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه.