كتبه/ سعيد السواح
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
أيها المسلم الحبيب..
إن الإنسان ليحتاج في بعض الأحيان أن يقتطع ويختطف لحظات من وقته؛ ليخلو فيها بينه وبين نفسه؛ ليقيم ما مضى من حياته, وكم نكتشف ظلم الإنسان لنفسه أن أيامه تسير بلا توقف حتى نفاجأ بتوقف الحياة.
ولقد استوقفتني آية في كتاب الله -تعالى-، وأنا أقرا في سورة المائدة, استوقفتني كثيراً على الرغم من إننا نقرأها ونسمعها كثيراً, حيث قال الله -تعالى-: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)(المائدة: 72 )
وكذلك الآية التي تليها: (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ)(المائدة: 73 )
وتذكرت على الفور الآية التي في سورة التوبة, حيث قال -سبحانه-: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ)
فرأيتني أفزع وأنا أفكر في هذه الملايين، بل قل عشرات الملايين، بل مئات الملايين الذين تفرقوا في كل بقاع الأرض.
منهم من يقول: إن المسيح هو الله.
منهم من يقول: إن المسيح ابن الله.
ومنهم من يقول: بل هو ثالث ثلاثة.
فعجبت من عقولهم كيف يرددون هذه الأقوال؟! أما منهم من يفكر في صحة ما يقول أم هي أقوال ورثوها عن آبائهم، فنطقوا دون أن يتفكروا أهي أقوال صحيحة أم باطلة؟
ولاشك أبها الحبيب أننا لو سألناك ترى أي فريق من هؤلاء على حق وأي منهم على باطل؟ فلن تختلف إجابتك عن إجابتنا ولوجدتنا نردد سويا (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)(الإخلاص)
ولقلت ما هذه الأباطيل والأكاذيب والسفاهات.
ولكني بدأت أفكر لماذا لم يصل هؤلاء القوم إلى هذه الحقيقة الواضحة الجلية, ولماذا مازالوا على هذه العقيدة الفاسدة, وعندما تصفحت المصحف، فإذا بالإجابة الشافية من كتاب الله -تعالى- التي بينت ما سبب عدم تركهم لهذا الباطل، وإتباعهم لهذا الحق.
أتدري أيها الحبيب ما السبب الذي جعل هؤلاء يتوارثون هذا الباطل، ويورثونه لأبنائهم؟
أترى أيها الحبيب أننا لو قلنا لهم ودعوناهم لكي نفكر في هذا الأمر، ونتدارسه؛ لنظهر الحق من الباطل, أتراهم يقبلون ذلك؟
نقول لك أيها الحبيب: إنهم لن يقبلوا, بل يعترضوا على ذلك، ولقالوا لك: نحن على ما توارثناه من الآباء.
وهذا ما بيَّن لنا الله -تعالى- في كتابه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ)
لقالوا: (بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا) (البقرة: 17.)
ولقالوا لنا: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) (الزخرف: 22)
(إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ) (الزخرف: 23)
فهم توارثوا عادات، وهم على غير استعداد لترك العادات والتقاليد التي وجدوا عليها آباءهم.
فنقول لك أيها الحبيب: هل تقبل منهم ذلك الرد؟ أيصلح ذلك أن يكون عذراً لكفرهم بربهم؟ أيصلح أن يكون ذلك مبرراً لهذا الباطل الذي هم عليه؟
ونقول لهم: ألم تسمعوا إلى قول ربكم: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ) (البقرة: 107)، ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُون﴾ (المائدة: 104)؟
لقد أغلقوا عقولهم، والغوا تفكيرهم، وتركوا هدي ربهم، واستعاضوا عنه بالعادات التي ورثوها عن الآباء, فلم يكونوا على استعداد لتركها.
ثم رأيتني أيها الحبيب أتصفح حياتي وأفكاري, وبرز في خاطري أمر شغلني كثيراً, ولكنه يحتاج إلى وقفة وجرأة شديدة مع النفس، التي تأبى دوماً ترك العادات الموروثة عن الآباء، وتغلق عنها العقول؛ خوفاً من أن تكتشف خطأ في هذه العادات, فرأيتني أحدث نفسي، وأقول: من نصدق ومن نتبع؟ أأصدق هؤلاء الذين يقفون عند قبر من هذه القبور المبنية في المساجد، ويتزاحمون على هذا القبر بالمئات, بل قل بالآلاف, بل قل ألوف مؤلفة قد أتوا من كل حدب وصوب، وقطعوا هذه المسافات الطويلة يتبركون بصاحب هذا القبر، وقد ورثوا ذلك عن أبائهم, فهم منذ فتحوا أبصارهم على الدنيا وهم على هذا المشهد.
أم أصدق هؤلاء الذين يسفهون من يفعل ذلك، ويعترضون عليهم، ويقولون: إنكم والله لتعبدون حجارة وأوثان. ويقولون في ندائهم: أيها العقلاء، أتدرون حال هذا المقبور؟ أتستطيعون أن تقولوا لنا أهذا الذي تزورونه وتتبركون به أهو في الجنة أم في النار؟ أتستطيعون أن تقولوا لنا أهو متنعم في قبره أم هو معذب في قبره؟
فلقد أوقفني أيها الحبيب ذلك الأمر، وقلت: لماذا لا أعطي لنفسي الفرصة والوقت لكي أفكر في الأمر من كل جوانبه، ولا أغلق عقلي ولا ألغي تفكيري؟ وقد رأيت كما قص علينا الله -تعالى- حال هؤلاء الذين كفروا بربهم كنتيجة لاتباعهم عادات الآباء دون الوقوف على صحة هذه العادات أو خطئها، ولقد رأيتهم وهم يقدمون العادات الموروثة عن الآباء، ويردون بها كتاب ربهم وهدي نبيهم.
وقلت عند ذلك: وكأنني أحكم في هذه القضية، وكأنها مسألة عرضت علي من طرفين متخاصمين، كل منهم يدعي أن الحق معه، والمطلوب مني أن أفصل في هذه القضية، وهذا النزاع لكي نصل مع من يكون الحق، وعجبت لماذا نرفض دوماً المناقشة، هل لأنني أخشى أن يكون الحق ليس معي؟ فلا أدري مما أخاف وعجبت من نفسي كيف سيطر علي هذا الأمر، وأنا المعروف بين أقراني بالعقل السليم والتفكير السليم. وكيف أرضى لنفسي بإلغاء عقلي وتفكيري في هذه القضية.
فكان لابد من وقفة مع النفس نستعين من خلالها بالله -تعالى-، على أن يوفقنا لما يحبه هو -سبحانه- ويرضاه، ولا أكون أبداً كمن يدس رأسه في التراب. كيف وقد منحنا الله -تعالى- العقول النيرة، وميزنا بها عن البهائم، فكيف نعطلها؟!
ونقول: اللهم إنا نشهدك أنا نحبك ونحب دينك وشراعك, ونشهدك أنا نحب عبدك ونبيك وحبيبك محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي أنرت لنا به الطريق، ونحب أولياءك الصالحين الذين شهدت لهم بالصلاح والتقوى وقلت في شانهم: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (يونس: 62 – 64)
أيها المسلم الحبيب.. قل لي بربك -لو سألناك- أتعلم ما هو حال المقبور الذي هو عليه الآن في قبره؟ هل تستطيع أن تنفذ من خلال قبره، فتقول لنا أهو في الجنة أم في النار؟ أتراه الآن متنعماً في قبره أم تراه معذباً في قبره؟
فأن قلت: بل أراه في الجنة وما أراه إلا منعماً.
لقلنا لك: من الذي قال لك عن حاله الذي هو عليه في قبره, أفتح لك قبره فرأيت حاله أم فتح لغيرنا فنقلوا لنا ما شاهدوه من حاله؟
لو سألناك أيها الحبيب وقلنا لك: -قل لي بربك- أعبد أنت أم رب؟ قد تعجب من هذا السؤال, وتقول على الفور: بل أنا عبد. لقلنا لك: لماذا تطغى على سلطان الرب؟ لعلك تقول: ومن ذا الذي يجرؤ أن يتعدى حدوده مع ربه أو يتجرأ على سلطانه، فوالله إني لأحب ربي وأجله وأعظمه.
قلنا لك: مهلاً أيها المسلم.. مهلاً أيها الحبيب المحب لربه ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-, فإليك أيها الحبيب نهدي لك هذه الصور التي تبين لك حدود العبد، وكيف أنه ليس لأحد الحق في أن يتدخل في سلطان الرب، حتى لو كان النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- عند ربه؟
فمما لاشك فيه لدينا ولديك في أن أكرم خلق الله عند ربه هو نبينا وحبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم- فنحن لا نختلف نحن ولا أنت في ذلك، بل ولا يختلف معنا في ذلك أي مسلم أو مسلمة.
فنقول لك أيها الحبيب: نحن نريد منك أن تنظر إلى الآيات التي أنزلت عتاباً للنبي -صلى الله عليه وسلم- أتدري فيما عاتب الله -تعالى- رسوله -صلى الله عليه وسلم-؟
فهذا عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يقول: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر قال: (اللهم العن فلانا و فلانا، اللهم العن الحارث بن هشام, اللهم العن سهيل بن عمرو, اللهم العن صفوان ابن أمية).
فنزلت الآية: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)(آل عمران:128). فتيب عليهم كلهم.
وهذا أيضا أنس بن مالك -رضي الله عنه- يذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه فقال: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم -عز و جل- فأنزل الله -تعالى-: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ).
أعقلت أيها الحبيب سبب نزول هذه الآية؟! فلما دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- على هؤلاء النفر باللعنة، ولما دعا على هؤلاء الذين ألحقوا به الأذى حتى أصيب بهذه الجراحات البالغة نزلت الآيات، أن ليس لك تدخل فيمن يكتب الله -تعالى- له الهداية، ومن يستحق اللعنة والطرد من رحمة الله -تعالى-، فالهداية والإضلال بيد الله وحده ليس لغيره -سبحانه- فيها نصيب حتى لو كنت أنت يا محمد.
وهذا من الرب -تعالى- لكي نتعلم أن العبد عبد والرب رب، ومهما كانت منزلة هذا العبد فلا ينبغي أن يتعدى حدوده، ويتدخل في سلطان الرب -سبحانه-.
وانظر كذلك أيها الحبيب إلى عتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة لما توفي صبي فقالت طوبى له عصفور من عصافير الجنة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أولا تدرين أن الله خلق الجنة وخلق النار,فخلق لهذه أهلاً ولهذه أهلاً).
وكذلك إلى عتابه -صلى الله عليه وسلم- لهذه المرأة (أم العلاء), فتقول أم العلاء -رضي الله عنها- أن عثمان بن مظعون طار لهم في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين، قالت أم العلاء: فاشتكى عثمان عندنا فمرضته حتى توفى وجعلناه في أثوابه, فدخل علينا النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، شهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وما يدريك أن الله أكرمه؟ قالت: قلت لا أدري بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فمن؟ قال: (أما هو فقد جاءه والله اليقين والله إني لأرجو له الخير, وما أدري والله -وأنا رسول الله- ما يفعل بي) قالت والله لا أزكي أحداً بعده.
فتخيل أيها الحبيب قول النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو أكرم خلق الله -تعالى- (والله إني لأرجو له الخير، وما أدري والله -وأنا رسول الله- ما يفعل بي).
أتستطيع بعد ذلك -ونحن لسنا بأنبياء، ولا يتنزل علينا الوحي، أن نحكم لإنسان بالجنة, إلا لمن شهد له النبي -صلى الله عليه وسلم-, فو الله ما شهد النبي -صلى الله عليه وسلم- لأحد بالجنة إلا بوحي من الله -تعالى-.
بل انظر أيها الحبيب إلى قول حبيبنا وحبيبك محمد -صلى الله عليه وسلم- حتى لا تغتر بظاهر عمل الإنسان, فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار, وان الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس و هو من أهل الجنة) (البخاري كتاب الجهاد والسير (2898).
بل انظر أيها الحبيب إلى هذه الرواية القاصمة التي ألجمتنا عن الكلام, فقد قال حبيبنا وحبيبك محمد -صلى الله عليه وسلم-: (سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله) قالوا:يا رسول الله, ولا أنت؟ قال: (ولا أنا, إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) (مسلم).
فهل لنا أيها الحبيب بعد ذلك أن نحكم لأحد بالجنة، حتى لو رأيناه صائماً، حتى ولو رأيناه لم يرفع رأسه من السجود لربه.
بل نقول: إن أمره إلى الله -تعالى- فنحن ما أطلعنا إلا على ظاهره, ولكن الله وحده هو الموكل بالسرائر وبواطن الأمور.
بل نهمس في أذنيك أيها الحبيب ونقول لك: أتدري من هم أول ثلاثة تسعر بهم النيران، لعلك لا تصدق بل نخش عليك ألا تصدق، ولكن حسبك أن هذا والله هو كلام نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-, فقد قال رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: (أول ثلاثة تسعر نهم النار: عالم ومتصدق وشهيد فيؤتى بهذا العالم فيعرفه نعمه فيعرفها، فقال: ماذا عملت فيها؟ يقول: علمت العلم وقرأت فيك القرآن. فيقال: كذبت، بل ليقال قارئ وعالم وقد قيل، فيؤمر به فيسحب على وجهه في النار..)، وكذلك يكون الحال بالنسبة لهذا المتصدق والشهيد.
فكما ترى أيها الحبيب، إن أعمالهم الظاهرة هي أعمال صالحة، بل لقد أتوا بأرقى وأرفع الأعمال الصالحة فيما نرى، لو حكمنا على ظواهرهم، لقلنا: إن لم يكونوا هؤلاء من أهل الجنة فمن يكون إذاً؟! ولكن كما سمعت أنهم من أهل النار، بل هم أول من يسعر به النار، وما السبب في ذلك؟
هو لأمر لا اطلاع لنا عليه، ولا سبيل لاطلاع أحد عليه، ألا وهو باطن هذا الإنسان، وهذا من شأن الله وحده، فنحن نرى ظواهر هذه الأعمال، والله -تعالى- وحده هو المطلع على سرائرهم وبواطنهم، فلما كان مقصدهم الذكر عند الناس، فكان عقابهم في الآخرة أن يكونوا من أصحاب السعير، بل أول من تسعر بهم جهنم.
أعقلت ذلك أيها الحبيب، فما أنت قائل بعد ذلك؟
أترى أن هناك من أعطاه الله ومنحه السلطان ليحكم على الناس هذا في الجنة وهذا في النار، أم أن هذا من خصائص الله -سبحانه- دون سواه؟
قال الله -تعالى-: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(البقرة: 229).
فنقول لك أيها الحبيب: فمن قال لك إن فلاناً ولي من أولياء الله الصالحين؟ أهو بوحي من السماء نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبلغنا إياه؟
فإن لم يكن أيها الحبيب فمن أين جاءوا بهذا القول الذي يتردد على السنة الناس: فلان ولي وفلان ولي؟
قد تقول أيها الحبيب: لقد نشأنا ووجدنا الآباء على ذلك الأمر وكذلك الأجداد، فلقد أبصرنا الآباء يفعلون فنحن نفعل كما كانوا يفعلون، فلقد رأينا الآباء منذ الصغر يصطحبوننا إلى هذه الأماكن يتبركون بهذا الولي.
ولعلك أيها الحبيب تتساءل وتقول: فمن أين جاءوا بذلك الأمر. ولعلك يجول بخاطرك وأنت تنظر إلى هذه الألوف المؤلفة الذين جاءوا من أماكن بعيدة ومتعددة: أكل هؤلاء لم يرد بخاطرهم أن يقفوا ولو مرة واحدة مع هذا الأمر؟
عندها نقول لك أيها الحبيب: قف مع نفسك واسترجع عند ذلك ما قاله الله -تعالى- عن الأمم السابقة وسبب ضلالهم وما كان ذلك إلا باتباعهم للعادات الموروثة عن الآباء، دون الوقوف على صحتها.
بل فلتردد أيها الحبيب وتقول: الله أكبر، إنها والله السنن التي قال عنها نبينا وحبيبنا ومعلمنا ومصطفى الله من خلقه: (لتتبعن سنن من كان من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه؟!).
فإن قلنا لك عند ذلك أيها الحبيب: فما هو سبيلنا لكي نتعرف على ديننا وشرعنا؟ أيكون ذلك من خلال النبي -صلى الله عليه وسلم- أم من خلال الآباء، فإن قال لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- قولاً، وقال الآباء عكس ما قال، أو فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- فعلاً وفعل الآباء عكس ما فعل، فمن عند ذلك تتبع؟
ما نظنك إلا أنك ستتبع سبيل حبيبك الذي أنار الله لنا الطريق به، فكيف نترك هذا النور لكي نسير في الظلمات، خاصة بعدما قرأنا في كتاب ربنا وما قصه علينا الرحمن من سبب ضلال الأمم السابقة.
وكذلك عليك أن تعلم أيها الحبيب أنه قد يراود عقلك خاطر: "وما المانع طالما كان المقصد خير، فما قصدنا بذلك إلا تعظيم أولياء الله الصالحين".
قلنا لك: أيها الحبيب، أيكفي أن يكون المقصد خير أم لابد كذلك أن يكون العمل على منهاج النبوة؟ فالله -تعالى- قال في كتابه: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا) (الكهف:110).
لم يقل فلتكن نيته فقط صالحة، ولكن لا اعتبار للنية الصالحة إلا عندما تكون مقرونة بعمل صالح كان عليه رسولنا -صلى الله عليه وسلم-.
فيا أيها الحبيب، بمن اقتديت، وبمن اهتديت، وبأي حبل تمسكت، وفي أي طريق سلكت.
أيها الحبيب، أما علمت أن اليهود والنصارى ادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه. (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)، فكان الرد: (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (المائدة: 18).
بل انظر عندما قالوا لن يدخل الجنة إلا هم دون سواهم: (وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة: 111).
فهذا بزعمهم الباطل، يقولون هذه الأقاويل الباطلة التي أبطلها الله -تعالى- -كما تعلم- في كتابه.
ونقول لك أيها الحبيب: أتدري ما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عنهم: (لعن الله اليهود والنصارى)
أترى ما السبب الذي استحقوا من خلاله اللعن والغضب؟! (اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما صنعوا.
أتدري أيها الحبيب ما سبب ضلال اليهود والنصارى؟ (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ) (التوبة: 31).
فكانوا يسيرون وراء علمائهم الذين غيروا وبدلوا في شرع ربهم.
أتعلم أيها الحبيب ما يقولون غداً بين يدي ربهم؟
(وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا) (الأحزاب: 67).
فهل تتمنى أن يكون حالنا كحالهم، ونفعل ما فعلوا فتكون نهايتنا كنهايتكم؟!
ولعلك أيها الحبيب تردد بقلبك وتنطق بلسانك، وتقول: إنني أصبحت في حيرة شديدة من أمري، فما السبيل؟!
قلنا لك: السبيل هو رد هذا الحكم إلى الخالق -سبحانه- وإلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، أليس هو القائل -سبحانه- في محكم التنزيل: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء: 59)
ولقد نادى الله -تعالى- على كل مسلم ومسلمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ)(الأنفال: 24)
فلنستجب أيها الحبيب لنداء الله علينا، ولنستجب لنداء النبي -صلى الله عليه وسلم- علينا.
ولنقل ولنردد جميعاً: لبيك ربنا وسعديك، والخير كله بين يديك، فأنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك.
فهيا سوياً أيها الحبيب؛ لنتعرف على ديننا وشرعنا الذي اصطفانا الله عليه واصطفاه لنا.
عند ذلك نقول: أتدري أيها الحبيب..
- من الولي؟
- وهل هذا الولي يستطيع أن يدفع عن نفسه الضر أو أن يجلب لنفسه النفع؟
- وهل هذا الولي يستطيع أن ينفع أحداً أو يضر أحداً؟
- أتدري من سادات الأولياء؟
- هل تحب أن تكون من الأولياء أو أن تحشر معهم؟
- هل تدري ما الطريق للولاية؟
فلنمضي أيها الحبيب سوياً لكي نقف على إجابات هذه الأسئلة، ويكون ذلك من خلال كتاب ربنا وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-.
فمن هو الولي الذي قال الله عنه: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62)الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63)لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (يونس: 62 – 64).
فكما استمعنا وقرأنا أيها الحبيب قول الله -تعالى-: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62)الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ)
أتدري أيها الحبيب أين موضع التقوى في الإنسان؟ إنه القلب.
فقل لي هل من سبيل لمخلوق أن يطلع على ما في قلب الإنسان أم أن هذا لله دون سواه. فإن كنت تعلم أن هذا لله وحده دون سواه لقلنا لك: فليس لنا من سبيل لكي نحكم على إنسان أنه ولي بمجرد عمله الظاهري؛ لأن عمل الباطن ليس لنا سبيل للإطلاع عليه، بل لا ملك مقرب ولا نبي مرسل يستطيع أن يطلع على هذا.
ونقول لك: هل يستطيع الولي أن يدفع الشر عن نفسه أو يجلب لنفسه نفعاً؟
نقول لك: يكفينا في ذلك قول الله -تعالى-: ﴿قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً (56)أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورً﴾ (الإسراء: 56، 57 ).
وكذا قوله -سبحانه-: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ)(سبأ: 22 ).
بل نقول لك: فلتستمع أيها الحبيب ولتنصت بكل جوارحك إلى قول ربك في شأن نبينا وحبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم-: (قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا) (الأعراف: 188).
فإذا كان هذا هو قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نفسه أن أمره الله -تعالى- بأن يقول للناس بأنه لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، بل إنه لا يغني عن أخص قرابته من الله شيئاً، فقد قال -صلى الله عليه وسلم- لأحب الناس إلى قلبه إلى ابنته فاطمة -رضي الله عنها-: (يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئاً، سليني ما شئت).
إن كان هذا هو قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في نفسه وفي أخص قرابته وأحبهم إليه، فما ظنك بسائر الأموات، الذين لم يكونوا أنبياء معصومين ولا رسلاً مرسلين، بل غاية ما في هؤلاء الأولياء أنهم فرد من أفراد الأمة المحمدية، فهم أعجز من أن ينفعوا أو يدفعوا عن أنفسهم شيئاً فضلاً عن غيرهم.
وكيف لا يعجز عن شيء قد عجز عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأخبر به أمته كما أخبر الله عنه، فهل تراه أيها الحبيب بعد ذلك بنافع لنفسه فضلاً عن غيره.
استمع أيها الحبيب إلى تحذير نبيك مما يفعله الناس اليوم فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) (موطأ مالك).
وقال أيضاً -صلى الله عليه وسلم-: (لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك).
فلتنظر أيها الحبيب إلى كلام نبيك -صلى الله عليه وسلم- فهذه البقعة التي اشتملت على جسد النبي -صلى الله عليه وسلم- من أشرف بقاع الأرض وإن كان للنبي -صلى الله عليه وسلم-، كما تعلم، هذه الكرامة التي لا تخفى علينا ولا عليك عند ربه -تعالى-، ومع ذلك يحذر أن يتخذ قبره وثناً يعبد من دون الله أو أن يتخذ عيداً، فما قولك أيها الحبيب فيمن هو دونه ولا تعلم من حاله، بل قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها السرج) (أبو داوود).
أيها المسلم الحبيب أتدري من هم سادات الأولياء؟ هم الذين بشرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة كأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وأبي عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام.
أتدري أيها الحبيب لماذا قلنا إنهم من الأولياء؟ فوالله لولا شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم أنهم في الجنة ما استطعنا أن نتفوه بكلمة واحدة، فما كان لنا أن نتكلم بما ليس لنا به علم.
بل انظر أيها الحبيب إلى ملائكة الرحمن لما قال لهم:
(أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة: 31) قالوا عند ذلك: (سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (البقرة: 32).
فنحن نشهد لهم بالجنة لشهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم، بل ونشهد لثابت بن قيس بن شماس، وكذا لعكاشة بن محصن، بل ونشهد لكل من شهد له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة، ففيه الدلالة أن الله -تعالى- قبل منهم أعمالهم، وهذا لم يكن إلا بإطلاع الله -تعالى- رسوله -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، وعدا ذلك فنمسك ولا نخوض فيما خاض فيه الناس، وتكلموا فيه بلا علم عندهم من ربهم -سبحانه- ولا رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ونقول: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا.
ولتعلم أيها الحبيب أن إيماننا هو الذي يجعلنا نقف عند حدودنا ولا نتعداه، وقد حذرنا الله أن نتكلم فيما لم يكن لنا به علم لا من كتاب ولا سنة، وأن نخوض مع الخائضين:
(يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (النور:17 ). وإلا كان هذا من باب البهتان. (هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) (النور:16).
وقد يتساهل البعض في ذلك, فنقول لهم: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور:15)
ونقول لكم: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور:63)
فيا أيها الحبيب ما الطريق إلى الولاية؟ وما السبيل إلى هذه الولاية؟
إن ذلك يتمثل في أداء الفرائض، والتقرب إلى الله بالنوافل.
أتدري ما سبيلك لأداء الفرائض؟ وهو أن تأتي بالفرائض التي ألزمنا الله -تعالى- بأدائها وإتمامها على الوجه المأمور به بامتثال الأمر، واحترامه وتعظيمه بالانقياد إليه وإظهار عظمة الربوبية وذل العبودية، فكان التقرب بذلك أعظم العمل.
ولتعلم أيها الحبيب أن من أداء الفرائض ترك المعاصي، والحذر من مخالفة أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهذه من أعظم فرائض الله -تعالى- ألا وهي ترك معاصيه التي هي حدوده التي من تعداها كان عليه من العقوبة ما ذكر الله -تعالى-.
وأنت تعلم أيها الحبيب كيف مسخ الله هؤلاء الذين استحلوا محارمه، واعتدوا على حدوده، وعتوا عن أمر ربهم فمسخهم قردة وخنازير.
أما تقربك إلى ربك بالنوافل، فهذا ليس بنافع للإنسان إلا بأداء الفرائض التي كتبها الله علينا وفرضها علينا.
- فما رأيك وما حكمك على من أحيا الليل كله ثم نام عن صلاة الفجر؟
- وما رأيك وما حكمك فيمن يصوم طوال العام ثم يفطر رمضان؟
- وما رأيك وما حكمك فيمن يتصدق من ماله، ولكنه لا يخرج زكاة ماله؟
ولتعلم أيها الحبيب أن باب النوافل باب عريض, فمنها نوافل الصلاة ونوافل الصيام ونوافل الصدقات ونوافل الأذكار وغيرها.
فعليك أيها الحبيب أن تطعم من هذه العبادات على قدر ما تستطيع, وإياك والحرمان فالمحروم هو من حرم من طاعة ربه -تعالى-.
واليك أيها الحبيب جانب من هذه النوافل التي لو زاد العبد من فعلها بعد أدائه للفرائض لازداد قرب هذا العبد من ربه -تعالى-.
فمن نوافل الصلاة:
(1) رواتب الفرائض: عن أم حبيبة -رضي الله عنها- زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعا غير فريضة إلا بني الله له بيتا في الجنة) قالت أم حبيبة فما برحت أصليهن بعد. (مسلم كتاب صلاة المسافرين باب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن). وكذا عن أم حبيبة بنت سفيان -رضي الله عنها- أنها سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من صلى أربعا قبل الظهر وأربعا بعد الظهر حرمه الله النار) (أحمد 26651 )
(2) قيام الليل: عن عائشة -رضي الله عنها- (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي بالليل إحدى عشر ركعة يوتر منها بواحد، فإذا فرغ اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن فيصلي ركعتين خفيفتين). وتقول عائشة -رضي الله عنها-: (وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع أو غيره صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة) (مسلم كتاب صلاة المسافرين باب صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض).
(3) صلاة الضحى: وقد سألت معاذة عائشة -رضي الله عنها- كم كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلى صلاة الضحى قالت: أربع ركعات ويزيد ما شاء. بل انظر أيها الحبيب إلى أهمية ركعتي الضحى، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى) (مسلم كتاب صلاة المسافرين باب استحباب صلاة الضحى).
ولأهمية صلاة الضحى كانت وصايا النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: أوصاني خليل بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر, وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام) (البخاري كتاب الصوم باب صيام أيام البيض).
(4) سنة الوضوء: عن أبي هريرة رضي الله النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لبلال عند صلاة الفجر: (يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة) قال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر في ساعة ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي). (البخاري كتاب التهجد (17) باب فضل الطور بالليل والنهار وفضل الصلاة بعد الوضوء بالليل والنهار).
من نوافل الصيام:
(1) صوم ست من شوال: عن أبي أيوب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر ) (مسلم وأبو داود والترمذي)
(2) صيام شهر الله المحرم: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل) (مسلم وأبو داود والترمذي)
(3) صوم عاشوراء: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-(صيام يوم عاشوراء وأمر بصيامه) (البخاري ومسلم)، وفي رواية عن أبي قتادة -رضي الله عنه- سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: (يكفر السنة الماضية) (مسلم).
(4) صوم شعبان: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل صوم شهر قط إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياماً منه في شعبان) (البخاري ومسلم) وفي رواية: (لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم شهراً أكثر من شعبان، فإنه كان يصوم شعبان كله، وكان يقول: (خذوا من العمل ما تطيقون، فان الله لا يمل حتى تملوا) (البخاري ومسلم)
(5) صوم ثلاثة أيام من كل شهر (سيما الأيام البيض): عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أوصاني خليلي -صلى الله عليه وسلم- بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام) (البخاري ومسلم) وفي رواية عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله) (البخاري ومسلم)
(6) صوم الاثنين والخميس: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصوم الاثنين والخميس، فقيل: يا رسول الله, إنك تصوم الاثنين والخميس، فقال (إن يوم الاثنين والخميس يغفر الله فيهما لكل مسلم إلا مهجرين، يقول: دعهما حتى يصطلحا) (مسلم وابن ماجه وأبو داود)، ولفظ مسلم: (تعرض الأعمال في كل اثنين وخميس، فيغفر الله -عز وجل- في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئاً إلا امرئ كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا)، وفي رواية أخرى عند مسلم: (تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلاً كان بينه وبين أخيه شحناء)
التقرب بتلاوة القران:
قال الله -تعالى-: (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)(فاطر: 29)
ويكفيك حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (الم) حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف) (الترمذي كتاب فضائل القران)
التقرب بالأذكار:
ويكفيك قول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) (الأحزاب: 41 -43)
وقوله -سبحانه-: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ)(البقرة: 152)
ولقد أخبرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- كيف نذكر الله -تعالى-، وأن أفضل الذكر كلمة التوحيد، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (أفضل الذكر لا إلا الله) (الترمذي وأحمد)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (من قال: لا اله إلا الله خالصاً من قلبه صادقاً من قلبه دخل الجنة)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (من قال لا اله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل) (البخاري ومسلم والترمذي)
وعليك كذلك أيها المسلم (كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمد سبحان الله العظيم) (البخاري في الدعوات باب فضل التسبيح).
التقرب بالدعاء:
ويكفيك في فضله قول ربك -سبحانه-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)(البقرة: 186)
وقول ربك -سبحانه-: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: 6.)
فان قلنا كيف ندعوه وعلى أي طريقة ندعوه؟
قلنا ينبغي لطالب الخير وباغي الرشد أن يلازم من الأدعية النبوية ما تبلغ إليه طاقته.
(اللهم أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك) (مسلم والترمذي)
ولتعلم أيها الحبيب ..
لا انتفاع للإنسان بهذه الأعمال الظاهرة التي نراها صلاحاً إلا بطهارة الباطن فعمدة الأعمال التي تترتب عليها صحتها أو فسادها هي النية والإخلاص.
ولا شك أنها من الأمور الباطنة التي لا اطلاع لأحد عليها، فلذا نقول: أنك أيها المسلم لك حدود لا تتعداها وإلا كان طغيان على سلطان الرب، فقد نحكم على إنسان من أعماله الظاهرة التي نراها لكن لما كان عمل الباطن مغيب عنا عند ذلك نقول: لا نستطيع أن نحكم لإنسان بأنه ولي إذا أتى إلينا وحي من الله -تعالى- بذلك.
عند ذلك نقول: أنا لست بنبي ولا يوحى إلي فأخشى إن تركت هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أزيغ (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك )
وختاما أيها الحبيب.. نهمس في أذنيك: أتدري تذهب هذه النذور، ولمن تذهب هذه الأموال التي تضعها في صندوق النذور؟ أتراها تذهب إلى هذا الميت المقبور فينتفع بها؟ أم أنها تذهب إلى أبناء هذا الميت المقبور فينتفعون بها؟ فإن لم تكن الأولى أو الثانية أما فكرت أين تذهب ومن الذي ينتفع بها؟ وهل هي من الصدقات التي يتقبلها الله -تعالى-؟
فالعاطفة أيها الحبيب.. قد تدفعك أن تتصدق وتضع أموالاً في هذه الصناديق.
فنقول لك: حسنا أن تتصدق، ولكن تصدق على من يستحق حتى تكون مقبولة عند ربك -تعالى-.
وختاماً نقول لك: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف:110).