كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فإن مسألة التشريك في النية من المسائل التي تناثرت أطرافها بين كتب الترغيب والترهيب والسلوك وكتب القواعد الفقهية، وكتب الفروع الفقهية، مما أوجد لبساً لدى كثير من الناس، لاسيما وأن الجانب الوعظي هو الغالب على هذه المسألة، والمسألة متى لم تأخذ حظها من الوعظ والتذكير أهملت وقلَّ العمل بها، وإن وُجِد الوعظ بغير بيان الأحكام وُجد الاضطراب في فهمها والخللُ في تطبيقها، ولذلك فسنحاول -بإذن الله- في هذه العجالة أن نجمع أطراف المسألة.
ولنبدأ بكلام الغزالي في ":إحياء علوم الدين" لشهرته ولشموله من حيث الجملة.
قسَّم -رحمه الله- الأعمال إلى ثلاثة أقسام، معاص وطاعات ومباحات، ثم بيَّن أثر النية في كل منها:
فبيَّن أن المعاصي لا تنقلب طاعات بالقصد، بل إذا انضاف إليها قصد خبيث تضاعف وزرها وعظم وبالها.
أما المباحات فبيَّن أنه ما من شيء منها إلا ويحتمل نية أو نيات.
وأما الطاعات فقد أوضح أنها مرتبطة بالنية في صحتها، وفي تضاعف فضلها، أما الأصل فهو أن ينوي عبادة الله لا غير، وأما تضاعف الفضل فبكثرة النيات الحسنة، فإن الطاعة الواحدة يمكن أن ينوي بها خيراتٍ كثيرة فيكون له بكل نية ثواب، إذ كل واحدة منها حسنة ثم تضاعف كل حسنة عشر أمثالها.
ثم ضرب مثالاً لذلك بالقعود في المسجد الذي هو طاعة في ذاته، ويمكن أن ينوي به نيات كثيرة منها أن ينوي به انتظار الصلاة، ومنها الاعتكاف وكف الجوارح، ومنها دفع الشواغل الصارفة عن الله -تعالى- بالانقطاع في المسجد.
وهذا حاصل ما ذكره الغزالي في الإحياء، وذكره كل من ابن قدامة والقاسمي في مختصراتهم للإحياء.
وهو تقسيم شامل من جهة كلامه على أثر النية على كل من المعاصي والمباحات والطاعات.
وما ذكره من أن المعصية لا تتحول إلى طاعة بالنية الصالحة، وإن كان إثمها يتضاعف كلما زادت نيات السوء فيها واضح، وكذلك فإن كلامه عن النيات الصالحة في العادات تشهد له كثير من النصوص الشرعية مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا أنفق الرجل على أهل يحتسبها فهو له صدقة) صححه الألباني.
وأما الكلام الذي ذكره في التشريك في النية في الطاعات، فإن هذا المثال الذي ذكره صحيح في ذاته، إلا أن مسألة التشريك في النية ليست ممكنة في كل الصور، بل الأصل عدم جوازها، ولذلك لزم بيان الحالات التي يجوز فيها التشريك في النية بين طاعة وأخرى، وإذا أردنا الاستيعاب فينبغي أن يضم إلى ذلك التشريك بين العبادة وبين الرياء، والتشريك بين العبادة وأي مصلحة دنيوية مباحة، ثم التشريك بين الطاعات، فحاصل ذلك أن التشريك في النية في الطاعات يشمل ثلاث صور:
الأولى: أن يضم إلى نية الطاعةِ الرياءُ والسمعة.
الثانية: أن يضم إليها طلب حاجة دنيوية مباحة كمن يجاهد يريد الأجر والغنيمة، وكمن يحج يريد الحج والتجارة.
الثالثة: أن يضم إليها نية عبادة أخرى.
وإذا كان علماء السلوك يعنون في النية بمسألة الإخلاص، وعلماء الفروع يعنون بمسألة تمييز العادة من العبادة وتمييز رتب العبادات عن بعضها؛ فلذلك كثر بحث الصورتين الأوليين في أبواب الإخلاص من كتب السلوك، وبحث الصورة الأخيرة في مظانها من كتب الفقه، وجمع علماء القواعد الفقهية بين ذلك كله، وممن وفِّى المسألة حقها الإمام السيوطي في "الأشباه والنظائر"، كما أشار إليها الشاطبي في "الموافقات".
وممن بحثها من المعاصرين الدكتور عمر سليمان الأشقر في كتابه "مقاصد المكلفين" المجزَّأ إلى جزأين: جزء عن الإخلاص والآخر عن "النيات في العبادات". فقد بحث الصورتين الأوليين في جزء الإخلاص، وبحث الثالثة في جزء النيات في العبادات.
وإليك خلاصة ذلك ملخصاً من هذه المصادر مع عدم التقيد بسياق أي منها:
أما صورة الرياء فالأمر فيها بيِّن من أنها محرمة، وهي من الشرك الذي يدور بين الأصغر والأكبر. أما كونه يحبط العمل أم لا، ففي ذلك تفصيل حاصله: أنه يحبط العمل إن كان الرياء في أصل العمل، أو طرأ عليه ولم يدفعه صاحبه. وإما إن كان خاطراً فدافعه صاحبه إلى أن اندفع فلا يبطل العمل بذلك.
وأما الصورة الثانية: وهي أن يضم إلى العبادة القصد إلى منفعة دنيوية مباحة ففيها قولان:
ذهب ابن حزم ومن وافقه إلى أن هذا كالرياء سواء بسواء لأن من قصد إلى هذا لم يعبد الله مخلصًا له الدين كما أمر.
وذهب الجمهور إلى أن هذا ليس كالرياء والدليل معهم كتاباً وسنة، وقد قال الله -تعالى- مبيناً جواز التجارة في الحج: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتـَغـُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ) (البقرة:198)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مثل الذين يغزون من أمتي ويأخذون ما يعطون مثل أم موسى ترضع ابنها وتأخذ أجرها)، إلا أن هذا جزء معجل من الثواب، ولذلك ينقص من الثواب الأخروي من هذا الباب، وأما من رد ما أخذ من غنيمة في الإعداد للجهاد فهذا يعود إليه ثوابه أوفر ما كان بفضل الله، وقد بين الإمام القرافي الفرق بين هذا النوع وبين الرياء في الفرق "الثاني والعشرين والمائة" من كتابه "الفروق"، بكلام حسن طويل فليُراجع. وفرق ابن تيمية بينهما بعبارة لطيفة، ففرق بين من يكون مقصوده الدين وأما الدنيا فوسيلة، وبين من تكون الدنيا مقصوده والدين هو الوسيلة، والأشبه أن هذا ليس له في الآخرة من خلاق كما دلت عليه نصوص ليس هذا موضعها" مجموع الفتاوى 26/19"
وقد استشهد بكل من النقلين الدكتور الأشقر في "مقاصد المكلفين"
ومن أشهر أمثلة هذه الصورة:
1- الوضوء بقصد رفع الحدث والتبرد: الصحيح جوازه وعند ابن حزم لا يصح.
2- الصلاة بنية الصلاة والهروب من عدو: الصحيح الجواز عند الجمهور.
3- الصيام بنية العبادة وطلب لصحة البدن: الصحيح جوازه. ومما ينبغي التنبيه عليه في هذه الصورة بالذات كثرة استعمال الخطباء لهذه المصلحة الدنيوية كمدخل رئيس للترغيب في عبادة الصوم لاسيما النوافل، وقد علمت أن هذه النيات الدنيوية تنقص الأجر فلا ينبغي استعمالها كمرغب إلا عرضاً، وكما قال ابن القيم -رحمه الله-: "شتان بين من عاداته عبادات وبين من عباداته عادات".
4- التجارة في الحج دل القرآن على جوازها.
5- المجاهد يريد الأجر والغنيمة دل الحديث المذكور آنفاً على مشروعيته، وكذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي) صحيح الجامع
وأما الصورة الثالثة: وهي أن يقصد بالعمل الواحد قربتين، ويكاد الفقهاء يجمعون على أن الأصل عدم جواز ذلك لأن الأمر بالعبادة يقتضي الإتيان بها ظاهراً وباطناً، ومن أتى بفعل ظاهر واحد وجمع له نيتين لم يكن قد أتى بالفعلين المأمور بهما، ولذلك فالإجماع أنه لا يجوز أن يصلي أربع ركعات بنية الظهر والعصر مثلاً وإن كانتا من الفوائت.
وقد أجمع العلماء على استثناء الحج والعمرة من هذه القاعدة لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) صحيح الجامع
وذهب ابن حزم إلى أن هذا هو الاستثناء الوحيد حتى أنه ذهب إلى عدم جواز الجمع بين نية العبادة وبين إرادة أي منفعة دنيوية كما تقدم، وكذلك هنا لا يرى جواز الجمع بين أكثر من نية لأي عبادة غير الحج والعمرة، بينما ذكر الفقهاء فروعاً كثيرة جوَّزوا فيها الجمع بين النيات، ولا شك أن لديهم قاعدة لتمييز ما يقبل الاشتراك أو التداخل مما لا يقبل، وإن لم يعنوا ببيانها تاركين ذلك لعلماء القواعد الفقهية.
ومن المعلوم أن القاعدة الفقهية تنشأ من مجموعة أحكام فرعية معللة بعلة يمكن أن توجد في غير تلك الصور المنصوص عليها، فيجرد العلماء منها قاعدة لكي يطبقوها على نظائر هذه الفروع، فلنبدأ ببيان الصور المنصوص عليها في التشريك في النية أو التداخل بين العبادات:
1- التداخل بين الحج والعمرة، وإن كانت هذه الصورة خاصة لا تقبل القياس عليها كما هو واضح.
2- تداخل الطهارة، فيكتفي عند تعدد الحدث بطهارة واحدة لأن الشرع لم يأمر المجامع الذي أنزل في جماعه بغسلين مع أن الجماع والإنزال كلاهما حدث مستقل.
ومن المنصوص عليه أيضاً -والله أعلم- تداخل الوضوء والغسل وفي ذلك آثار جيدة عن الصحابة، ومنه أيضاً التداخل بين غسل الجمعة وغسل الجنابة، وبه يقول الجمهور، ولكن هل هو من المنصوص عليها أم مخرج على القاعدة، والذي يبدو لي -والله أعلم- أنه يمكن أن يستخرج حكمه من قوله -صلى الله عليه وسلم-: (من غسَّل واغتسل) أي جامع فأوجب الغسل على زوجته واغتسل، ففيه الندب إلى أن يجعل غسل الجمعة من جنابة أيضاً، ولم يأمره بغسلين.
3- ومن ذلك المثال الذي ذكره الغزالي في المكث في المسجد والنيات التي يستحضرها العبد فيه، وكلها جاء الشرع ببيانها وبترغيب المكلفين في طلبها، وهي تحصل تلقائياً بمشي العبد إلى المسجد وبمكثه فيه.
4- قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة) رواه النسائي وصححه الألباني، وبنحوه أجاب النبي -صلى الله عليه وسلم- زينب امرأة ابن مسعود وامرأة معها -رضي الله عنهم- عن الصدقة على أزواجهما وأيتام في حجورهما فقال: (لهما أجران: أجر القرابة وأجر الصلة) متفق عليه.
وإذا كانت تلك هي الصور المنصوص عليها فيسهل حينئذ استخراج الضابط لما يقبل الاشتراك وما لا يقبل، يقول الدكتور الأشقر في "مقاصد المكلفين": "وأما ما صححوه من تجويز عبادتين بنية واحدة فالذي يظهر لي أن الشارع قد اعتبر فيه هذين الأمرين المقصودين ولو لم يقصدهما الفاعل، فالذي يتصدق على ذوي رحمه ينال أجرين أجر الصدقة، وأجر صلة الرحم، فإذا قصد هذا الشيء الذي أقره الشارع لم يكن مخالفاً بل موافقاً مصيباً.
وهذا الضابط هو الذي يسميه الشاطبي بالمقاصد الأصلية والمقاصد التابعة كما في المسألة العاشرة من الفصل الثالث من كتاب الأدلة الشرعية من كتاب الموافقات، وبناء على هذا الضابط يمكن أن تدرس الفروع المختلفة وإن كان لا يلزم أن تتفق نظرة العلماء إلى كل المسائل في مدى اعتبارها أصلية أو تابعة.
وإن استبعدنا قول الظاهرية الذي يرفض التشريك إلا في الحج والعمرة يمكن استعراض المسائل الفرعية التالية:
1- لا يشرع إلا وضوء واحد وإن تعددت الأحداث الصغرى، وكذلك لا يشرع إلا غسل واحد وإن تعددت الأحداث الكبرى.
2- تغني الطهارة من الحدث الأكبر عن الطهارة من الأصغر.
3- يغني غسل الجمعة عن الجنابة والجنابة عن الجمعة إن وقع في يومها سواء نواهما أو نوى أحدهما، ولبعض العلماء تفصيل في ذلك.
4- تجزئ صلاة النافلة أو الفريضة عن تحية المسجد. فقال ابن نجيم في الأشباه والنظائر، ونقله عنه الأشقر في مقاصد المكلفين: "لأن تحية المسجد تحصل وإن لم يقصدها".
5- وركعتا الوضوء والطواف لهما نفس الحكم عند الجمهور.
6- وكذلك على الصحيح ركعتا الاستخارة بحيث تصح الاستخارة عقب أي ركعتي نافلة، حتى لو لم ترد على باله استخارة إلا بعد الفراغ منهما.
7- وأما الصوم فالاختلاف فيه واسع، وإن كانت القاعدة شبه متفق عليها، ولكن الخلاف في تقدير الأيام الفاضلة التي ورد الترغيب في صيامها. فهل ذلك لكونه عبادة مستقلة كالسنن الرواتب؟ أم لأن هذه الأزمان فاضلة يشرع تعميرها بالصوم؟ وفي المسألة طرفان ووسط:
أما الطرف الأول فصيام الاثنين والخميس: فالأمر فيهما واضح في قوله -صلى الله عليه وسلم- عنهما: (ترفع فيهما الأعمال إلى الله وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم) صحيح، ومن ثم فصيام الاثنين والخميس مثل تحية المسجد فإن كان اليوم مشغولاً بصيام رمضان أو قضاء رمضان أو نذر أو غيره وإلا استحب إنشاء صيام مخصوص في هذين اليومين.
وأما الطرف الثاني فصيام ستة أيام من شوال، فيكاد العلماء يتفقون على أن العدد هنا مقصود، وأنها ستة أيام لكي يقوموا في المضاعفة بثواب شهرين كما ورد في الحديث الذي رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني في صحيح الترغيب عن ثوبان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (صيام رمضان بعشرة أشهر وصيام ستة أيام بشهرين فذلك صيام السنة) صحيح.
ويتفرع على اعتبار صيام الستة أيام من شوال عبادة أصلية لا تبعية أمور:
الأول: عدم جواز الجمع بينهما وبين أي عبادة أصلية أخرى.
الثاني: جواز إيقاعها في أيام الاثنين والخميس لكونهما من العبادات التبعية.
الثالث: عند من يقول بأن الصائم الذي ينوي أثناء النهار في النافلة لا يكتب له إلا من وقت النية يرى لزوم تبيـيت النية من الليل حتى يكون العبد قد صام ستة أيام كاملة.
الرابع: ويتفرع على هذا الخلاف الشهير فيما هل يجوز البدء بصيام الستة من شوال قبل القضاء، والراجح فيه أن الأولى التعجيل بالقضاء ثم صيام الستة من شوال، وإلا جاز تعجيل صيام الست على أن يؤخر القضاء. وفي هذه الحالة يبقى الثواب معلقاً على القضاء ليكون العبد قد صام رمضان وأتبعها ستاً من شوال. هذا وقد ذهب الرملي من المتأخرين إلى اعتبار الست من شوال مثل الاثنين والخميس وهو قول لا يكاد يعرف عن المتقدمين، وإن كان بعضهم قد ذهب إلى ذلك في صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، ومن تأمل في الثواب العظيم المرتب على صيام هذه الأيام علم أنها أولى ما وصف بأنه رواتب للصوم، ويترتب عليه أنها من العبادات الأصلية لا التبعية.
وفي باب الحج اختلفوا في طواف الوداع، والراجح قياسه على تحية المسجد، ومن ثم فمن طاف للزيارة ثم ارتحل ليس عليه طواف وداع.
وسبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.