كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فمنذ أن أخذ الشيطان على نفسه عهداً أن يضل كل الخلق إلا من اعتصم منه بالله كما حكى الله عنه قوله: (فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)(ص:82-83)، والشيطان لا يكل ولا يمل من صد الناس عن طريق الله بكل ممكن ومستطاع.
ولا ينجو منه إلا عباد الله المخلصين، ولأن الشيطان فقيه في الشر، عالم بطبائع النفوس، فإنه لا ييأس من إضلال المخلصين؛ لأنه يعلم أن الفتنة قريبة من كل أحد، ولأن إضلال من عـُرِف بالخير والصلاح يمثل بالنسبة له نصراً مضاعفاً، ومن ثمَّ فإن الشيطان ينصب شباكه حول الصالحين لاستدراجهم إلى الكفر، فينقلهم من دركة من دركات الكفر إلى أختها خطوة خطوة، حتى يصل بهم إلى نقطة اللا عودة في وجهة نظره، ومتى وصل بهم إلى هذه النقطة، فإنه لا يكتفي بإضلالهم في خاصة أنفسهم حتى يعد العدة لفضيحتهم على الملأ، إشاعة للكفر والفواحش وهذا إذا وصلوا معه إلى نقطة اللا عودة، وأما من منَّ الله عليه فتاب وعاد من قريب فإن الشيطان يستنفر جنده وأنصاره لكي يشنوا حرباً شرسة تدفعه دفعاً إلى نقطة اللا عودة.
وفي قصص أهل الكتاب قصتان لعابدين من عابدي بني إسرائيل، واحدة وصل فيها الشيطان مع صاحبها إلى نقطة اللا عودة وهي قصة "برصيصا العابد" وهي من القصص التي فيها عبرة ذكرها من ذكرها من السلف نقلاً عن أهل الكتاب على إنها إحدى الأمثلة الواقعية على هذا المثل القرآني: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)(الحشر:16).
وحاصل هذه القصة أن الشيطان استدرج هذا العابد حتى زنا بامرأة وقتلها وقتل ولدها، ثم فضحه عند الناس، ولما وُضع على خشبة الصلب ليُصلب تمثـَّل له وقال: لقد علمت أني أنا صاحبك الذي أغريتك بها فاسجد لي سجدة وأنا أنجيك مما أنت فيه، فسجد له! فولَّى هارباً وقال: إني أخاف الله رب العالمين.
وأما القصة الثانية فهي قصة ثابتة قصها علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي قصة "جريج العابد" الذي استدرجه بعقوق أمه التي كانت تتكبد المسافات الطويلة لكي تنظر إليه نظرة من أسفل صومعته، فلما كانت تأتيه وهو يصلي صلاة النافلة كان يفضل الاستمرار في النافلة على طاعة أمه، ثم وجد الشيطان أن الفرصة سانحة لكي يهوي به إلى دركة من أسفل دركات الباطل، فأوحى إلى بغي من بغايا بني إسرائيل أن تحاول فتنته افتخاراً بأنها تقدر على فتنة كل أحد حتى جريج العابد.
ولكن أدركته رحمة الله، وعصمة الله من إجابتها أو من النظر إليها أصلاً، وهنا -وهذا هو بيت القصيد في سياقنا هذا- أوحى الشيطان إلى هذه المرأة أن تمكن نفسها من راعي غنم، وأن تنسب ولدها لجريج، وأوحى إلى بني إسرائيل أن يهيجوا الحاكم عليه لإقامة الحد عليه وهدموا صومعته وضربوه، ومرة ثانية عصمه الله -عز وجل- من أن يلجأ إلى غيره فتوضأ وصلى ودعا ربه -عز وجل- ثم أقبل على الصبي وكله ثقة بنصر الله، وقال: من أبوك؟ قال الغلام: أبي الراعي فلان.
الله أكبر، له الحمد كله، وله الشكر كله، وإليه يرجع الأمر كله، نصر عبده جريج لما أوى إلى الله واستعان بالله، وعاد -بحمد الله- قبل أن يصل إلى نقطة اللا عودة الشيطانية.
ومن جريج العابد ننتقل إلى قصة شعب فلسطين المجاهد الذي أعلن راية الجهاد، وأعاد إلى الأذهان حقيقة أن صراعنا مع اليهود صراعاً عقدياً بعد ما ظن الكثير من الخلق أن الصراع مع اليهود على أشبار من الأرض، وحثـَيَات من التراب الغالي، لكنه استدرجت طائفة منه إلى لعبة سياسية طلباً للنصر عند أعدائها وأعداء أمتها، وغفلت أنها بذلك تكون كمن يطلب الشهد من أنياب ثعبان! وتجاهلت النصوص الشرعية: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)(هود:113)، (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)(القلم:9)، (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً)(الإنسان:24)، كما تجاهلت التجارب الواقعة أمامها، والسعيد من وُعِظ بغيره.
وظنت هذه الطائفة في أول الأمر أنه بوسعها أن تجمع بين الثوابت الإسلامية وبين الحيل السياسية، ولما وجدت أن الأمر أشبه بالمستحيل، قدمت عدداً من التنازلات، والشياطين يقولون: ليس بعد، ولسان حالهم يقول: إنما ننتظركم عند نقطة اللا عودة؛ لنرميكم في بحر الكفر والضلال، ولكن -بحمد لله- أفاق المسلمون في فلسطين قبل أن يصلوا إلى نقطة اللا عودة وشرعوا في العودة، وقام جنود إسرائيل ليهدموا الصومعة على أهل فلسطين كما هدموها من قبل على جريج، ولكن ليس بالفؤوس والمساحي هذه المرة، ولكن بالطائرات والقاذفات والمدرعات.
وكما قام جريج يصلي ويدعو فأنطق الله له طفلاً رضيعاً في مهده؛ فإلى المسلمين في فلسطين وإلى كل مسلم غيور يحب المجاهدين في سبيل الله، ويحب عودة المسلمين إلى الحق، لا تنتظروا نصرة من شرق أو من غرب فالجميع يريد أن يعود بكم إلى نقطة اللا عودة، ولكن تضرعوا إلى الله بالدعاء وارفعوا أيديكم إلى السماء؛ عسى الله أن يرد كيد الأعداء في نحورهم، وأن يجعل تدبيرهم تدميرهم.
وأخيراً مسلمي فلسطين: العدو قد ملأ طريق العودة بالألغام فلا بد من تضحية فتحملوها بنفوس راضية، قلوب إخوانكم في كل مكان معكم، وأيديهم مرفوعة إلى السماء من أجلكم، والله يرعانا ويرعاكم. (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)(آل عمران:126).