الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
انتهت أزمة تصريحات وزير الثقافة حول الحجاب أو هكذا أعلن، وبقيت توابعها التي من أشهرها كثرة الكلام على المادة الثانية للدستور التي تنص في صورتها المعدلة على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وكانت صورتها الأولى في دستور 1971 تنص على أن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي من مصادر التشريع، وهو التعديل الذي أثار جدلاً قانونياً حول مدى لزوم التقيد بالشريعة عند سن القوانين إلى أن حسمته المحكمة الدستورية العليا بلزوم التقيد بالشريعة فيما يستقبل من قوانين بعد التعديل الدستوري، مع عدم إلغاء القوانين السابقة المخالفة إلا بنص خاص.
ونظراً لأن محاكمة وزير الثقافة أخذت الطابع السياسي فلقد نوَّه معظم المشاركين إلى أنه كان يتعين على الوزير بصفته مسئولاً حكومياً أن يلتزم بالمادة الثانية من الدستور مما أثار حفيظة العلمانيين جداً، وأخذوا ينادون ليس فقط بإرجاع هذه المادة إلى صياغتها الأولى التي صدرت عليها عام 1971، بل ينادون بالعودة إلى دستور 1923 الذي لم يذكر الدين ككل إلا في مادة واحدة في الباب السادس منه حيث نص على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام بعد أن تقرر في الأبواب السابقة كل قواعد الدولة المدنية.
ومن عجب أمرهم أنهم رغم ادعائهم بالإيمان بالديموقراطية، وثنائهم على السادات من أجل كامب ديفيد وغيرها إلا أنهم يكفرون بالديموقراطية ويسبون السادات بسبب هذه المادة التي يرون أنها تكرس للدولة الدينية بكل معانيها، وهم ينسبون هذه المادة إلى السادات رغم أنها أقرت باستفتاء شعبي شأنها شأن كل مواد الدستور الذي من المفترض أن يكون معبراً عن إرادة الأمة ككل، فإن طعنوا على الاستفتاء على هذه المادة فغيرها أولى بالطعن، ولعلها تكون واحدة من مواد الدستور القليلة التي يفهمها ويقرها عامة الناس.
ترى لو سألنا عوام الناس الذين يمثلون القوة التصوتية في المجتمع، وليس شراذم ممن يسمون أنفسهم مثقفين على الشريعة، وسألناهم الحرية الليبرالية والتوجه الاقتصادي للدولة والأسلوب السياسي الأمثل...الخ ماذا سيكون جواب الناس؟؟
إن مشكلة المثقفين الماركسيين منهم والليبراليين أنهم جسم غريب عن الأمة في اعتقاداته وسلوكياته، ولذلك لا تجد لهم -بفضل الله- عمقاً جماهيرياً بل هم أشبه بالرأس بلا جسد، لأنهم في واقع الأمر أذناب لجسم آخر حاول أن يجعل نفسه رأساً فأبى الناس أن يكونوا أذناب الأذناب لأعداء دينهم وأمتهم.
وقد أبى هؤلاء أن يسلكوا طريق المؤمنين بالله الذي إذا سمعوا كلام الله قالوا: سمعنا وأطعنا، متذرعين بأنهم لا يلزمهم كلام الفقهاء، متناسين أن أي تشريع إلهياً كان أو وضعياً لابد له من فقهاء، وأن تفسير النصوص عند علمائنا يخضع لقواعد دقيقة بينوها في علم أصول الفقه الذي استعاره فقهاء القانون الوضعي منهم.
ويخلط هؤلاء عن عمد بين دور الفقيه في الفهم والاستنباط وبين دور "رجال الدين" في أوربا في العصور الوسطى حيث كانوا يستقلون بالتشريع، وينسبون هذا الأمر إلى الله فيما عرف في التاريخ بالدولة الدينية، ومن ثم ينكرونها على سبيل الذم، بينما ندعو نحن إلى دولة دينية قائمة على أن يكون كل من الحاكم والمحكوم خاضعاً للتشريع الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي أجمعت الأمة على أصوله فلم يبق فيها عمل لفقيه ولا لغير فقيه، وتبقى دقائق المسائل ومستجدات العصر هي التي تتطلب الاجتهاد بقواعده الدقيقة كما أشرنا آنفاً.
وكما ادعى هؤلاء الإيمان بالله، ولكنهم سلكوا غير سبيل المؤمنين بالله، فكذلك كان حالهم مع دينهم الآخر -أعني الديموقراطية- فها هم يطعنون على أكثر مواد الدستور قبولاً لدى الشعب الذي من المفترض أن هذا الدستور يمثل إرادته العامة، وهاهم يطعنون على موقف الأغلبية البرلمانية من قضية الحجاب، ووصفهم لها بالغوغائية لا لشيء إلا لأنهم وافقوا الشرع في هذه القضية، وطالبوا بإعمال المادة الثانية من دستور 1971.
فراح هؤلاء يطعنون على هذه المادة، ويتصورون أننا ما زلنا نحكم بدستور 1923 الذي صدر في ظل الاحتلال، وبنوا عليه موقفهم من أن دستور 23 جعل حرية الرأي في مواده الأولى، وجعل الدين في الباب السادس.
وإذا كانوا قد استجازوا لأنفسهم الرجوع إلى دستور 23 أليس من حقنا نحن أن نرجع إلى ما قبل دستور 23، أو بالأحرى إلى ما قبل الاحتلال الفرنسي والبريطاني لبلاد المسلمين. أليس من واجبنا وواجبهم بحكم انتسابهم إلى الإسلام أن ندعو إلى تحكيم شرع الله، ونبذ ما خالفه.
وإن كان هؤلاء القوم لا يفقهون إلا لغة الديموقراطية، وإن كانوا لا يؤمنون بها واقعياً فليعرضوا مواد الدستور على الشعب مادة مادة، ولينظروا أي مادة ستكون الأكثر قبولاً، ونتحداهم أن التصويت على مادة الشريعة سوف يشهد أعلى نسبة حضور، وأن نسبة المؤيدين لها سوف تزيد عن 90% هذا إذا ما بالغنا في حجم المعارضين لهذه المادة إلى اختلاف أطيافهم، وأما المواد الأخرى فلا أظن أن أحداً سوف يذهب لها حتى هؤلاء المثقفون فهم لا يحبون أن يغادروا مقاهي الحرافيش التي حبسوا أنفسهم فيها.
وإذا كان القوم لا يفقهون إلا لغة السياسية فليعلموا أنه في ظل تنامي تيار التدين -بفضل الله- فإن وجود هذه المادة في دستور الدولة يمهد لدرجة ما من الولاء بين القطاع الأكبر من أبنائها وبين دستورها، وأنه ليس من الحكمة السياسية أن يفرض على القطاع الأكبر من الشعب نمط يقطع خطوط الولاء بينه وبين دستور بلاده.