كتبه أحمد عبد الحميد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد،
في مقالتين سابقتين(اضغط هنا) تحدثنا عن الاكتئاب وكونه أصبح صناعة وسلعة يروج لها من خلال أدوات صناعة الوهم المعروفة باسم وسائل الإعلام، ونكمل الحديث عن بعض الأساليب الخطيرة التي من خلالها تتكامل حلقات الفتك بنفسيات الناس وإرهاقها أكثر مما هي عليه بالفعل.
فمن ذلك، الترويج لأنماط الحياة الغربية التي صيغت وفق خلفيات ثقافية ودينية تعتبر الدنيا المحسوسة هي مبلغ العلم وغاية الهم، وتجعل الغاية التي خلق من أجلها الإنسان هي التجرع من كأس الدنيا حتى الثمالة، أما العمل للآخرة فغايته زيارة أسبوعية -على أكثر الأحوال- للكنيسة، وما عدا ذلك فالواحد منهم في عمله طوال الأسبوع كالثور في الساقية منتظرا عطلة نهاية الأسبوع بفارغ الصبر ليلهو فيها كالخنزير في بركة الأوحال. وهذه الحياة التي تتعامل مع الدنيا باعتبارها مزرعة للدنيا تعارض بصفة أساسية المنظور الإسلامي لحياة البشر وما ينبغي أن تكون عليه، وأي انحراف بالبشر عما خلقوا من أجله يوقعهم في أنواع من الاضطراب والخلل لا يعلم مداها إلا الله.
ودليل ذلك أنه بالرغم من كون الحياة الغربية قائمة على الانغماس في المتع والشهوات حتى الآذان على اعتبار أن هذا هو طريق السعادة المطلقة، إلا أن زيارة الطبيب النفسي تعتبر من أولويات الغربيين وتسبق في ذلك أهمية الذهاب إلى الكنيسة، وأقساط تكاليف العلاج النفسي تعتبر بندا أساسيا في ميزانية الغربي، بالإضافة إلى ثمن كأس الخمر فهي قرة العين عند القوم، حيث تغطي عقولهم وتسكرهم عما يعانونه من أنواع الآلام الناجمة عن ظلمهم لأنفسهم بمعصية ربهم، وظلمهم لبعضهم بالتهاون في الأعراض، وكذلك بأكلهم أموالهم بينهم بالباطل عن طريق الربا الذي هو عصب حياتهم، وعن طريق المعاملات المحرمة التي لا تكاد تستطيع فصلها عن المعاملات الجائزة، بالإضافة إلى كون أغلب المجتمعات الغربية قائمة على فلسفات نفعية أنانية أثرت فيها فلسفة (نيتشه) إلى أبعد حد، فالقوي يسحق الضعيف في سبيل تحقيق سعادته الموهومة، ولذا تجد هذه المجتمعات مفككة متهرئة إلى أبعد مدى، تغلي من داخلها وتوشك على الانفجار، ولا تكاد تتماسك إلا بأحزمة من قوانين متوترة متعسفة تعكس إحساسا متعاظما بالخوف من لحظة الانهيار التام لهذه القشرة الخارجية الهشة من دعاوى التمدن والتحضر، هذا في الوقت الذي يصور الإعلام هذه الحياة وكأن أهلها يرفلون في سعادة تفوق سعادة أهل الجنة، وأول المخدوعين بذلك هم الغربيون أنفسهم، فيخدعون أنفسهم ويخدعون السفهاء من الناس.
ووسائل الإعلام تفتح للناس-غنيهم وفقيرهم،عاقلهم وسفيههم- نافذة للاطلاع على هذه الحياة وتركز على ما يثير خيال ضعاف النفوس من سيارات فارهة وشوارع لامعة وبيت ريفي هادئ ذي حديقة أنيقة ومزرعة صغيرة-بما فيها من خنزير صغير لطيف المعشر- وبالطبع الكلب المدلل كعضو أساسي في الأسرة الأمريكية على سبيل المثال، مع التمويه على كل قبائح هذه الحياة ورذائلها، وبالتالي تصبح الحياة الغربية هي جنة الدنيا التي من دخلها فلا داعي لأن ينشغل بجنة الآخرة.
ويزيد الطين بلة أن وسائل الإعلام لا تتعرض للأسباب التي اتخذها الغربيون في إخلاصهم لدنياهم حتى يصلوا إلى مجتمعات الرفاهية تلك، وإن تعرضت فيكون ذلك في برامج يقدمها مفتونون، خلاصة ما يقدمونه أن الغربيين متقدمون لأنهم غربيون ونحن متخلفون لأننا لسنا كذلك، وبالتالي تصبح المعادلة عند الكثير إما أن تهاجر إلى الغرب لأنه لا أمل في مجتمعاتنا، وإن لم تستطع فعلى الأقل هاجر بقلبك، فارتد ثيابا غربية وتقمص دور (الخواجة) المتأفف دائما من مدى الانحطاط الذي عليه مجتمعاتنا ولا تنس إضافة بعض الكلمات من نوعية (yes..no..ok) مع مراعاة اللكنة في النطق، ثم لا تبتأس فأنت الآن تنتمي إلى هناك وليس إلى هنا.
ومما لاشك فيه أن كل مجتمع له من الخصائص مايجعله يختلف عن غيره، بما في ذلك مجتمعاتنا الإسلامية التي لها خصوصيات معينة أهمها رصيد التدين الموجود في قلوب الناس والباقي برغم تلوث الفِطَر بأنواع الملوثات، وبناء على ذلك فإن أي محاولة لتقمص شخصية الغربيين وأنماط حياتهم توقع صاحبها في ازدواجية نفسية يكون الاكتئاب أقل نتائجها. فالشاب الذي يدخل المطعم ذي العلامة التجارية والطابع الأمريكيين، متخذا أسلوبا غربيا في طريقة ملبسه ومشيته وحديثه واهتماماته وعلاقاته سيخرج من المطعم ليجد عالما مختلفا تماما في كلياته وتفاصيله عن عالمه المغرور المتعالي بما في ذلك الطريق المزدحم، والانفلات المروري، والمتسولين رثي الهيئة، وروتينيات الدوائر الرسمية وامتهان كرامة الإنسان، بالإضافة إلى كونه لن يستطيع احتضان رفيقته في الطريق-كسفالة الغربيين- إلا ويجد المنكرين أو أعين المتلصصين، كل هذه العوامل وغيرها تجعل هذا الشاب يحيا حياة الازدواجية بين ما يراه على الشاشات اللامعة وما يعيشه على أرض الواقع. وهو حتى ولو عاش حياة الغربيين بتفاصيلها كاملة فلن يجني إلا المرارة، فهو خاسر في جميع الأحوال.
فالناس تحتاج إلى إعلام يثبت أقدامها على الأرض في مواجهة صعوبات الواقع وتعقيداته لا إعلام يحملها ليلقي بها بعيدا في صحراء الوهم القاحلة.
هذا بالإضافة إلى أن نمط الحياة الغربية باهظ التكاليف بدرجة كبيرة، وفي سبيل ذلك يعمل الغربيون بلا هوادة كما أشرنا من أجل تحصيل المال لإتلافه على شهواتهم، فهم مستهلكون إلى أقصى حد، وهم مع ذلك منتجون إلى أقصى حد. وبالطبع فالذي يجلس فاغرا فمه مشدوها بمشاهد المسلسل الأمريكي اليومي-وحاليا المكسيكي هو الموضة-، أو متابعة السيل الجارف من إعلانات الطعام والملابس والسيارات والمساكن الفاخرة والمنتجعات، فلا تنتظر منه - هذا الكائن الاسفنجي- أن يكون منتجا بأي درجة، ويبقى له أن يكون آلة مستهلكة لكل شيء لا تنتج سوى البطالة و التبعية، ولتصبح ثقافة الاستهلاك هي الثقافة السائدة في مجتمعاتنا.
وحين تربوا معدلات الاستهلاك في أي مجتمع على معدلات الانتاج فلا تفتش عن السرقة و الرشوة والاحتيال وإدمان المخدرات، فسترى ذلك كله ماثلا أمامك بلا مجهود. هذا إذا كان الاستهلاك للضروريات أو الحاجيات فما بالك وجل ما يُرَغَّب في استهلاكه في وسائل الإعلام يدخل في باب التحسينيات بل والسفاهات في أغلب الأحيان. ولن يصبح غريبا وقتها أن تسمع عن انتحار رب أسرة لأنه لم يستطع توفير تكاليف أسبوع المصيف مثل فلان، أو لم يتمكن من شراء مشغل الـ(دي في دي) مثل علان، ناهيك عمن يضحون بحياتهم كل سنة بدلا من خروف العيد. ينتج هذا كله بسبب أن من فتنوا بمتابعة التلفاز وغيره يجدون أنفسهم عاجزين عن مسايرة أنماط الحياة المعروضة فيها وفي نفس الوقت لا يمنعون أنفسهم عن هذا الساحر على الذي يعقد على نفوسهم عقده، فيكون الحل إما انتحار ينهي الحياة ذاتها، أو جريمة قتل أو سرقة أو رشوة من أجل تحصيل المال اللازم لحياة الترف.
والذي يتابع صفحات الحوادث يجدها مليئة بأخبار من نوعية فلان الذي احتال أو سرق أو اتجر بالمخدرات وأنفق أمواله سريعا على موائد القمار والملاهي الليلة، وربما كان إنفاقه السفيه هو السبب في لفت أنظار الشرطة إليه، فهو أول ما وجد المال بين يديه وافرا أسرع إلى الملاهي والفنادق لينال ولو لعقة من طبق (الكريمة) -القشدة- بتقليده ما يراه في وسائل الإعلام من صور عن (طبقة الكريمة crème de la crème-) - كما يسمونهم- والتي تعني طبقة النخبة أو الملأ - بأسلوب آخر- ، وهي الطبقة التي تفرد لها العديد من الصفحات في الصحف، بل وتفرد لها مجلات كاملة تتحدث عن أخبارها واحتفالاتها الفارهة الصاخبة المتمثلة في حفلات أعياد الميلاد والخطبة والزواج – وربما الطلاق كذلك- فهي الطبقة المترفة التي تقلد الغربيين في كل كبير وصغير، تحتفل بكل شيء، وتتأنق طوال الوقت، وتنفق ببذخ سفيه لا يقيم للمال وزنا، وهي بالتالي تجني نفس الثمرة التي يجتنيها الغربيون من نفس شجرة الوهم التي تنبت الحنظل قطعا ولا تنبت (الكريمة)...و الحديث موصول إن شاء الله.