كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فإن المتأمل في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى) رواه البخاري، ليتملكه العجب من هذا العمل الذي يرفع صاحبه إلى أن تكون منزلته في الجنة تالية لمنازل الأنبياء التي على رأسها منزلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى لا يكون بينه وبينها شيء كما أنه لا شيء بين السبابة والوسطى، ولكن هذا العجب سرعان ما يزول حينما نراجع شرح الحديث ونعلم معنى الكفالة؛ وأنها ليست مجرد جنيهات قليلة يدفعها الإنسان إلى يتيم كما أقنعنا أنفسنا -وإن كان هذا من الخير لا شك- بل ولا حتى هي الإنفاق على اليتيم إنفاقا تاماً، ولكنها كفالة مثل كفالة النبي -صلى الله عليه وسلم- للأمة من التربية والتهذيب والتأديب وربما أتى بعد ذلك الإنفاق وربما لم يأت في حق اليتيم الذي يرث مالاً من أبيه، ولكن يحتاج إلى من يعوضه عن ولاية أبيه وتأديب أبيه.
وعلى الرغم من أن اليتيم شرعاً ولغة إنما يكون فيمن فقد أباه إلا أن من فقد أمه شرع الشرع له الحضانة وحض عليها، ورتب لها مستحقيها إذا كثرت الطالبات لها، فجعل الأولى بها النساء من جهة الأم متى لم يكن متزوجات، أو كن متزوجات ورضي أزواجهن بذلك. ولم ينازعهن أحد أولى منهن.
والحكمة في هذه -والله أعلم-: أن أم الأم المتوفاة أو أختها يشعرن حال قيامهن بالحضانة أنهن يتحملن عن الابنة أو الأخت، مما يجعلهن أكثر حرصاً على هذه الرعاية.
الحاصل أن الشرع أمر المجتمع المسلم أن يعوض الطفل الذي فقد أباه أو فقد أمه عن دور الأب ودور الأم، بحيث يخرج جميع أبناء المسلمين وقد نالوا حظهم من تأديب الأب وحزمه، ومن حنان الأم وشفقتها، هذا بالإضافة إلى النفقة المادية.
وقد يضطر أحد الأبوين إلى أن يعوض غياب الآخر، وهذا غالباً يكون أيسر على الأب منه على الأم؛ ولذلك اعتبر اليتيم هو من فقد أباه، حيث يمكنه إن لم تتقدم للحضانة إحدى قريبات الأم أن يتزوج من ترعى له أطفاله، أو يستأجر له مرضعة أو مربية، ولقد بلغ من إدراك جابر -رضي الله عنه- لهذه الجزئية تجاه أخواته أنه أقدم على الزواج من امرأة ثيب كبيرة؛ لترعى له أخواته وتصلح شأنهن معرضاً عما هو المناسب لشاب مثله أن يتزوج بكراً يلاعبها وتلاعبه كما أشار عليه -صلى الله عليه وسلم-(1).
وقد وعى المجتمع المسلم هذه الجوانب العظيمة في التشريع الإسلامي حتى وصل إلى قمته عدد من الأيتام الذين لم يحرمهم اليتم فرصتهم في اكتشاف المجتمع لمواهبهم وقدراتهم.
من أبرزهم في جيل الصحابة: أنس بن مالك -رضي الله عنه-، ومن أبرزهم في الأجيال التي بعد ذلك الإمام الشافعي -رحمه الله- الذي ربته أمه ثم أعمامه، حتى انتهى به المقام إلى إمام دار الهجرة مالك بن أنس -رحمه الله- فكفله كما ينبغي أن تكون الكفالة، حتى ورثه في إمامة الفقه من بعده.
وأما في زماننا فضيع الأيتام -في الأعم الأغلب إلا ما شاء الله- حتى فقدت الأمة ثروة عظيمة كان يمكن أن تكون زخراً لها، والأدهى من ذلك أن الأمهات خرجن من البيوت تاركات الأطفال إلى سموم جهاز التلفاز، وإن كانت هذه السموم قد عدت بلسما بجوار السموم التي أتت بعدها من الفضائيات والإنترنت.
وأما الآباء فلا يكادون يعلمون من معنى الأبوة إلا السعي على لقمة العيش، ورغم هذا كله لم يتركنا الأعداء وشأننا، بل يريدون أن ينزعوا ولاية الآباء والأمهات عن أبنائهم تماما لتنهار البقية الباقية من التربية التي يتلقاها أبناء المسلمين في بيوتهم.
فهل ندرك حجم الخطر المحيط بنا، أم نرضى بأن نيتم أطفالنا في حياتنا؟؟!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة فلما قفلنا كنا قريبا من المدينة قلت يا رسول الله إني حديث عهد بعرس قال تزوجت قلت نعم قال أبكر أم ثيب قلت بل ثيب قال فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك) متفق عليه.