كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
أثارت تصريحات د. عصام العريان حول إمكانية اعتراف الإخوان "أو حزب الإخوان" المزمع قيامه في حال وصوله للسلطة بدولة إسرائيل واتفاقيات كامب ديفيد، وكذلك حول صحة تولي كافر رئاسة الدولة إذا أوصلته صناديق الاقتراع، أثارت جدلاً واسعاً حول حقيقة موقف جماعة الإخوان من مثل هذه القضايا المصيرية للأمة، وإن جاءت محاولات التخفيف لآثار هذه التصريحات بأنها لا تعبر عن موقف الجماعة، ولكن عن موقف حزب الإخوان باهتة خافتة لا تؤثر شيئاً.
فإنا لا ندري كيف يعبر حزب الجماعة -لو أنشئ- عن مواقف تضاد ثوابت الجماعة ومواقفها التاريخية التي ضحى شهداؤها بالأمس بأرواحهم من أجلها في مشاركات بطولية حاولت منع قيام دولة إسرائيل ساعة قيامها، وظلت من أعظم أسباب انجذاب الشباب لهذه الجماعة.
وإن كان لنا من رؤية حول هذه التصريحات فهي لمحاولة الاستفادة لأنفسنا، والنصيحة لإخواننا من هذه التجربة العجيبة في المشاركة السياسية، وآثار الانزلاق في هذه اللعبة دون ثوابت في المرجعية وبصيرة في الموازين، فنرى:
أولاً:أن هذه التصريحات هي مثال بيِّنٌ لما حذرنا الله منه من مخالفة أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال -تعالى-: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور: من الآية63)، وكما قال الإمام أحمد: "لعله إذا ترك بعض أمره -صلى الله عليه وسلم- أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك".
فبدأ الأمر بالمخالفة للسنن الظاهرة كاللحية وتقصير الثوب، ثم بالسخرية ممن يلتزم بذلك، والاتهام له بضيق الأفق وضعف الفهم، حتى قلب الله قلوب أقوام فصاروا يقبلون اليوم بما كانوا يهتفون ضده بالأمس ويعتبرونه خيانة للأمة وعمالة لأعدائها وتضييعاً لقضاياها المصيرية، بمجرد أن وصلت أحلامهم إلى السلطة إذا بهم يقدمون التنازلات عن المبادئ الراسخة والثوابت المنهجية للأعداء بلا ثمن، إلا ما يتوهمونه من أن الغرب قد يعيد النظر في موقفه من جماعتهم ليسمح لها أو ليضغط على الحكومة لتسمح لها بالوجود في اللعبة السياسية .
ولا ندري ماذا يكون الحال لو وصلوا هم إلى السلطة وليست فقط أحلامهم؟!
ثانياً:نرى في مثل هذه التغييرات في الموقف كيف يَحُول الله بين المرء وقلبه، فيتخبط بين الحق والباطل، وينطفئ نور البصيرة حتى ينعدم التمييز بين ما يصلح أن يقال أو يعرض، وبين ما يكون في قوله أو عرضه تعريض لإيمان الإنسان للخطر، وزلزلة لهويته وولائه وانتمائه.
فلا ترى بعد ذلك عجباً في أناس آخرين كانوا في شبابهم جنوداً في جماعات تعمل من أجل الإسلام، بل وأقسموا وبايعوا على ذلك، فلما وصلوا إلى ما رغبوا فيه من السلطان والجاه والمُلك صاروا سيوفاً مصلتةً على أمتهم ورفقاء طريقهم، بل صاروا أداة طيعة في أيدي أعداء دينهم وملتهم، وبلاءً على شعوبهم أذاقوهم سوء العذاب في سبيل تنفيذ مخططات الأعداء طالما بقوا في كراسيهم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال:24-25)
ثالثاً:نقول إن حاجة الداعية إلى أرضية راسخة من العلم والصلة بالله -تعالى- والذكر والعبادة من ضروريات دعوته التي لا يجوز له أن يؤخرها في سلم أولوياته، لأن بصيرته في المواقف المصيرية تتأثر تأثراً هائلاً بعلمه وعمله وعبادته وذكره، وخطؤه في مثل هذه المواقف ليس خطأً فردياً، بل هو خطر عظيم لطوائف عظيمة من أمته، ربما أضلهم وهو لا يشعر، بل يظن أنه يحسن صنعاً ويخدم الدين.
فالعمل الدعوي مستهلك بطبيعته لوقت الإنسان وطاقته حتى ربما لا يجد وقتاً لنفسه، فيجور عليها وعلى حاله وقلبه، فكيف بمن يشارك في لعبة سياسية مليئة بالقاذورات والمداهنات وأنواع النفاق والمصالح "الميكيافيللية" -إن صح التعبير-.
ولذا نرى حكمة المقولة المنسوبة للشيخ الألباني -رحمه الله-: "من السياسة ترك الانشغال بالسياسة"، يعني بأوضاعها المعروفة وموازينها المختلة وجذبها لمن ينزلق فيها في بحار الفتن، نعوذ بالله منها ما ظهر منها وما بطن.
فلابد أن لا ننسى أنفسنا في عملنا الدعوي أو غيره من الأعمال الدنيوية، وما أعظم مقولة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-: "إن قوماً جعلوا آجالهم لغيرهم فنهاكم الله أن تكونوا أمثالهم فقال: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر:19).
رابعاً:مواقف أهل الحق نابعة دائماً من مرجعية لا تقبل التبديل ولا التحويل من الكتاب والسنة والإجماع، والميزان الذي أنزله الله كما أنزل الكتاب (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌِ) (الحديد: الآية25) حتى لو غاب الحديد عنهم في فترة من الفترات لم تغب عنهم البينات الواضحة من الكتاب والميزان والسنة الثابتة من الكتاب والذكر والمنزل المحفوظ، فهذه الثوابت لا يقبل أهل الحق عنها تنازلاً ولا مساومة ولا مداهنة في طرح غيرها مهما كان حالهم قوة أو ضعفاً، تمكيناً أو استضعافاً، ومهما قبـِلَ هذه الثوابت أو رفضها أهل الأرض جميعاً أو متفرقين، ومهما خالفتها قوانين دولية أو دساتير أرضية أو مصالح قومية أو اتفاقات قانونية، فلا يقبل إلا ما قبله الشرع، وما رده فهو مردود على قائله كائناً من كان.
خامساً:من هذا المنطلق نقرر أن رفض أهل الإسلام لاتفاقاتٍ مع أعداء الإسلام المغتصبين لبلاد المسلمين، والتي تقرر حقهم في أرض المسلمين وأن يعلو عليها كلمة الكفر إلى الأبد، وأن ينشأ أبناء الإسلام على أن وجودهم بهذه الصورة هو وجود حق وعدل ووعد تاريخي، وليس وجود بغي وظلم إن عجزنا عن إزالته اليوم لم نفقد عزيمتنا ولا عزيمة أبنائنا وأحفادنا عن إزالته غداً.
هذا الرفض نابع من نصوص قرآنية قاطعة تحدد علاقة المسلمين بغيرهم وتبين نظرتهم للأرض كلها خاصة أرض الإسلام وخاصة الأرض المقدسة قال -تعالى-: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (لأنفال:39-40)
وقال -تعالى-: (إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (لأعراف: من الآية128)
وقال -تعالى- (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء:105)
وقال -تعالى-: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55).
كما هو مبني على نصوص نبوية ثابتة متلقاة بالقبول من الأمة:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها)
وقال: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم)
وقال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتل المسلمون اليهود حتى يقول الحجر والشجر يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فاقتله)
كل هذه النصوص وغيرها تنص على أن لا حق للكفار في جزء من أرض الله يـُعلون عليها أحكام الكفر، وترك قتالهم مدة من الزمن محددة أو غير محددة لمصلحة المسلمين لا تعني حقهم في إقرار باطلهم، والخلط بين عهود الهدنة غير محددة المدة التي أجازها طوائف من أهل العلم وبين العهود المؤبدة التي تنص على حق تاريخي للكفار في أرض المسلمين التي هي أرض الله -تعالى- خلط غير سائغ ولا مقبول.
وأما ولاية الكافر على المسلم فقد قال -تعالى-: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (النساء: من الآية141)
قال ابن المنذر: "أجمع العلماء على أنه لا ولاية للكافر على المسلم بحال".
وقال القاضي عياض: "أجمع العلماء على أن الولاية لا تنعقد للكافر، وعلى أنه إذا طرأ عليه الكفر انعزل"
هذه ثوابتنا ومرجعيتنا وأدلتنا يقبلها كل مسلم، ويردها الكفرة والمنافقون والجاهلون، وحسبنا الله ونعم الوكيل.