مذهب دار الإفتاء المصرية في رؤية الهلال بين الاجتهاد السائغ وغير السائغ

الناقل : elmasry | الكاتب الأصلى : ياسر برهامي | المصدر : www.salafvoice.com

مذهب دار الإفتاء المصرية في رؤية الهلال

بين الاجتهاد السائغ وغير السائغ

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

فلا تزال مشكلة رؤية هلال رمضان وهلال شوال واختلاف البلاد الإسلامية في بداية الصوم والفطر تتكرر كل عام، ولا يزال هناك نوع من الفتنة بسبب اختلاف الفتوى بين العلماء والدعاة في هذه المسألة الشائكة خصوصاً مع عدم إمكان الاحتياط في هذا الباب؛ حيث ثبت نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن صوم يوم الشك، والظاهر تحريمه، وثبت النهي عن صوم يوم العيد، وأجمعت الأمة على تحريمه وبطلانه.

وأجمع المسلمون على أن فطر يوم من رمضان من غير عذر من أعظم الكبائر، فاحتاج الأمر إلى الترجيح، ولابد من النظر كذلك في درجة الخلاف في المسألة حتى تتبين مشروعية الإنكار من عدمه، أو لزوم مخالفة أهل البلد إذا كانوا يعملون بقول غير سائغ.

ولقد ثبت في صحيح مسلم حديث كريب: (أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل علي رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس ثم ذكر الهلال فقال متى رأيتم الهلال فقلت رأيناه ليلة الجمعة فقال أنت رأيته فقلت نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية فقال لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه فقلت أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه فقال لا هكذا أمرنا رسول الله).

وهذا الحديث صريح في أن لأهل كل بلد رؤيتهم، وأن هذا عمل الصحابة -رضي الله عنهم- بلا خلاف معلوم بينهم؛ فإنه لم ينقل عن أحد منهم خلاف قول ابن عباس -رضي الله عنهما- لو ثبت أنه موقوف عليه مع كونه -على الظاهر- مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم ينكر أحد من الصحابة على ابن عباس -رضي الله عنهما- قوله ومخالفته لمعاوية -رضي الله عنه- وعدم الاعتداد برؤية أهل الشام، وهذا هو فهم الصحابة والسلف كما نقله الترمذي عن أهل العلم دون تخصيص أو تقييد لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) متفق عليه، ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: (الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون) رواه الترمذي، وصححه الألباني، وفي رواية: (الصوم يوم يصوم الناس والفطر يوم يفطر الناس).

فالخطاب عند الصحابة موجه لأهل كل محلة عملـُهم واحد بقول حاكمٍ أو قاضٍ أو مفتٍ أو عالم؛ فطالما كان عملهم واحداً فيلزم العمل بعمل أهل المحلة، ولم يفهموا -أي: الصحابة رضي الله عنهم- منه أنه موجه للأمة بأسرها أو أن ألفاظ: (الناس) أو (يوم تفطرون) أو (يوم تصومون) مقصود بها المسلمون في أرجاء الأرض المختلفة، وقد نقل ابن عبد البر -رحمه الله- الإجماع على أن ما تباعد من الأقطار كالأندلس وخراسان لا تلزمهم رؤية بعضهم، فدل ذلك على إجماع العلماء على أن الخطاب في الحديث، ولفظ: (الناس) في الحديث الآخر ليس على عمومه لجميع المسلمين في العالم.

ومع أن هذا هو الذي نرجحه في هذه المسألة؛ إلا أن الخلاف فيها ما يزال سائغا عند عامة أهل العلم، وإن كان عامتهم من السلف والخلف لا يرون للمخالف أن يخالف أهل بلده؛ لأن المسألة عندهم من النوع الذي يـَرفعُ فيه حكمُ الحاكم الخلافَ في حق المعينين، وإن خالف أحد فلا يرون له إظهار خلافه لأهل بلده، فلا يظهر الفطر في آخر أيام رمضان، ولا يجمع الناس على صلاة القيام، أو يأمرهم بالصيام، أو يصرح بأن من أفطر لعدم ثبوت الرؤية في بلده وإن ثبت في بلدٍ آخر هو مفطر ليوم من رمضان، وكذا لا يجوز جمع الناس على صلاة العيد تبعا لبلد غير بلده -الذي يصوم الناس فيه هذا اليوم على أنه من رمضان-، وهذا الذي لابد أن يـُنبه له الإخوة في جميع البلاد.

يبقى أمر آخر وهو مشروعية العمل بالحساب؛ وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا يعني مرة ثلاثين ومرة تسعة وعشرين) متفق عليه.

وقال -صلى الله عليه وسلم-: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) رواه البخاري.

ونـُقل الاتفاق على عدم مشروعية العمل بالحساب عن السلف -رضوان الله عليهم- ونحب أن نبين أولا أن للمسألة شقين كثيرا ما يقع الخلط بينهما:

1- الشق الأول: وهو العمل بالحساب في إثبات دخول الشهر ولو لم ير الهلال، وهذا القول مخالف لصريح الحديث في وجوب العمل بالرؤية، وهذا هو الذي عُدَّ فيه المخالف شاذا، وإن كان يوجد من عهد التابعين من يقول بهذه المسألة؛ إلا أنه لا يعتد بخلافه عند عامة أهل العلم ولا يكون اختلافا سائغا.

2- الشق الثاني: وهو عدم قبول شهادة الشهود المثبتين للرؤية إذا خالفوا الحساب، والبعض يظن أن هذا تقديم للعمل بالحساب على الرؤية مطلقا فيدخله في النوع الأول الذي يكون الخلاف فيه غير سائغ، والصحيح أن هذه المسألة لها حالان:

الحال الأول: أن يكون الحساب ظنيا لقلة عدد من يحسب، ولأن مقدماته ظنية ولوقوع الاختلاف بين الحساب في زاوية الرؤية ومقدار مكث الهلال بعد الغروب حتى تمكن رؤيته ونحو ذلك؛ فهذه الحالة ملحقة بالنوع الأول الذي لا يسوغ فيه تقديم العمل بالحساب على شهادة الشهود، وإن كان يستفاد من الحساب لزوم التأكد من الشهادة وعدالة الشهود وضبطهم ونحو ذلك.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:

"وأما الفريق الثاني فقوم من فقهاء البصريين ذهبوا إلى أن قوله: (فاقدروا له) تقدير حساب بمنازل القمر.

وقد روي عن محمد بن سيرين -رحمه الله- قال: خرجت في اليوم الذي شك فيه فلم أدخل على أحد يؤخذ عنه العلم إلا وجدته يأكل إلا رجلا كان يحسب ويأخذ بالحساب ولو لم يعلمه كان خيرا له. وقد قيل: إن الرجل مطرف بن عبد الله بن الشخير وهو رجل جليل القدر إلا أن هذا إن صح عنه فهي من زلات العلماء. وقد حكي هذا القول عن أبي العباس بن سريج أيضا.

وحكاه بعض المالكية عن الشافعي أن من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر ولم يتبين له من جهة النجوم أن الهلال الليلة وغم عليه جاز له أن يعتقد الصيام ويبيته ويجزئه. وهذا باطل عن الشافعي لا أصل له عنه، بل المحفوظ عنه خلاف ذلك كمذهب الجماعة، وإنما كان قد حكى ابن سريج وهو كان من أكابر أصحاب الشافعي نسبة ذلك إليه إذ كان هو القائم بنصر مذهبه.

واحتجاج هؤلاء بحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- في غاية الفساد، مع أن ابن عمر هو الراوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب( فكيف يكون موجب حديثه العمل بالحساب؟ وهؤلاء يحسبون مسيره في ذلك الشهر ولياليه. وليس لأحد منهم طريقة منضبطة أصلا، بل أية طريقة سلكوها فإن الخطأ واقع فيها أيضا، فإن الله -سبحانه- لم يجعل لمطلع الهلال حسابا مستقيما، بل لا يمكن أن يكون إلى رؤيته طريق مطرد إلا الرؤية، وقد سلكوا طرقا كما سلك الأولون منهم من لم يضبطوا سيره إلا بالتعديل الذي يتفق الحساب على أنه غير مطرد.

وإنما هو تقريب مثل أن يقال: إن رئي صبيحة ثمان وعشرين فهو تام وإن لم ير صبيحة ثمان فهو ناقص. وهذا بناء على أن الاستسرار لليلتين وليس بصحيح، بل قد يستسر ليلة تارة وثلاث ليال أخرى. وهذا الذي قالوه إنما هو بناء على أنه كل ليلة لا يمكث في المنزلة إلا ستة أسباع ساعة لا أقل ولا أكثر، فيغيب ليلة السابع نصف الليل ويطلع ليلة أربعة عشر من أول الليل إلى طلوع الشمس، وليلة الحادي والعشرين يطلع من نصف الليل، وليلة الثامن والعشرين إن استسر فيها نقص وإلا كمل وهذا غالب سيره وإلا فقد يسرع ويبطئ.

وأما العقل: فاعلم أن المحققين من أهل الحساب كلهم متفقون على أنه لا يمكن ضبط الرؤية بحساب بحيث يحكم بأنه يـُرى لا محالة، أو لا يُرى البتة على وجه مطرد، وإنما قد يتفق ذلك أو لا يمكن بعض الأوقات، ولهذا كان المعتنون بهذا الفن من الأمم: الروم والهند والفرس والعرب وغيرهم مثل: بطليموس الذي هو مقدم هؤلاء، ومن بعدهم قبل الإسلام وبعده لم ينسبوا إليه في الرؤية حرفا واحدا، ولا حدوه كما حدوا اجتماع القرصين، وإنما تكلم به قوم منهم في أبناء الإسلام: مثل كوشيار الديلمي، وعليه وعلى مثله يعتمد من تكلم في الرؤية منهم.

وقد أنكر ذلك عليه حذاقهم مثل: أبي علي المروذي القطان وغيره، وقالوا: إنه تشوق بذلك عند المسلمين؛ وإلا فهذا لا يمكن ضبطه".

الحال الثاني: أن يكون الحساب قطعيا أو قريبا من القطعي مثل: لحظة ميلاد الهلال، وهي حالة ينكرها الكثيرون ممن لا يعلمون إمكانية ذلك، مع كونهم يشاهدون عيانا ما يخبر به الحساب من توقيت الشروق والغروب للشمس والقمر، وباقي أوقات الصلوات، وكذا الكسوف والخسوف بالدقيقة والثانية، مما أصبح مشاهدا متكررا لا ينكره إلا مكابر.

ويظن البعض أن الشرع حرم الحساب مع أن الحديث لا يدل على ذلك بوجه من الوجوه، بل تعلم الحساب والنظر فيه جائز، وقد سماه الله في كتابه علما، وامتن به على عباده، فقال: (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ)(الإسراء:112)، فمنه ما يكون علما ومنه ما يكون ظنا، وكما لم يدل الحديث على تحريم الكتابة والانتفاع بها فلا يدل على تحريم الحساب والانتفاع به، ولكن يدل على عدم حاجة الأمة في عبادتها له، بل يمكن لأي أحد من الأمة في أي مكان أن يؤدي عبادته كاملة دون حاجة إلى الحساب، وبعض الناس يظن من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- إنكار هذا النوع القطعي من الحساب مع أن كلامه يدل على إثباته حيث يقول:

"ومن معرفة الحساب الاستسرار والإبدار الذي هو الاجتماع والاستقبال، فالناس يعبرون عن ذلك بالأمر الظاهر من الاستسرار الهلالي في آخر الشهر، وظهوره في أوله، وكمال نوره في وسطه، والحُسَّاب يعبرون بالأمر الخفي من اجتماع القرصين الذي هو وقت الاستسرار ومن استقبال الشمس والقمر الذي هو وقت الإبدار فإن هذا يضبط بالحساب.

وأما الإهلال فلا له عندهم من جهة الحساب ضبط؛ لأنه لا يضبط بحساب يعرف كما يـُعرف وقت الكسوف والخسوف؛ فإن الشمس لا تكسف في سنة الله التي جعل لها إلا عند الاستسرار إذا وقع القمر بينها وبين أبصار الناس على محاذاة مضبوطة، وكذلك القمر لا يخسف إلا في ليالي الإبدار على محاذاة مضبوطة لتحول الأرض بينه وبين الشمس فمعرفة الكسوف والخسوف لمن صح حسابه مثل معرفة كل أحد أن ليلة الحادي والثلاثين من الشهر لابد أن يطلع الهلال، وإنما يقع الشك ليلة الثلاثين. فنقول الحاسب غاية ما يمكنه إذا صح حسابه أن يعرف مثلا أن القرصين اجتمعا في الساعة الفلانية، وأنه عند غروب الشمس يكون قد فارقها القمر إما بعشر درجات مثلا أو أقل أو أكثر، والدرجة هي جزء من ثلاثمائة وستين جزءا من الفلك. فإنهم قسموه اثني عشر قسما سموها "الداخل" كل برج اثنا عشر درجة وهذا غاية معرفته وهي بتحديد كم بينهما من البعد في وقت معين في مكان معين. هذا الذي يضبطه بالحساب، أما كونه يـُرى أو لا يـُرى فهذا أمر حسي طبيعي ليس هو أمرا حسابيا رياضيا، وإنما غايته أن يقول :استقرأنا أنه إذا كان على كذا وكذا درجة يـُرى قطعا أو لا يـُرى قطعا. فهذا جهل وغلط؛ فإن هذا لا يجري على قانون واحد لا يزيد ولا ينقص في النفي والإثبات، بل إذا كان بعده مثلا عشرين درجة فهذا يـُرى ما لم يحل حائل، وإذا كان على درجة واحدة فهذا لا يـُرى.

وأما ما حول العشرة فالأمر فيه يختلف باختلاف أسباب الرؤية من وجوه:

أحدها: أنها تختلف؛ وذلك لأن الرؤية تختلف لحدة البصر وكلاله، فمع دقته يراه البصر الحديد دون الكليل، ومع توسطه يراه غالب الناس. وليست أبصار الناس محصورة بين حاصرين. ولا يمكن أن يقال يراه غالب الناس ولا يراه غالبهم؛ لأنه لو رآه اثنان علق الشارع الحكم بهما بالإجماع، وإن كان الجمهور لم يروه. فإذا قال لا يـُرى بناءً على ذلك كان مخطئا في حكم الشرع، وإن قال يـُرى بمعنى أنه يراه البصر الحديد. فقد لا يتفق فيمن يتراءى له من يكون بصره حديدا فلا يلتفت إلى إمكان رؤية من ليس بحاضر.

السبب الثاني: أن يختلف بكثرة المترائين وقلتهم، فإنهم إذا كثروا كان أقرب أن يكون فيهم من يراه لحدة بصره وخبرته بموضع طلوعه والتحديق نحو مطلعه، وإذا قلوا فقد لا يتفق ذلك فإذا ظن أنه يـُرى قد يكونون قليلا فلا يمكن أن يروه، وإذا قال: لا يـُرى فقد يكون المتراءون كثيرا، فيهم من فيه قوة على إدراك ما لم يدركه غيره.

السبب الثالث: أنه يختلف باختلاف مكان الترائي، فإن من كان أعلى مكانا في منارة أو سطح عال أو على رأس جبل ليس بمنزلة من يكون على القاع الصفصف أو في بطن واد. كذلك قد يكون أمام أحد المترائين بناء أو جبل أو نحو ذلك يمكن معه أن يراه غالبا وإن منعه أحيانا، وقد يكون لا شيء أمامه.

فإذا قيل: يـُرى مطلقا لم يره المنخفض ونحوه، وإذا قيل لا يـُرى فقد يراه المرتفع ونحوه، والرؤية تختلف بهذا اختلافا ظاهرا.

السبب الرابع: أنه يختلف باختلاف وقت الترائي، وذلك أن عادة الحُسَّاب أنهم يخبرون ببعده وقت غروب الشمس وفي تلك الساعة يكون قريبا من الشمس فيكون نوره قليلا وتكون حمرة شعاع الشمس مانعا له بعض المنع فكلما انخفض إلى الأفق بعد عن الشمس فيقوى شرط الرؤية ويبقى مانعها فيكثر نوره ويبعد عن شعاع الشمس، فإذا ظن أنه لا يـُرى وقت الغروب أو عقبه فإنه يـُرى بعد ذلك، ولو عند هويه في المغرب.

وإن قال: إنه يضبط حاله من حين وجوب الشمس إلى حين وجوبه فإنما يمكنه أن يضبط عدد تلك الدرجات؛ لأنه يبقى مرتفعا بقدر ما بينهما من البعد، أما مقدار ما يحصل فيه من الضوء وما يزول من الشعاع المانع له فإن بذلك تحصل الرؤية بضبطه على وجه واحد يصح مع الرؤية دائما أو يمتنع دائما، فهذا لا يقدر عليه أبدا، وليس هو في نفسه شيئا منضبطا خصوصا إذا كانت الشمس.

السبب الخامس: صفاء الجو وكدره. لست أعني إذا كان هناك حائل يمنع الرؤية كالغيم والقتر الهائج من الأدخنة والأبخرة، وإنما إذا كان الجو بحيث يمكن فيه رؤيته أمكن من بعض إذا كان الجو صافيا من كل كدر في مثل ما يكون في الشتاء عقب الأمطار في البرية الذي ليس فيه بخار بخلاف ما إذا كان في الجو بخار بحيث لا يمكن فيه رؤيته كنحو ما يحصل في الصيف بسبب الأبخرة والأدخنة؛ فإنه لا يمكن رؤيته في مثل ذلك كما يمكن في مثل صفاء الجو.

وأما صحة مقابلته ومعرفة مطلعه ونحو ذلك: فهذا من الأمور التي يمكن المترائي أن يتعلمها، أو يتحراه؛ فقد يقال: هو شرط الرؤية كالتحديق نحو المغرب خلف الشمس فلم نذكره في أسباب اختلاف الرؤية. وإنما ذكرنا ما ليس في مقدور المترائين الإحاطة من صفة الأبصار، وأعدادها، ومكان الترائي، وزمانه، وصفاء الجو، وكدره.

فإذا كانت الرؤية حكما تشترك فيه هذه الأسباب التي ليس شيء منها داخلا في حساب الحاسب فكيف يمكنه مع ذلك يخبر خبرا عاما أنه لا يمكن أن يراه أحد حيث رآه على سبع أو ثمان درجات أو تسع أم كيف يمكنه يخبر خبرا جزما أنه يرى إذا كان على تسعة أو عشرة مثلا؟!

ولهذا تجدهم مختلفين في قوس الرؤية: كم ارتفاعه. منهم من يقول تسعة ونصف، ومنهم من يقول.. ويحتاجون أن يفرقوا بين الصيف والشتاء، إذا كانت الشمس في البروج الشمالية مرتفعة أو في البروج الجنوبية منخفضة. فتبين بهذا البيان أن خبرهم بالرؤية من جنس خبرهم بالأحكام وأضعف، وذلك أنه هب أنه قد ثبت أن الحركات العلوية سبب الحوادث الأرضية. فإن هذا القدر لا يمكن المسلم أن يجزم بنفيه إذ الله -سبحانه- جعل بعض المخلوقات أعيانها وصفاتها وحركاتها سببا لبعض، وليس في هذا ما يحيله شرع ولا عقل، لكن المسلمون قسمان:

منهم من يقول: هذا لا دليل على ثبوته فلا يجوز القول به؛ فإنه قول بلا علم.

وآخر يقول: بل هو ثابت في الجملة؛ لأنه قد عرف بعضه بالتجربة، ولأن الشريعة دلت على ذلك بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته لكنهما آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده) متفق عليه، والتخويف إنما يكون بوجود سبب الخوف فعلم أن كسوفهما قد يكون سببا لأمر مخوف، وقوله: (لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته) رد لما توهمه بعض الناس، فإن الشمس خسفت يوم موت إبراهيم فاعتقد بعض الناس أنها خسفت من أجل موته تعظيما لموته، وأن موته سبب خسوفها، فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لا ينخسف لأجل أنه مات أحد، ولا لأجل أنه حيي أحد".أهـ.

وقد أثبته غيره من العلماء كابن حجر -رحمه الله- حيث اشترط له ثلاثة شروط:

1- أن يبلغ عدد الحُسَّاب مبلغ التواتر.

2- وألا يختلفوا.

3- وأن تكون مقدماتهم قطعية.

فعند ذلك لا يكون العمل بالحساب في رد شهادة الشهود من باب إعمال ما ألغاه الشارع واتفق عامة السلف على بطلانه، بل هو من باب رد شهادة الشهود إذا خالفوا الحس أو المقطوع به، وهذه مسألة أخرى غير مسألة العمل بالحساب دون الرؤية، بل هي متعلقة بعدالة الشهود أو ضبطهم، ولها نظائرها في مسائل عدة في الفقه في هذا الباب وغيره.

- ففي الفقه على المذاهب الأربعة:

"يثبت دخول شوال بإخبار عدلين برؤية هلاله سواء كانت السماء صحوا أو لا، ولا تكفي رؤية العدل الواحد في ثبوت هلاله، ولا يلزم في شهادة الشاهد أن يقول أشهد. فإن لم ير هلال شوال وجب إكمال رمضان ثلاثين، فإذا تم رمضان ثلاثين يوما ولم يرى هلال شوال فإما أن تكون السماء صحوا أو لا، فإن كانت صحوا فلا يحل الفطر في صبيحة تلك الليلة، بل يجب الصوم في اليوم التالي ويكذب شهود هلال رمضان، وإن كانت غير صحو وجب الإفطار في صبيحتها واعتبر ذلك اليوم من شوال.

قال الشافعية: إذا صام الناس بشهادة عدل وتم رمضان ثلاثين يوما، وجب عليهم الإفطار على الأصح سواء كانت السماء صحوا أو لا.

وقال الحنابلة: إن كان صيام رمضان بشهادة عدلين وأتموا عدة رمضان ثلاثين يوما ولم يروا الهلال ليلة الواحد والثلاثين وجب عليهم الفطر مطلقا. أما إن كان صيام رمضان بشهادة عدل واحد أو بناء على تقدير شعبان تسعة وعشرين يوما بسبب غيم ونحوه فإنه يجب عليهم صيام الحادي والثلاثين".أهـ.

- وقال النووي في "روضة الطالبين":

"إذا صمنا بقول واحد تفريعا على الأظهر ولم نر الهلال بعد ثلاثين، فهل نفطر؟ فيه وجهان أصحهما عند الجمهور نفطر، وهو نصه في "الأم" ثم الوجهان جاريان، سواء كانت السماء مصحية أو مغيمة. هذا مقتضى كلام الجمهور، وقال صاحب "العدة" وحكاه صاحب "التهذيب" الوجهان إذا كانت السماء مصحية، فإن كانت مغيمة أفطرنا قطعا.

ولو صمنا بقول عدلين ولم نر الهلال بعد ثلاثين، فإن كانت مغيمة أفطرنا قطعا، وإن كانت مصحية أفطرنا أيضا على المذهب الذي قطع به الجماهير، ونص عليه في "الأم" وحرملة، وقال ابن الحداد: لا نفطر، ونقل عن ابن سريج أيضا.

وفرَّع بعضهم على قول ابن الحداد فقال: لو شهد اثنان على هلال شوال ولم نر الهلال والسماء مصحية بعد ثلاثين قضينا أول يوم أفطرناه؛ لأنه بان كونه من رمضان، لكن لا كفارة على من جامع فيه؛ لأن الكفارة تسقط بالشبهة وعلى المذهب لا قضاء".

- وقال ابن قدامة -رحمه الله-:

"وإن شهد أربعة بالزنى بامرأة، فشهد ثقات من النساء أنها عذراء، فلا حد عليها ولا على الشهود، نص عليه، وبهذا قال الشعبي والثوري وأبو ثور وأصحاب الرأي. وقال مالك عليها الحد، لأن شهادة النساء لا مدخل لها في الحدود، فلا يسقط بشهادتهن، ولنا أن البكارة تثبت بشهادة النساء ووجودها يمنع من الزنى ظاهرا؛ لأن الزنى لا يحصل بدون إيلاج في الفرج ولا يتصور ذلك مع بقاء البكارة، لأن البكر هي التي لم تـُوطأ في قـُبُلِها وإذا انتفى الزنى لم يجب الحد، كما لو قامت البينة بأن المشهود عليه بالزنى مجهول.

وإنما لم يجب الحد على الشهود لكمال عدتهم مع احتمال صدقهم، فإنه يحتمل أن يكون وطأها ثم عادت عذرتها فيكون ذلك شبهة في درء الحد عنهم، غير موجب له عليها، فإن الحد لا يجب بالشبهات ويكتفى بشهادة امرأة واحدة؛ لأن شهادتها مقبولة فيما لا يطلع عليه الرجال، فأما إن شهدنا بأنها رتقاء أو ثبت أن الرجل المشهود عليه مجبوب فينبغي أن يجب الحد على الشهود لأنه يتيقن كذبهم في شهادتهم بأمر لا يعلمه كثير من الناس فوجب عليه الحد". أهـ.

فهذه النقول تثبت أن مسألة رد شهادة الشهود لوجود دليل أو قرائن تقدح في شهادتهم عند القاضي مسألة معمول بها عند أهل العلم الذين يمنعون من العمل بالحساب، وبهذا تعلم أن هذه المسألة على الأقل من مسائل الخلاف السائغ، بل الراجح -إن شاء الله- أن شهادة الشهود المخالفة للحس، ولكل ما هو أقوى منها مردودة؛ إما لعدم عدالة الشهود أو لعدم ضبطهم، وطالما أخذ المفتي أو القاضي أو الحاكم أو الهيئة التي أنيطت بها مسألة إثبات الرؤية من عدمها بمذهب سائغ الاتباع واتبعهم أهل المحلة على مذهبهم فيلزم الجميع العمل بذلك، وإلا خالفوا قول رسول -صلى الله عليه وسلم-: (الصوم يوم يصوم الناس والفطر يوم يفطر الناس)، وعلى أقل الأحوال فمن خالفهم لا يجوز له الجهر بالمخالفة بزعم أنه ينكر بدعة العمل بالحساب ويظهر سنة العمل بالرؤية.

يبقى أن نبين أن مذهب دار الإفتاء المصرية في مسألة العمل بالرؤية أنها لا تعتمد على الحساب في إثبات الشهر دون رؤيته، بل تخرج اللجان المختلفة لرؤية الهلال في مواضع مختلفة من القطر المصري، ولكنها لا تعتد برؤية تخالف الحساب المقطوع به عندها، ثم مذهبها في مسألة اختلاف المطالع أنها ترى أنه إذا ثبتت الرؤية في بلد يلزم جميع البلاد التي تشترك معها في جزء من الليل، لكنها تشترط نفس الشرط وهو عدم مخالفة الحساب المقطوع به، وإلا لزم رد شهادة الشهود وعندها فلا تعتد برؤية الأقطار الأخرى ما لم تثبت رؤية يمكن أن تكون صحيحة حسب الحساب المقطوع به.

وأنا أذكر واقعة حصلت زمن الشيخ جاد الحق -رحمه الله-، في عام أثبتت فيه الحسابات وجود الهلال وإمكان رؤيته، ومع ذلك لم تثبت أي لجنة من اللجان ولا تقدم أحد من الشهود برؤية الهلال، وظل الشيخ رافضا لإعلان ثبوت الشهر بالحساب حتى أعلنت إحدى الدول المجاورة رؤية الهلال بعد العشاء بمدة، فأعلن الشيخ جاد الحق ثبوت رؤية الهلال برؤية البلد المجاور؛ لأنها رؤية لا تخالف الحساب، وإن كانت في بلد آخر.

وبهذا يظهر أن مذهب دار الإفتاء المصرية مذهب معتبر ليس مخالفا لإجماع السلف كما يظن البعض، وبالتالي لا يسع المسلمين في مصر أن يخالفوا ما تقرره من ثبوت الرؤية أو عدمها، وعلى الأقل من لم يطمئن إلى ذلك فليس له أن يظهر المخالفة، ولذا فنحن نحث إخواننا على أنه في حالة ثبوت رؤية هلال رمضان في بلد آخر ولم تثبت في مصر حتى ولو قال بعض البدو أو غيرهم أنه رأى الهلال ولم يؤخذ بقوله فلم يشتهر فلم يثبت الشهر، ولم يستهل بالرؤية -أي: يعلن بها-، فليس بهلال.

فلا يصح لمن أخذ بالقول الآخر أن يجمع الناس على صلاة التراويح، أو يصرح للناس بأنه صائم من رمضان، أو أن المفطر قد أفطر يوما من رمضان، بل في حق أهل مصر فإن الصائم هو صائم يوم الشك، أو يصوم تطوعا لصوم تعوده، وأما في  الفطر برؤية هلال شوال فالأمر أغلظ فلا يجوز الجهر بالفطر في آخر يوم من رمضان، ولا ينبغي ترك صلاة القيام وفض الاعتكاف كما يفعله كثير من الإخوة غلطا منهم، ومخالفة لكلام أهل العلم.

كما لا يجوز جمع الناس على صلاة العيد، ولا أمر الناس بالفطر؛ زعما أنه يوم العيد؛ لأنه في حقهم ليس بيوم عيد الفطر.

وأما الراجح عندنا فهو: لزوم الصوم واستحباب إقامة صلاة التراويح واستمرار الاعتكاف حتى يخرج من صبيحة ليلة الثلاثين من رمضان.

ومن أدرك رمضان في بلد فصام مع أهله ثم سافر إلى بلد آخر خالفهم في الرؤية فعليه أن يفطر مع أهل البلد الذي سافر إليه وأدرك فيه العيد، حتى لو لزم أن يصوم يوم الحادي والثلاثين بالنسبة له، وسبيله سبيل من صاموا برؤية عدلين أو عدل واحد ثم لم ير الهلال ليلة الحادي والثلاثين وكانت السماء صحوا فيكذب شهود أول الشهر عند الحنفية والمالكية، وعند الشافعية في الرؤية بعدل واحد، ويلزمهم صوم الحادي والثلاثين كما سبق نقله، ولا نقول الشهر في حقه واحد وثلاثون يوما، بل يُخطأ الشهود.

وأما من كان بالعكس حيث سافر إلى بلد أفطروا فيه مبكرا عن بلده، فإن كان صام تسعة وعشرين يوما فلا شيء عليه ومن كان صام ثمانية وعشرين يوما فعليه أن يفطر مع البلدة التي هو فيها، وعليه قضاء يوم؛ لأن الشهر لا يكون ثمانية وعشرين يوما.

ونسأل الله أن يبلغنا رمضان وأن يوفقنا فيه لما يحبه ويرضاه، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا من عتقائه من النار ومن المقبولين.