يوم في حياة منتقبة أم أبو بكر: ارتديت النقاب لأشعر بالأمان وأرفض الاندماج والملاحظات السلبية تجعلنا ننعزل في بريطانيا لندن: فاطمة العيساوي يأتي صوت ام ابو بكر خافتا وهي تلقي علي تحية تريدها ودودة في المقهي الصغير حيث التقينا في منطقة ساوثهول ذات الغالبية من ذوي الاصول الهندية والباكستانية في شمال غربي لندن. تنشغل هذه الشابة التي تغطي عباءتان منسدلتان قامتها الممشوقة والنحيلة، في الاعتذار عن تأخرها عن الموعد وأنا انشغل في تحري تعابير وجهها الذي لا تبدو منه سوى العينين، بحثا عن ابتسامة ما خلف النقاب الاسود. تقدم ام ابو بكر، طبيبة الاسنان البالغة من العمر 27 عاما، وهي ام لطفل في السنة الاولى من عمره، صورة لشابة باكستانية الاصول بريطانية المولد منسجمة تماما مع نفسها. تتحدث هذه الشابة بلهجة واثقة وهادئة ومن دون حاجة سؤال، عن الاسلام الذي تعرفت عليه «وبهرت به» وهي التي ولدت في احضان عائلة باكستانية لم تعلمها الكثير عن الاسلام وقصدت المدارس والجامعات البريطانية وعاشت الثقافة الغربية مثلها مثل بنات جيلها الانجليزيات.. الى ان اكتشفت الحجاب. تقول ام ابو بكر وهي الكنية التي تحب ان تطلق عليها «لم اكن متدينة في طفولتي فأهلي علموني بعض الاشياء عن الاسلام، وكنا دوما نرتدي لباسا محتشما فأنا واخواتي لم نرتد ابدا التنورة القصيرة او اللباس المكشوف، اهلي لم يكونوا متدينين لكنهم علمونا الحياء». ردود الفعل المتباينة التي اثارتها تصريحات جاك سترو رئيس مجلس العموم البريطاني حول النقاب سلطت الاوضاع على هذه الفئة الخاصة والتي لم تكن في الماضي تثير كبير اهتمام: هل يعني اختيار النساء ارتداء النقاب رغبة في اشهار اختلافهن ام في القطيعة عن المجتمع البريطاني ام انه بكل بساطة تعبير عن حريتهن الشخصية في اختيار ملبسهن؟ لا تتردد ام ابو بكر في شرح دوافعها من ارتداء النقاب. تقول «بالدرجة الاولى، ارتديت النقاب من اجل ايماني، من اجل الله، من اجل الاسلام». ولكنها تتابع «الدافع الشخصي لخياري ارتداء النقاب هو شعوري بالامان، فالناس عندما يتحدثون الي يهتمون فقط بالجانب المعنوي والعقلاني في شخصيتي، انهم يهتمون بفهمي وفهم آرائي وليس بتقييم مظهري الخارجي. لقد شعرت بالأمان عندما ارتديت الحجاب وتعزز لدي هذا الشعور عندما ارتديت العباءة ثم النقاب وهو شعور جميل جدا». وتتابع «لقد عشت في السابق الحياة الغربية بكل تفاصيلها، ارتديت الجينز ووضعت الماكياج وكنت اهتم بشكلي الى حد كبير ولكن عندما بدأت ارتدي الحجاب شعرت انني استطيع ان اعبر عن نفسي بشكل افضل وان الناس باتوا يقيمونني لما انا عليه، لمضمون شخصيتي وليس لمظهري الخارجي وهذا منحني ثقة كبيرة بالنفس». ولكن ماذا عن التواصل مع الآخرين؟ ماذا عن قبول الآخرين لمظهرها المختلف؟ الا يشكل اخفاء معالم الوجه عائقا في وجه امكانية التواصل الفعلي بين الاشخاص؟ تهز ام ابو بكر رأسها يمينا ويسارا وانا احاول ان اعرض عليها وجهة النظر المنتقدة لارتداء النساء للنقاب ومنها جمعيات نسوية ترى في النقاب حدا لحرية المرأة. وتسارع الى التعليق «ارتدائي النقاب لا يعني انني لا اريد التواصل مع غيري وخصوصا من هو مختلف عني، بالعكس، فانا ابذل جهدا مضاعفا في التواصل مع الناس كأن ابادر الى القاء التحية عليهم والحديث الى جيراني من غير المسلمين ومساعدة النسوة المتقدمات في العمر». تميز ام ابو بكر بين مفهومين للعلاقة مع المجتمع البريطاني: التواصل، وتقصد به اللقاء مع اناس مختلفين عنها والحديث اليهم واحترامهم بصرف النظر عن معتقداتهم. والاندماج، وهي ما تفهمه على انه التماثل مع الآخر. تقول ام ابو بكر «لم اتوقف يوما عن التواصل مع الناس كما انني متسامحة جدا مع من هو مختلف عني ولدي مثلا اصدقاء يضعون علامة الصليب او عمامة السيخ ولا مشكلة لدي بالتعامل معهم، المشكلة انهم يريدوننا ان نندمج أي ان نصبح مثلهم وهذا ما ارفضه تماما، انه خياري الشخصي». وكان استطلاع للرأي نشرته صحيفة «الغارديان» البريطانية اخيرا اشار الى ان غالبية البريطانيين يعتبرون ان على المسلمين ان يبذلوا جهودا اكبر للاندماج في المجتمع. تقول ام ابو بكر «نحن نعيش في دولة ديموقراطية، لقد نشأت في انجلترا حيث تعلمت الثقة بالنفس وحقي في التعبير عن نفسي وعن معتقداتي وحقي بان اكون مختلفة». ولكن في الشارع الرئيسي المكتظ بالمارة في حي ساوثهول المميز من لندن والذي تقطنه اغلبية آسيوية، لا يبدو ارتداء النقاب امرا مألوفا اذ لا يتجاوز عدد المنقبات في الشارع اصابع اليد الواحدة. وفي المقهى الصغير حيث جلسنا نتحادث، تتنقل النادلة الباكستانية الاصل بين الطاولات وهي متبرجة وترتدي الجينز الضيق في حين تصدح الموسيقى الباكستانية عاليا في المكان من دون ان ترضى النادلة ان تخفض الصوت رغم انزعاجنا الظاهر. تقول ام ابو بكر ان الجدل الحديث حول ارتداء النساء للنقاب في بريطانيا حولها الى سجينة في منطقتها. وتروي «قبل تعليقات سترو وبلير عن النقاب، لم يكن لدي مشكلة كمنقبة، كنت اتجول في لندن بشكل طبيعي ولم يكن احد حتى يلاحظ انني منقبة. ولكن الوضع بات مختلفا الان فأنا اشعر ان الناس باتوا ينظرون الي بشكل دوني واحيانا عدائي وكأنهم يخشونني». وتضيف «تفاجئني نظرات الناس الي وانا في السوبرماركت، فرغم انني لطيفة ومهذبة وابذل جهدا مضاعفا كأن اكرر تعابير مثل «عفوا» و«شكرا» «هل تسمحون لي». لكنهم ينظرون الي بطريقة غريبة فيها نوع من الاحتقار». لم يعد التنقل بين احياء لندن مهمة سهلة بالنسبة لام ابو بكر كما تروي فقد باتت تخشى ردود فعل راكبي وسائل النقل العامة حيال غطائها الاسود. تقول «اشعر انني مجبرة على البقاء في منزلي او الخروج في حدود منطقتي، لقد طلب مني زوجي ان اتنقل دوما برفقة صديقة اذا اردت ان استقل وسائل النقل العام لذلك افضل ان اقود سيارتي طالما ان هذا الخيار متوافر لي». وتتابع «يتهموننا بأننا تسببنا بخلق اجواء من الفصل الاجتماعي في بريطانيا لكنني اعتقد ان الجهل بعالمنا هو الذي سبب ذلك فالملاحظات السلبية التي نسمعها تخلق نوعا من الفصل والتقوقع وهذا ما يجعلنا نشعر بالتوتر حيال التواصل» مع الآخرين. وتعلق «يقولون انهم يريدوننا ان نندمج لكن الحقيقة ان تصريحاتهم ادت الى ردة فعل عكسية، لو انهم فهموا لماذا نرتدي النقاب لكانوا احترمونا فانا اكثر من مجرد امرأة تضع نقاب». من الصعب اقناع ام ابو بكر بما يخالف وجهة نظرها فهي جاهزة للرد على كل التساؤلات وجاهزة للدفاع عن مواقفها التي تراها جزءا من «الدعوة» الموكلة بها بفعل الانتماء الى الاسلام، كما تقول. تشرح ام ابو بكر «انا اؤمن بالدعوة، انها جزء من حياتي، انها احدى المهام التي كلفني بها ديني وخصوصا انني اعيش في هذا البلد أي ان اظهر فوائد الاسلام واهميته وادعو اليه». وبرأي هذه الشابة، فان الدعوة الى الاسلام لا تتناقض مع الانتماء الى المجتمع البريطاني «فانا اعيش في نظام ديموقراطي وليس نظاما علمانيا لدي كل الحق ان اتحدث عن الاسلام وأدعو اليه، لا احد يمكنه ان يمنعني عن الحديث عن الاسلام». تقول ام ابو بكر ان الدعوة الى الاسلام باتت تلقى صدى واسعا في المجتمع البريطاني والدليل تحول العديد من النساء البريطانيات الى الاسلام وارتداؤهن النقاب. تقول «كلما ركزت وسائل الاعلام علينا زاد اقبال الناس على التعرف وطرح الاسئلة، فبعد احداث 11 سبتمبر (2001)، بات الناس يطرحون اسئلة عن الاسلام والوضع مماثل الان لان الناس يريدون ان يعرفوا اكثر عن النقاب». وتروي ان شابا فرنسيا استوقفها في السوبرماركت ليسألها عن سبب ارتدائها النقاب «سألني بتهذيب ان افسر له لماذا اضع النقاب؟ وعندما شرحت له الامر، قال لي انه سبب مقنع». وتتابع «البعض لديه الشجاعة ليطرح علينا السؤال بكل بساطة: لماذا نضع النقاب؟ وهذا يساعد على ازالة الحواجز بيننا». تبدو حياة ام ابو بكر مماثلة لتلك التي تعيشها أي شابة تتحمل مسؤوليات عائلية ومهنية في مدينة ضخمة مثل لندن. فهي تترك طفلها في عهدة زوجها لدى معاينتها المرضى في العيادة. تقول ان زوجها وهو هندي مسلم يعمل طبيبا في احد المستشفيات البريطانية، «متدين مثلي وعلى هذا الاساس اخترته». وتشرح انها تحتفظ في عيادتها بالعباءة وترتدي فوقها المعطف الطبي الابيض في حين تستبدل النقاب بالكمامة البيضاء. تقول «المرضى يشعرون ان الخدمة افضل وانظف لان شعري مغطى باستمرار، لم اصادف أي مشكلة مع أي زبون رفض قصد عيادتي لأنني منقبة». تقول ام ابو بكر ان المرضى يقصدون عيادتها لأسباب مختلفة «فالبعض يريد طبيبة امرأة والبعض الاخر يرتاح لكوني اتحدث الاوردو والعربية وأحيانا يقصدونني بكل بساطة لان نوعية الخدمة جيدة.. لانني طبيبة جيدة». تتحدث ام ابو بكر الانجليزية بطلاقة كبيرة ومن دون أي اثر للكنة خاصة تؤشر الى اصولها الباكستانية الا انها تحرص على تطعيم حديثها بكلمات باللغة العربية التي تقول انها تتقنها ايضا الى جانب لغة الاوردو الباكستانية. وتروي ام ابو بكر كيف انها اكتشفت الاسلام في سنوات المراهقة: «التقيت باصدقاء جيدين، كانت لدي اسئلة كثيرة عن الاسلام وعن الحياة ولم اكن اجد اجوبة شافية عنها، هؤلاء الاصدقاء قدموا لي الاجوبة عنها، ليس بطريقة شخصية بل عبر الكتب والنقاشات». وتروي كيف انها «بهرت بالاسلام» عندما تعرفت عليه. تقول «شعرت بالسعادة وانا اقرأ القرآن، هذا الشعور الجديد بالامان والسلام الداخلي كان دوما يرافقني الى ان اخترت اخيرا ان اضع الحجاب في عمر السابعة عشرة وكنت لا ازال في المدرسة». في المدرسة الانجليزية التي اعتادت ان تقصدها منذ طفولتها، كان لقرارها ارتداء الحجاب وقع متباين، الا ان هذا القرار كان الدليل او المؤشر الخارجي، كما تقول، على انها فعلا مختلفة. تقول «الاهل وجدوا ان قراري ارتداء الحجاب امر جيد وانه خياري الشخصي لذلك لم يتدخلوا، اكتفوا بالقول «اوكي»، الوضع كان مختلفا بالنسبة للاصدقاء والصديقات فالبعض منهم تقبل الامر لأنني كنت اساسا مختلفة عنهم، والبعض فوجئوا وقالوا انني اتخذت قرارا شجاعا جدا، والبعض الاخر لم يعجبهم الامر نهائيا وانقطعوا عني، لكنني احتفظت بالأصدقاء الحقيقيين، اولئك الذين يقبلونني كما انا، يقبلونني لنفسي وشخصيتي وليس لمظهري الخارجي». مع تقدمها في التعمق في الاسلام، كما تقول، راحت ام ابو بكر تزيد في الاعلان عن اختلافها من ارتداء العباءة فوق «الجينز الغربي» خلال سنوات الجامعة وصولا الى ارتداء النقاب الكامل. تروي: «في نهاية اعوامي المدرسية بدأت ارتدي الجلباب فوق لباسي الغربي، كنت سعيدة جدا لان العباءة سمحت لي بالاحتفاظ بلباسي الغربي مثل بنطلونات الجينز وغيرها من الملابس التي تكون غالبا ضيقة وتظهر تفاصيل الجسم، وجدت ان العباءة تتيح لي فرصة الحفاظ على طريقتي في اللباس من دون أي مشكلة .. الحمد لله» (بالعربية). طوال الاعوام الجامعية التي قضتها في احدى الجامعات في وسط لندن في دراسة طب الاسنان، لم تكن ام ابو بكر تجرؤ على ارتداء النقاب داخل الجامعة «لانني كنت اخشى ان يؤثر ذلك على دراستي» لكنها كانت غالبا ما ترتديه خارج الجامعة لدى خروجها الى الشارع او في الزيارات الخاصة.