يسعى الإنسان العاقل دائماً إلى التطوير من نفسه ليظهر بالشكل اللائق أمام الآخرين بحكم أن الإنسان ليس معزولاً عن الوسط المحيط به؛ وضرورة تعامله مع الآخرين تحتم عليه فعل ذلك؛ والشكل اللائق الذي أقصده إنما هو مضمون هذا الإنسان وجوهره لا المظهر الخارجي؛ على أن المظهر الخارجي له التقييم والاعتبار؛ لكن المضمون هو الثابت؛ وهو الأساس الذي يُـقيم من خلاله الإنسان في أي مجتمعٍ كان. من هنا يتطلع الباحثون وعلماء الاجتماع وكلُّ ذي لبٍّ وضمير إلى تحديد ملامح الشخصية الإنسانية الرفيعة استناداً على سمةٍ يتميزُ بها الإنسان عن سائر الخلق؛ ألا وهي خُلق الإنسان؛ ومن ثمَّ يقومون بدعوة الآخرين إليها والسعي ليحذوا كلُّ إنسان ملامحها. لكن يتبادر في ذهن المرء السؤال التالي، لمَ نقوم على بناء وتحديد هذه الملامح؟... أهل الهدف من وراء ذلك هو فقط من أجل تحقيق نجاح الإنسان في مسيرة حياته؟ أم أن ذلك يتعدى هذا المفهوم الضيق لمفهوم أعمَّ وأكثر شمولية؟... وأقصد من طرحي هذا الاستفسار هو المجتمع برمته!. فلأجل أن أعرف مقدار أهمية هذا البناء على المستوى الفردي يتوجب عليَ إدراك أهميته على المجتمع. إن وجدتُ المجتمع على حالٍ جيد أعرف أن أجزائه (الأفراد) هم على حالٍ جيدة وأستطع استخلاص ملامحهم وتدوينها لتكون لي معياراً ونبراساً لغير وقتٍ من الزمان؛؛ وإن وجدتُ المجتمع على حال سيء عندها أدرك ثمة خللاً موجود؛ وأن تلك الملامح الإنسانية الرفيعة هي غير موجودة أصلاً أو أن الناس وبحكم نظرتهم الضيقة لا يرون أهميتها على النطاقات الواسعة (المجتمع) فلا نراهم يمتثلون بها. وسواءً أكان عدم امتثالهم بها سببه قصور في الوعي والإدراك لأهميتها على المجتمع، أم كان سببه هو عدم تحليهم بتلك الأخلاق من أصله، أم كان سببه غيابَ المرجعَ الأساسيَّ عنهم الذي تُـستمد منه الأخلاق فكانوا تائهين ناسين أنهم بشر وأن للبشر أحكام وقواعد، فإنني الآن سأسلط الضوء على المجتمع، ومنه نرى الأمثلة المليئة بالآفات لنشخصها ولنضع الحلول لها. على أنني سأكون واضحاً منذ البداية؛؛ وأقول للمتسائل عن أنه هناك العديد من الباحثين الاجتماعيين الذين وضعوا الحلول للكثير من الآفات الاجتماعية التي سأظهرها الآن ومع ذلك فالآفات موجودة والملامح الإنسانية الرفيعة صُلب الموضوع لا أحد يمتثل لها؛ أقول لهذا المتسائل وأجيبه بأن تلك الحلول لعلها تفتقر إلى الروحانية وهي مادية أكثر من روحية؛ علاوةً على أنها قد لا تستند إلا إلى اجتهادات أوجدها الإنسان ذاته بطبعه العاجز عن الإحاطة الشاملة بسلوك الإنسان. إذاً ما الجديد في بحثي الذي سأقدمه الآن؟... الإجابة ستأتي مع النص ومع السطور اللاحقة. كذلك ولأجل الوضوح ذاته فإنني أدعو القراء وإيايَّ بالتفكّر في كل مشكلة وآفة سأقوم بطرحها الآن؛ وبالامتثال بكلٍّ حلٍّ مطروح لكل مشكلة؛ ودعونا لا نكون متواكلين ننتظر الدعاة والمصلحين ليخطبوا فينا ويؤثروا في نفوسنا القول.. فكل واحدٍ منا ومع ما سأذكره من حلول ذات المرجع الأساسي والوحيد يستطع أن يبدأ من نفسه ولا ينتظر امتثال الآخرين... وبهذه الطريقة سنجعل العجلة تدور. الإحساس بالمقهورين ومساعدتهم: هناك كثيرٌ من الناس يعانون من الظلم؛ معظمهم يعاني من الجوع؛ وبعضهم يعمل في سنٍ مبكرة؛ وبعضهم يُـبعدون عن أهليهم ويُـنفون من بلدانهم. مناظرُ هؤلاء البشر تُنشر في الصحف والتلفاز كل يومٍ تقريباً.... لكن أكثر الناس ينسون وجودهم حين يقلبون صفحة الجريدة التي يقرأونها إلى صفحة أخرى، أو يغيرون قناة البث من محطةٍ لأخرى... ولن ينتهي هذا الظلم والألم من وجه الأرض مادام الناس يتصرفون بهذه اللامبالاة. والحل؛؛؛ هو مفهوم الإنسانية الذي يهتف إلى مساعدة الناس بدون مقابل، والمصدر الوحيد لهذا المفهوم الإنساني هو الدين. فالملتزمون بالدين بإخلاص يستطيعون مدَّ يدِ العون للناس ابتغاء مرضاة الله تعالى. يصفُ اللهُ المسلمين الذين يمتلكون هذا النموذج الأخلاقي الرفيع بقوله سبحانه: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً [الإنسان : 8 - 10] فالخُـلق الذي اختاره الله تعالى للإنسان يُـوجب المحبة والرحمة والإخلاص. إذاً فقط عندما تمتلك الإنسانية هذا النموذج الأخلاقي تتوصل إلى السلام والعدالة الحقيقية. وإلا سوف يمتلئ وجه الأرض بالظلم والعدوان كما يجري الآن. مسؤولية الساسة والمسؤولين: خرجت السياسة في هذه الأيام عن كونها ساحة لخدمة الناس لتتحول إلى ميدان لخدمة المصلحة الشخصية؛ والهدف هو الوصول إلى المنصب والاحتفاظ به والترقي فيه مهما كان الثمن... إن الإنسان الذي يفكر بهذه الطريقة يستخدم كل أنواع الحيل والغش والرياء للوصول إلى هدفه. ولو وضعنا خدمة الشعب جانباً فإنه لا يتورع عن هضم حق الشعب بل الشعوب. والوضع في الدول الديكتاتورية أكثر سوءاً حيث يعيش الشعب في حالة عُـوزٍ شديد؛ الناس يصارعون الجوع والعطش والأمراض السارية؛ ولكن المسؤولين والحكام يتنعمون في رفاهية ما بعدها رفاهية. وهناك أمثلة صارخة لذلك؛ دكتاتور زائير "نوبوتو" (الذي كان يحضر إليه حلاقه الخاص من فرنسا على متن طائرته الخاصة كل شهر) وشعبه في الوقت ذاته يتضوع جوعاً ويتوق إلى كسرة خبز. كذلك سجَّـل "نوبوتو" كل مناجم الماس والثروات الباطنية في بلده باسمه متناسياً شعبه الذي يعيش في مستنقع الجوع والأمراض. الظلمة أمثال هذا الرجل هم الذين يجسدون موت الضمير في غياب الدين. الله تعالى أنزل آيةً بحقِّ هؤلاء الظلمة بقوله سبحانه وتعالى: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ [البقرة : 205] وضربي لمثال نوبوتو لا يعني اقتصاري على حاكم البلاد؛ إنما أعني وأخص بقولي كلَّ إنسانٍ منا مُـستلمٍ لمنصب ما أو مسؤولية ما. أما السبب الأساسي في كل هذه المفاهيم المغلوطة والظلم هو انعدام الدين؛ ولأن الناس لا يخشون الله تعالى فهم لا يتخلقون بعدلٍ ورحمة؛ ولأنهم يتجاهلون بأنهم سوف يُـسألون يوم القيامة فإنهم يمارسون كلَّ أنواع الظلم والعدوان؛ ولذلك فلا علاج للظلم على وجه الأرض إلا بأخلاق القرآن. معونة الفقراء: الذين يكسبون رزقهم من حاويات القمامة... الأطفال الذين يضطرون للعمل بأجر زهيد ويعرضون حياتهم للخطر... المشردون الذين يضطرون للعيش في الشوارع.... الأطفال الذين يموتون بسبب سوء التغذية... ومشكلات كثيرة كهذه سببها الفقر يتحدث عنها العالم بأسره.... حتى في دولةٍ غنية كأمريكا تصاعد عدد الذين يعيشون حالة الفقر ثلاث مرات خلال العشرين عام المنصرمة... فقط وعندما يتشرب الأغنياء الأخلاق الحميدة التي بيَّـنها القرآن يمكن مواجهة هذا الظلم. عندما يقدمون المساعدة للفقراء والعجزة بإيثار. عندما لا يتسببون لغيرهم ما يكرهونه لأنفسهم. عندما يفعلون ذلك ويساعدون الآخرين لله تعالى فقط؛ لا ليُـراءوا الناس ولا ليطلبوا الشهرة بينهم. فالحل الذي سيؤمن للمجتمع السلام والعدالة الاجتماعية هو تشرب هذه الأخلاق الحميدة من القرآن. يرشد الله تعالى الموسرين إلى أفضل الأخلاق في سورة النور بقوله: وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النور : 22] وقد بيَّـن الله تعالى في القرآن كيف يجب أن يُـعامل الفقراء؛ بل إن القرآن يقرر أن للفقراء حقاً في أموال الأغنياء سوى الزكاة أيضاً؛ يقول الله تعالى: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات : 19] والقرآن يشدُّ الانتباه إلى الفقراء المتعففين الذين لا يسألون الناس؛ وينصحُ بحماية حقوقهم؛ يقول الله تعالى في كتابه الكريم: لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة : 273] التضحية من أجل الآخرين: من مشاكل الفقر المتفاقمة هي مشكلة وظاهرة الهجرة إلى بلادٍ أخرى لتأمين عمل بأجور أفضل لتأمين لقمة العيش؛ ويلجأ معظمهم إلى طرق غير مشروعة لدخول تلك البلاد التي ترفض استقبالهم؛ فتتولد مشاكل أكثر شدة وأكثر تعقيداً؛ هذا من جهة؛؛ ومن جهةٍ أخرى لدينا فظاعة الحرب والفقر؛ والتي تسبب مغادرة الناس لبلدانهم وخسارة تلك البلاد لطاقة بشرية هائلة يمكن أن تثمر فيما لو ساهمنا بمساعدة تلك الشريحة. مثال ذلك هجرة اللاجئين في حرب كوسوفو (آذار 1998) أكثر من ثلاثمائة ألف هاجروا سيراً على الأقدام ولعدة أيام؛ فمات بعضهم إما بسبب الجوع أو بسبب الشتاء والبرد القارص أو بسبب انتشار الأمراض وهم في العراء؛ فقد رفضت أكثر من دولةٍ استقبالهم بالرغم من قدرتها على ذلك. ومن الأمثلة الحالية الشعب العراقي؛ أكثر من مليون عراقي مهاجر على أرض سوريا وحدها؛ هذا عدا عن عدد العراقيين المهاجرين إلى الدول العربية الأخرى. ولو أن أخلاق القرآن تحولت إلى منهج حياة فسيتغير الناس كثيراً؛ وستُـحفظ دائماً حقوق الناس الذين يعانون المصاعب والمنفيين من بلادهم وكذلك الفقراء. ولمن يتساءل أهل نحنُ معنيين بأولئك ومُـلزمين بهم أو بأمثال حالاتهم؟ وما هو دخل الخُـلق الإسلامي الرفيع بمسائل كهذه؟؛ أدعوه إلى الرجوع للوراء وتقليب صفحات التاريخ ليطلع على الخُـلق الإسلامي الرفيع لحسن استضافة الإمبراطورية العثمانية لليهود المنفيين من اسبانيا عام 1492؛ وإن لم يرى في هذا الحدث كفاية في الإقناع؛ فسأدعوه إلى الإطلاع على أعظم وأفضل الأمثلة في التضحية في التاريخ كله؛؛ وهي؛؛ ما حدث في عهد نبيّـنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام إبان هجرتهم من مكة إلى المدينة؛ حيث اُضطر مسلمو مكة للهرب منها تحت وطأة الضغوط التي مارسها مشركو مكة بحقهم فلجاؤوا مُـكرهين للهجرة إلى المدينة وتركوا من ورائهم كل أموالهم وأرزاقهم وبيوتهم وأملاكهم؛ أما مسلمو المدينة (الأنصار) ما كان منهم إلا أن ساعدوا هؤلاء المهاجرين مُـضحين من أجلهم بكل شيء؛ فقاسموهم كل ما يملكون... هذه هي النقطة التي رغبتُ بالوصول إليها لأبيّـن هذا الدرس الإسلامي التاريخي في رسم الملامح الإنسانية النبيلة التي قوامها ودعامتها الخُـلق الإسلامي الرفيع الذي أنشده لي ولقارئي هذه المقالة؛ وللعلم لو أن هؤلاء الأنصار لم يقوموا بما قاموا إزاء إخوتهم؛ لكانت الرسالة الإسلامية قد انتهت وزالت بوقتها؛ ولما كنت مسلماً ولما كنتُ أخطُ هذا الموضوع؛ من هنا يتبيّـن لنا أهمية التضحية في سبيل الله لأجل الآخرين؛ وأنه لا يجب علينا أن نقلل من شأن هذه المسألة ولا أن نتساءل بهل نحنُ معنيون بأولئك الذين يلجاؤون إلينا أوقات محنهم وشدائدهم. ولذات الأهمية فقد بيّـن الله تعالى في كتابه الكريم أهمية هذه الأخلاق الكريمة التي تمثلت في أنصار المدينة بقوله: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر : 9] من هنا نرى أن خلاص الإنسانية لا يكون إلا بإحياء الأخلاق الرفيعة من جديد؛ والتي تدفع الإنسان إلى التضحية من أجل الآخرين ابتغاء مرضاة الله تعالى على الرغم من حاجته. التعصب والعنصرية والطائفية: أكثر الحروب والاشتباكات على وجه الأرض تكمن من ورائها مشاعر عدوانية مستمرة منذ القدم بين الأعراق البشرية؛ ومصدر هذه الاشتباكات هو العنصرية والتعصب؛ والمنتمون إلى هذه الإيديولوجيات وهم يدافعون عن تعصبهم بشدة إذ يمكنون العداوة والبغضاء تسري بينهم وبين الأطراف الأخرى. هذه الإيديولوجيات وُلدت في زمن ليس ببعيد عن الوقت الراهن الذي نعيشه الآن؛ فمن الماضي القريب نجد وحشية النازية. وللعلم فإن النازيون وباسم التعصب العرقي فقط قد محو بواسطة الإعدام الجماعي الرهيب ملايين من الناس الأبرياء!! فقط لأن أصلهم غجر أو سلوفاكيين!.. أما في أخلاق القرآن فلا نجد مكاناً لشيء اسمه العنصرية... إذ خلق الله تعالى الناسَ شعوباً وقبائل ليتعارفوا كما بيّـن لنا الله تعالى في كتابه الكريم. والتفاضل بين الناس في القرآن الكريم ليس بالانتماء إلى الأعراق بل؛ بتقوى الله عز وجل وحُـسن الخُـلق؛ يقول الله تعالى في ذلك: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات : 13] ولو سألني سائل ما هي نقطة البداية لكوارث العصر فأجيب؛؛؛ عندما تكون أوجه الاختلافات بين الناس سبباً للصراع لا للتعارف ولتبادل الثقافات. ولنأخذ مثالاً آخر أشد قرباً من سابقه؛ وهو الحرب التي قامت في زائير (1997) هو مثالٌ أليم للصراع العرقي في القرن العشرين؛ هذه الحرب أثرت على المنطقة برمتها فشملت كل من زائير وأروندة وأوغندا وبولندي وتنزانيا؛ حيث جرى فيها اقتتال عنيف وشرس بين القبيلتين الكبيرتين (الهوتو والتوتسي) وصارت المنطقة بأكملها مكاناً لتصفية حسابات تلك القبيلتين ومسرحاً لعمليات التطهير العرقي الذي قُـتل فيه قرابة سبعمائة ألف إنسان؛ حتى الصغار والأطفال بل وحتى الرضع لم يسلموا من القتل ومن التصفية؛ ذنبهم فقط لأنهم من قبيلةٍ أخرى!!... وهذا عدا عن عشرات الآلاف من لاجئي تلك المنطقة الذين هربوا من ديارهم وصارعوا الجوع في الغابات؛ وعانوا الأمرين وسرت بينهم الأمراض وماتَ قسمٌ كبيرٌ منهم تحت وطأة هذه الظروف. والله تعالى يُـلفتُ النظر إلى العصبية المُـنتنة عند الجاهلين البعيدين عن دين الله بقوله تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً [الفتح : 26] جميع التيارات والإيديولوجيات التي نشأت في جميع أنحاء هذا العالم؛؛ قد كشفت الوجه الأسود للإلحاد؛ والتي كانت تعتمد على النظرية الداروينية الاجتماعية متمثلة في البقاء للأقوى وأن التطور لا يمكن أن يتم إلا عن طريق الصراعات والحروب؛ شأن الإنسان كشأن الحيوان؛ وأن الإنسان لم يصبح على شكله الحالي إلا عن طريق الصراع والتطور والبقاء للأقوى؛ فلم تعد هناك أي قيمة للإنسانية؛ وأن القيمة هي فقط للأقوى وللذي يبقى.. لهذا قلتُ بأن جميع تلك التيارات والإيديولوجيات قد كشفت عنها الوجه الأسود للإلحاد. لكن ما العبرة بذكري لمثالَـي النازية ولحرب تلك القبيلتين الإفريقيتين كمثال على التعصب والتطهير العرقي في هذا الموضوع تحديداً؛ سيّـما وقد يظنُ القارئ بأني قد خرجت عن النص!! في الحقيقة قمت بذكر هذين المثالين لتوضيح مفهوم التفاضل بين الناس في القرآن الكريم على أنه ليس بالانتماء إلى الأعراق بل بتقوى الله عز وجل وحُـسن الخُـلق؛؛ وأن الاختلافات بين الناس يجب أن تكون سبباً للتعارف ولتبادل الثقافات؛؛ فإن كان الإلحاد واختلاف الأعراق سبباً للصراع (والقرآن الكريم قد شجبه قلباً وقالباً وشكلاً ومضموناً) فماذا عساي أن أقول عن المؤمنين بالله وملائكته ورسله وكتبه وباليوم الآخر أبناء الدين الواحد... أبناء اللغة الواحدة... أبناء التاريخ الواحد... أبناء العرق الواحد... أبناء الأمة الواحدة... أبناء الوطن الواحد... أبناء البلد الواحد.... أبناء الحيِّ الواحد وهم يسفكون دماء بعضهم البعض لا يميزون بين شيخٍ وبين امرأة وبين طفل في أعمال قتلٍ وحشية لم يشهد التاريخ مثيلاً لها... ماذا عسايَ أن أقول هنا؟.. لحظاتٌ تمرُّ عليَّ الآن ويعجزُ القلم عن الكتابة...... إن كنتُ أتحدث عن الخُـلق الإسلامي الرفيع وجئتُ لأرسم أبسط الملامح الإنسانية التي رسمها الإسلام لي من محادثة الله تعالى في مناجاة دون وسيط ودون حُـجب؛ وافتراش أي بقعةٍ طاهرة لأصلي لخالق الكون العظيم؛ وتعاملي مع الآخرين على أساسٍ من البساطة والعدل ورقة القلب وطيبة المعشر والتواضع والكرم والتوحيد والعدل والمساواة والأمانة ورقة اللفظ وتبسمي في وجه أخي صدقة؛؛ فما نفع كل هذه الملامح مُـجتمعة إن كنت أمتثل بها فقط مع أبناء المذهب الواحد؛ وكنتُ عدواً معادياً ومقاتلاً وقاتلاً لأبناء مذهبٍ آخر لذاتِ الدين لذاتِ البلد لذاتِ العرق لذاتِ اللغة لذاتِ التاريخ لذاتِ الأرض والمصير!!؟؟؟ القرآن الكريم حدثنا عن المختلفون بالأعراق ونبهنا من الانجراف في صراعاتها كي لا تصبح في قلوبنا حميّـة الجاهلية؛ وأن اختلاف الأعراق ما هي إلا لنتعارف ولنتبادل الثقافات على أساسٍ من المحبة والتعاون؛ وأن أكرمنا عند الله هو الأكثر تقوى... هذا الخطاب كان لمختلفي الأعراق؛ ولكني لم أرى خطاباً من الله تعالى لأبناء المذاهب؛ لأنها غير موجودة أساساً وقت نزول الرسالة ولأن الإسلام لم يأتي ليُـحزبَّ الناس بل ليجمع القبائل؛ ولهذا لا نرى في القرآن هكذا خطاب؛ على أن الله تعالى يعلم وهو علام الغيوب بأن اختلافات ما ستحصل؛ ولكنها اختلافات مسموحة ومقتصرةً على الاجتهاد في الدين تحيط بها خطوط حمراء تمنع عنّـا التفرقة والعداوة والبغضاء... إن تجاوزناها كنا أكثر سوءاً من أولئك المختلفون في الأعراق لأننا نمتلك زيادة عليهم الكثير من الروابط المشتركة وأسماها وأعلاها شأناً هو الدين الإسلامي؛ وحقاً سنكون في موقفٍ لا يحسدنا عليه أحد؛ وسينطبق علينا موقفاً مُـخزياً يمثلُ عكس الآية الكريمة التالية: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران : 103] الخلاصـــة طريقتي في البحث وهي جلب صورة المجتمع وعكسها أمامكم لنتبين أهمية بناء الشخصية الإنسانية بالاعتماد على الخُـلق وباعتماد أن الحل الوحيد لنا يكمن في القرآن الكريم اعتمدتها لكي أتجنب ذكر معلومات نظرية أحشو بها عقول القراء دون أن يكون لهم الخبرة في تطبيقها زماناً ومكاناً وحيثيةً وطريقةً ومتى يستجيب لها ومتى لا يستجيب.... لهذا وضعت مكان التطبيق (المجتمع) أمامكم وأنا أتحدث عن المعلومات النظرية بذاتِ الوقتِ معاً؛ لكي أبيّـن قدر المستطاع أهمية كل خُـلق ما في مدى تأثيره على المجتمع وعلى المدى البعيد؛ من هنا وبقدرِ عكسِ أهميةِ أيِّ خُـلقٍ ما مما ذكرتهم لكم بقدر ما يجب أن نتمسك به بشكلٍ أكثر قوة لنجعله من سماتنا ومن ملامحنا ومن أخلاقنا. وأقول أيضاً في ختام هذا الموضوع؛؛ بأن الفساد الأخلاقي الذي سردته هنا هو سبب كل المشاكل التي يعرفها الناس تقريباً؛ ولكنَّ قسماً كبيراً من الناس لا يكلفُّ نفسه عناء حلِّ مشكلةٍ واحدة من هذه المشاكل؛ بل ولا يشعر بالحاجة حتى إلى مجردِ التفكير بها. أما البعض الآخر من الناس فيريدون حلها ولكنهم لا يستطيعون؛ وعن سبب عدم قدرتهم هو أنهم يبحثون عن الحلِّ في أديانٍ محرفة وفي أنظمة أوجدها الإنسان ذاته (القاصر أصلاً عن الإحاطة بالإنسان وبطبعه وبسلوكه كونه لم يخلقه). فالحل ليس بتطبيقِ هذا النظام أو ذاك؛؛ إنما الحل هو بتغيير نظرةِ الناس إلى الدنيا وأن تصبح نظرة الإنسان نظرة رحمة وتضحية لا نظرة جشعٍ وقوة... الحلُّ هو بأن يحيا الناس الخُـلق القرآني الذي اختاره وارتضاه لنا الله تعالى؛؛ لأن الله تعالى هو خالق كل الناس وهو الأعلم والأكثر دراية بهم؛ وهو الذي حدد المستوى الأخلاقي المناسب والملائم الذي يوفر الراحة التامة بين الناس ويؤمِّـن لهم الرفاه والشعور بالأمان وبالطمأنينة. وقد فصّـل الله تعالى كل هذا للناس في كتابه الكريم؛؛ ومن يُـعرض عن أخلاق القرآن ويُـضيّـع حياته في إرضاء أنانيته الجشعة ويظلم الناس لأجل ذلك لهو في ضلال بعيد. ينصحُ الله تعالى هؤلاء الناس بقوله: فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [يونس : 23] وأختم موضوعي؛ بأن مسألة وضع المنهج الحياتي للإنسان كخلق وكأسلوب حياتي ومعاشي في الدنيا بعيداً عن القرآن الكريم؛ أي بابتداع الإنسان لهذا المنهج حسب أهوائه لهي مسألة خاسرة ونتيجتها الحتمية هي الفساد الذي سيعم أرجاء هذه المعمورة؛؛ بل وحتى أن هذا المنهج المُـبتدع من الإنسان ذاته لن يلتزمَ به مبتدعو المنهج أنفسهم!! وقول الله تعالى خيرُ دليلٍ وشاهدٍ على هذا: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ [المؤمنون : 71]