هذا حديث عن " الفقير الصابر " في زمن ضاقت فيه سبل المعيشة على الناس ، وكثرت الشكوى مما نزل بهم من البأس ، وأوشك أن يصيب بعضهم اليأس . فهذا الحديث عن الفقير الصابر الذي شعاره قول الله تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين } . وشعار هذه الأسرة الفقيرة الصابرة قوله تعالى : { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا } . تقول الزوجة لزوجها إذا خرج يطلب الرزق لهم : " يا أبا فلان اتق الله فينا ، واطلب لنا رزقاً حلالاً ؛ فإننا نصبر على الجوع ولا نطيق صبراً على نار جهنم ". وشباب هذا البيت شعارهم قوله الله تعالى: { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله } [ النور: 33 ] . وقدوة هذا الفقير الصابر رسول الله - صلى الله عليه وسلم .. عن أنس بن مالك قال : دخلت على رسول الله وهو على سرير مضطجع مرمل بشريط ، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف ، فدخل عليه نفر من أصحابه ، ودخل عمر فانحرف رسول الله انحرافة ، فلم يرى عمر بين جنبيه وبين الشريط ثوباً وقد أثّر الشريط بجنب رسول الله ، فبكى عمر، فقال الرسول : ما يبكيك يا عمر ؟ قال : والله أني أعلم أنك أكرم على الله من كسرى وقيصر ، وهما يعبثان بالدنيا فيما يعبثان ، وأنت رسول الله بالمكان الذي أرى ! فقال رسول الله : إنهم عجلت طيباتهم في حياتهم الدنيا ، فكان عمر بعد ذلك إذا كلم أن يمتع نفسه بشيء من الدنيا ، يقول : أخشى أن يقال لنا : {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا }. إلى هذا الفقير الصابر هذه الوصايا : الوصية الأولى: اطلب الرزق بعزة نفس عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تستبطئوا الرزق ؛ فإنه لن يموت العبد حتى يبلغه آخر رزق هو له فأجملوا في الطلب) وقف أحد الباشوات - ممن كانت له هيبة في قلوب الناس - على حلقة علم لعالم جليل من علماء الشام - يقال له الحلبي - وكان هذا لعالم قد مدّ رجله أثناء الدرس لألمٍ كان بها ، فلما وقف هذا الباشا ظن أن هذا العالم سيقوم له ، فما قام هذا لعالم ، ولاضمّ رجله ، بل أبقاها كما هي ممدودة ، فغضب الباشا وانصرف ، فلما سكن غضبه هداه تفكيره أن يرسل لهذا العالم أموالاً يتألفه بها ، فجاء رسول الباشا بهذه الأموال فوضعها بين يدي العالم ، فقال له : ما هذه ؟ فقال : أرسلها لك الباشا ؛ لتستعين به على حوائجك ، فقال العالم : لا حاجة لي فيها ! ارجع وقل للباشا : إن الذي يمدّ رجله لا يمدّ يديه. الوصية الثانية : احذر أن يحملك استبطاء الرزق أن تطلبه من حرام وخصوصا أننا في زمن كثرت فيه وسائل الكسب المحرم ، وقلّ سؤال الناس عن الحلال والحرام .. كان بعض السلف في ضيق من معيشته ، وقد بلغ من الكِبر عتياً ، فعرض عليه منصب رفيع ، ولكن فيه شبة مكسب من حرام فرفض ، فعلم أهله بذلك فراجعوه فقال : إن مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لديهم جمل ينتفعون به فلما كبر أرادوا ذبحه. قدم رجل صالح من سفر ، وتوجه للمسجد لصلاة ركعتين ، فوجد رجلاً عند باب المسجد يظهر عليه أثر الضعف والمسكنة ، فطلب منه أن يمسك عليه ناقته حتى يخرج ، فلما دخل المسافر وشرع في الصلاة أخذ الرجل خطام الناقة وهرب ، فخرج المسافر من المسجد وفي يده درهمين صدقة ومكافأة للرجل ، فلم يجد الرجل ووجد الناقة بلا خطام،فتوجه للسوق ليشتري خطاماً ، فوجد خطام ناقته يباع في السوق ولم يجد الرجل فسام البائع فاشترى منه الخطام بدرهمين ، ثم قال : سبحان الله ! إن العبد ليحرم نفسه الرزق الحلال بترك الصبر واستعجال الرزق فلا يزاد على ما قدر له . وإن مما نختم به الوصية للفقير الصابر أن يعلق قلبه بنعيم الآخرة فقد كان صلى الله عليه وسلم يقول : ( اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة ) . وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها الأغنياء والنساء ) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( التقي مؤمنان على باب الجنة : مؤمن غني ، ومؤمن فقير ، كانا في الدنيا فادخل الفقير الجنة ، وحبس الغني ما شاء الله أن يحبس . أيها الفقير الصابر تذكّر قول نبيك صلى الله عليه وسلم : ( عرض علي ربي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهباً ، فقلت: لا يارب ، أشبع يوماً وأجوع يوماً ، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك ، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك ). فإذا جعت يوماً صبرت وتذكرت ربك فأُجِرت ، وإذا شبعت أياماً شكرت وأُجرت. اللهم اغفر لي ولوالدي و أصحاب الحقوق على والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات يوم يقوم الحساب اللهم اغفر لقارئ هذه الرسالة ، أسألكم الدعاء لكاتبها