إدمان الأكل (Food Addiction )

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : د. وائل أبو هندي | المصدر : www.maganin.com

هو مصطلح جرى على الألسنة في السنوات الأخيرة، ربما مع شيوع الإدمان نفسه كظاهرة نفسية سلوكية على مستوى المجتمعات البشرية الحديثة، كما أنه بدأ يشيع في بعض الكتابات العلمية المعاصرة، خاصة مع تغير النظرة التقليدية للإدمان، بحيث أصبح بإمكاننا أن نقول أن الإدمان لم يعد مرتبطا بمادةٍ محظورةٍ أو معروفة بتأثيرها المُسْكِرِ أو المغيب للعقل،

بعد أن كان عندنا إدمان ما يشربُ أو يشمُّ أو يحقنُ أو يتنفسُ وكلها موادُّ نفسانية التأثير، أصبح عندنا أيضًا إدمان ما يؤكل أو ما يفعل، أي أصبح الإدمان إدمانَ سلوك نفساني التأثير بعدما كان الإدمان سابقا إدمان مادة نفسانية التأثير، فمثالا على ما يؤكل نجد إدمان الشيكولاتة أو السكريات والنشويات بوجه عام، ومثالا على ما يفعل نجد إدمان اللعب وإدمان المقامرة وإدمان الشراء وإدمان الألعاب الإليكترونية وغير ذلك مما ذكرنا من قبل في مقال: الفهم الحالي للإدمان رؤية متحفظة.
  

وبدأت ترتفعُ في السنوات الأخيرة أيضًا أصواتٌ من المتخصصين في علاج الحساسية، وبالأخص الحساسية للأطعمة المختلفة(Levine,2002)و(Salzman,2002)، لتقولَ بأن الحساسيةَ لطعامٍ معينٍ تكونُ مصحوبةً بإدمان هذا الطعام المعين، بحيثُ أن الشخص يحسُّ بتوقٍ ملحًّ(أو اشتهاءٍ ملح) لذلك الطعام المعين، يشبهُ أعراض انسحاب العقار النفساني التأثير من الجسد في المدمنين!، ويقدمُ متخصصو علاج الحساسية هؤلاء لنظريتهم بأسئلةٍ بسيطةٍ جدا مثل: هل حدثَ أن أكلتَ قطعةً من الجبن أو الآيس كريم ثم شعرت بعدها أنك أكثر جوعًا مما كنت قبل الأكل؟ أو هل تحس بتوقٍ أو اشتهاءٍ ملحٍّ لأنواع معينة من الأطعمة ولا يهدأُ اشتهاؤك أبدًا إن لم تأكل ذلك الطعام؟ ثم يقولون بعد ذلك: إن كانت إجابتك نعم إذن فأنت تعاني من حساسية للطعام، وإن كنتَ بدينًا فمن الممكن أن تكونَ حساسيتك للطعام هيَ السبب(Levine,2002).

ويقولون أيضًا: -معظم الناس يربطون الحساسية بالطفح الجلدي، والرشح الأنفي أو تورم الوجه والشفتين، وأما ما لا يعرفه الناسُ كما يقول خبراء الحساسية هؤلاء فهو أن الجسد البشري عندما ينتجُ الأجسام المضادةَ Antibodies، وذلك استجابةً للمستضدات(أو مولدات المضاد Antigens) المحتواة في طعام معين، ينتجُ في نفس الوقت عددًا من المواد الكيميائية نفسانيةِ التأثير Psychoactive Chemicals تؤثرُ في الدماغ، فتصبحُ الأطعمةُ المسببةُ لهذا النوع من الحساسية هيَ نفسها المواد التي يتوق الجسد لها، ولذلك فرغم أن مفهوم معظم الناس عن الحساسية لشيءٍ معينٍ يستتبعُ أن الشخص يتجنبُ هذا الشيء،

إلا أن متخصصي الحساسية يقدمون رأيا آخرَ تمامًا مضمونهُ:-أنهُ بالضبط كما يعاني المدمن من أعراض انسحاب العقار من جسمه عندما يحرمُ منه ومن أهمها التوق الملح للعقار، فإن مرضى الحساسية لطعامٍ معينٍ يحسون بأعراض تتمثلُ في عدم الراحة والضيق والتوق الملح لذلك الطعام المعين كلما حاولوا منع أنفسهم عنه، ويذهبُ متخصصو علاج الحساسية نقطةً أبعد من ذلك حيثُ يفسرون حدوثَ الربط بينَ الحساسية والإدمان بالطريقة التالية:

"عندما يدخنُ شخصٌ ما لأول مرةٍ في حياته فإنهُ عادةً ما يسعل ويحسُّ ببعض الحرقة في حلقه وربما بعض الدوار، إلا أن تكرار الشخص للتدخين مرةً بعد مرةً يؤدي إلى غياب هذه الأعراض، بينما تتشكلُ أعراضٌ أخرى هيَ أنهُ يصبحُ مدمنا للتدخين، ويحسُّ بالضيق والتوق الملح للتدخين عندما يكفُّ عنه، بنفس هذه الطريقة يصبح الشخص الحساس مثلاً لمنتجات الألبان متوعكًا بعض الشيء عندما يتناول الآيس كريم إلا أنه لا يكفُّ عن تناوله ويضطرُّ جسمهُ للتأقلم على أكل الآيس كريم في نفس الوقت الذي يتحول فيه الشخص إلى مدمن آيس كريم ونفس الكلام يطبقُ بالطبع على أنواع الجبن المختلفة وعلى الزبادي والذرة والقمح والشيكولاته وفي البلاد الشرقية على الأرز!" ويسمون هذه المتلازمة من الأعراض التي لا يدري بها الناس كما يقولون(Levine,2002)و(Salzman , 2002) بزملة الحساسية/الإدمان Allergy-Addiction Syndrome.

مثل هذه النظرية لا يقفُ عليها دليلٌ علميٌّ كافٍ حتى الآن، اللهم إلا ملاحظات متخصصي علاج الحساسية هؤلاء، من أن الكثيرين من مرضاهم المعانين من البدانة ضمن مجموعة أعراضٍ تُرجعُ كلها إلى الحساسية لطعام معين كما يظهرُ من اختبارات الجلد وغيرها من أساليب اكتشاف الحساسية، الكثيرين من هؤلاء المرضى يحدثُ لديهم هبوطٍ حقيقيٌّ في الوزن ومنذ الفترة الأولى من العلاج، ويعزى ذلك إلى تخلص الجسد من الماء والملح اللذين يعد اختزانهما واحدًا من أعراض الحساسية وسببًا من أسباب البدانة، كما أن هناكَ تقاريرُ عن حالاتِ حساسيةٍ للطعام يعاني المرضى فيها من إدمانٍ لأكل غذاءٍ معين مثل الشيكولاته أو الآيس كريم أو غيرهما من منتجات الألبان، بشكلٍ يسمحُ بتشخيص اضطراب القشم القهري، ويتمُّ تخلصهم من كل هذه الأعراض بعد علاج حساسيتهم للطعام أو بمجرد تجنبهم لتناوله،

00حيثُ لاحظَ العديد من المشتغلين بتشخيص وعلاج الحساسية حدوثَ هبوطٍ في وزن الكثيرين من المصابين بزيادة الوزن أو البدانة في الأسابيع الأولى من اتباعهم لبرنامج العلاج الذي يقدمونه لهم، والذي يتلخصُ في اجتناب الغذاء الذي يسببُ الحساسية للشخص بحيثُ يتناول ما يشاءُ من أغذية إلا تلك التي تسببُ له الحساسية، فتكونُ النتيجةُ هيَ فقد عدة كيلوجرامات قد تصل إلى أكثر من عشرة كيلو جرامات دونَ أي إنقاص للسعرات الحرارية الكلية التي يتناولها الشخص، ويعزي الأطباءُ ذلك لتخلص الجسد من كمية كبيرةٍ من الماء والملح كان الجسد يختزنها بسبب تفاعلات الحساسية للطعام الذي يتناوله الشخص دونَ أن يعرف أنهُ يسببُ له الحساسية(
Alpha Nutrition ,2002)، والواضحُ أن هذا النوع من التفسير سيعطي مبحثَ الظواهر القهرية للبدانة مجالاً جديدًا(Salzman , 2002) للبحث، بالرغم من عدم وجود دلائل كافية حتى الآن، إضافةً إلى كون تطبيق النظريات المنطبقة على الهيروين أو الكحول أو حتى القهوة على أنواع الطعام المختلفة ليس بالتطبيق الصائب كما ذكرت، كما أن من المهم في مثل هذا المضمار أن يتمَّ التفريق بينَ الغذاء الطبيعي والغذاء المصنع أو الذي تمت معالجتهُ بشكلٍ أو بآخر من قبل الإنسان المعاصر.

*والحقيقةُ أن الحكايات التي يحكيها متخصصو علاج الحساسية Clinical Ecologists هؤلاء تبدو مثيرةً للغاية فيقول أحدهم على سبيل المثال(Levine, 2002) واحدٌ من مرضاي كانت لديه حساسيةٌ لمنتجات الألبان وقد قررَ استبدالها بالخبز وماء الشعير في غذائه، وعلى الرغم من أنهُ كانَ يأكلُ ربما كَمًّا أكبر من السعرات الحرارية إلا أن وزنهُ استمرَّ في النزول رغم عدم بذله لأي جهد من أجل إنقاص وزنه، وذلك خلال الشهر الأول من العلاج"، ويفسرُ متخصصو علاج الحساسية الكيفية التي تحدثُ بها زيادةُ الوزن بسبب الحساسية بنفس الطريقة التي يفسرُ بها إدمان الناس للعقاقير النفسانية التأثير التي تحدثُ رد فعل يشبهُ رد فعل الجسد للمادة المسؤولة عن إحداث الحساسية خاصةً في بداية تعاطيها، إلا أن رد الفعل هذا يكونُ مصحوبًا بتغيراتٍ غير مفهومةٍ بالكامل في المخ البشري وخاصةً في الجهاز الحوفي Limbic System، وربما يكون للأفيونات المفرزة داخليا Endogenous Morphine في المخ خاصةً مادة الإنكيفالين Opioid Enkephalin، دورٌ في ذلك(Levine, 2002) إلا أن الدراسات العلمية التي تفحصُ هذا الأمرَ ما تزالُ في بداياتها، وإن كانت علاقةُ الحساسية للأطعمة المختلفة ودورها في جعل الشخص مدمنًا للأكل بدأت تسترعي انتباه الباحثين(Salzman, 2002) خاصةً الأغذية المعالجة صناعيا بشكلٍ أو بآخر.

وبالفعل أثبتت أبحاثٌ علمية كثيرة أن موادًا موجودةً في غذائنا كالبيتا كاربولين Beta-Carbolines وتنتجُ عن تعرض الطعام للحرارة(Proliac et al.,1976)و(Rommelspacher et al.,1982)و (Rommelspacher et al.,1985)و(Adachi et al.,1991)و(Papavergou et al.,1992)و(Wakabayashi et al., 1997)و(Herraiz et al.,1997)و(Skog et al.,1998)و(Wang et al.,1999)، كما أن هناكَ عديدةً موادًا تنتجُ عن المعالجة الصناعية لمنتجات القمح(Fukodome et al.,1997) وعن معالجة منتجات الألبان(Teschemacher et al.,1997)وكلها مواد لها علاقةٌ بمشتقات الأفيون وقد تسببَ الإدمان للمستهلك العادي(Lin et al.,1998)و(Zhang et al., 1998)،ومصنعو الأغذية بالطبع يعرفونَ ذلك ويستغلونهُ جيدًا(Witherly, 1987)، أفلا يكفينا ذلك لكي نشكرهم على بدانتنا؟.

وأما مكسبات الطعم Taste-enhancers تلك التي نتعاملُ معها كلنا ببراءةٍ شديدة، فهيَ بروتيناتٌ مُنَكَّزةٌ(أي منزوعة الماء) Dehydrated Protein تحتوي على البيتا كاربولين وحقيقةُ الأمرِ أنها لا تحسنُ طعمَ المأكول في حد ذاته وإنما تعملُ من خلال تأثيرها على المستقبلات العصبية(Aoshima&Tenpaku,1997)(أي أنها عقاقير لا تختلفُ في شيء عن العقاقير التي تحدثُ تأثيرها من خلال العمل على الدماغ ومن ضمنها الأدوية النفسانية التأثير)، ونفس الكلام ينطبقُ على البروتينات المستخلصة صناعيا من القمح أو من اللبن والموجودة في معظم الأغذية المعالجة والمجهزة سلفًا فهيَ تحوي مشتقات الأفيون أو ما يعملُ عملها في الدماغ، وكذلك مثيراتٌ الشهية التي تضافُ على العديد من الأغذية مثل الجلوتاميت أحادي الصوديومMonosodium Glutamate فيعملُ بطريقةٍ مشابهة على مستقبلات الدماغ(Bellisle, 1999)، إلا أن من المهم أن نشير إلى أن الصيحات التي يطلقها متخصصو علاج الحساسية للأكل وما يسمى(تحليل الجسد!!) لا تقف عند حدود الإضافات الصناعية للطعام وإنما تتعداه إلى الأغذية الطبيعية بشكل يستدعي التشكك، والتريث.
  

فهل يا ترى يكونُ استخدام مفاهيم الإدمان لمناقشة ظاهرة الإفراط في الأكل التي تجتاح المجتمع البشري الحديث في السنوات الأخيرة، وتبدو متواكبة بشكل أو بآخر ومتناسبة أيضًا مع توفر التكنولوجيا الغربية الحديثة، هل يكونُ ذلك الاستخدام صحيحا من الناحية الطبنفسية؟ فصحيح أن في أذهاننا كثيرٌ مما ذكرناه في مقال:
التوقُ (أو الاشتهاءُ)الملحُ للسكريات  من دلائل على وجود أساسٍ عضوي لإدمان الشيكولاتة المتزايد، إلا أن ذلك الاستخدام يحملُّ العديد من التبعات المتمثلة في تطبيق برامج علاج الإدمان في حالة نوبات الدقر أو القشم القهري(Bemis, 1985)و(Malenbaum etal.,1988)، إذ كيف يتمُّ التعامل مع الاشتهاء والانشغال المستمرِّ والتوق الملح لأكل كمياتٍ كبيرةٍ من أطعمةٍ معينةٍ بشكلٍ يبدو قهريا، بنفس الطريقة التي يتمُّ بها التعامل مع إدمان المواد النفسانية التأثير،خاصة وأن تلك الطرق في العلاج قد تكونُ لها مضاعفاتٌ خطيرةٌ لأنها تعتمدُ على تشديد وتعزيز الحصر Intensifying Restraint،

وليسَ على تعديل سلوك الأكل وجعله طبيعيا أو أقرب ما يكونُ من الطبيعي(Wardle,1987)و(Vandereycken,1990)، أو بكلماتٍ أخرى نقولُ أنهُ لا يصحُّ أن نتعامل مع الطعام بنفس الطريقة التي نتعاملُ بها مع الهيروين أو الكوكايين، والواضحُ أن استخدام تعبير القشم القهري أو إدمان الأكل هو استخدامٌ في غير موضعه وأنهُ قد يضرُّ أكثرَ بكثيرٍ مما قد يفيد، وذلك بالرغم من كوننا نعرفُ أن الأغذية المعالجة أو المصنعة والتي تمثلُ معظمَ غذاء الناس في هذا العصر، إنما تحتوي على العديد من المواد النفسانية التأثير والتي تسببُ الإدمان بالفعل كما سبقَ أن ذكرنا، ولكن لأن الإصلاح في هذه الحالة كما نحسبه ربما يكونُ بتطبيع المأكول قدر استطاعتنا أي أن نختار من الأغذية ما يكونُ أقربَ إلى هيئته التي خلقها عليه الخالق سبحانهُ، إذن فقد نحتاجُ إلى تطبيع المأكول كما نحتاج إلى تطبيع العلاقة مع الأكل في هؤلاء المرضى.