الإنسان له وصفان مسيَّر ومخيَّر، مسيَّر ليس له خروج عن قدر الله عزَّ وجلَّ، فالله سبحانه وتعالى قدَّر مقادير الخلق قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة كما جاء في الحديث الشريف، والقَدَر أمر ثابت وهو من أصول الإيمان، فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما سأله جبرائيل عن الإيمان قال في جوابه: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره))[1].
فالإيمان بالقدر من أصول الإيمان، فالله قدر أشياء وكتبها سبحانه قبل أن يخلق الناس، خلق العبد وقدر رزقه وأجله وشقاوته وسعادته، هذا أمر معلوم وقد أجمع عليه أهل السنة والجماعة، فهو مسير من هذه الحيثية، من جهة أنه لا يخرج عن قدر الله.
ولكنه ميسر لما خلق له، فإن الصحابة رضي الله عنهم لما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما من الناس أحد إلا وقد وجد مقعده من الجنة ومقعدة من النار، فقالوا: يا رسول الله، فلِمَ نعملُ؟ قال: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له))[2]، فأما أهل السعادة فيُسِّروا لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فَيُسِّروا لعمل أهل الشقاوة، ثم تلا قول الله سبحانه وتعالى: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى[3].
بيَّن عليه الصلاة والسلام أن جميع الأمور مقدرة، وأن أعمال العبد وشقاوته وسعادته وسائر شئونه قد مضى به علم الله، وكتبه الله سبحانه وتعالى، فليس للعباد خروج عما كُتب في اللوح المحفوظ، وعما قدره الله عليهم سبحانه وتعالى، وهو من هذه الحيثية مسير ومُيَسَّر أيضاً.
أما من جهة التخيير فالله جل وعلا أعطاه عقلاً وسمعاً وبصراً وأدوات فهو بها يعرف ما يضره وما ينفعه وما يناسبه وما لا يناسبه، فإذا أتى الطاعة فقد أتاها عن اختيار وإذا أتى المعصية فقد أتاها عن اختيار وإذا أتى المعصية فقد أتاها عن اختيار، فليس بمجبور ولا مكره بل له عقل ينظر به يميز بين الضار يبصر به، وله أدوات يأخذ بها ويعطي، ورجل يمشي عليها إلى غير ذلك، فهو بهذا مخير.
فهو المصلي، وهو الصائم، وهو الزاني، وهو السارق، وهو الذاكر والغافل، كل هذا من أعماله، فأعماله تنسب إليه وله اختيار وله إرادة، كما قال عزَّ وجلَّ: لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ* وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[4]، وقال تعالى: فَمَن شَاء ذَكَرَهُ* وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ[5]، وقال تعالى: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[6], وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ[7]، وقال تعالى: إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[8]، وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ[9]، وقال تعالى: إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ[10]، فنسب فعلهم إليهم، وقال: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا[11].
فأعمالهم تنسب إليهم خيرها وشرها، فالعبد هو الصائم، وهو الذاكر، وهو الغافل وهو العامل، وهو المصلي إلى غير ذلك، فيؤجر على طيب عمله الذي أراد به وجه الله، ويأثم على ما فعله من الشر؛ لأنه مختار عامل لهذا الشيء.
فإذا فعل ما شرع الله عن إخلاص ومحبة لله آجره الله؛ من صلاة وصوم وصدقة وحج وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وغير ذلك، وإذا فعل ما نهى الله عنه من السرقة والزنا وقطيعة الرحم والعقوق شهادة الزور وما أشبه ذلك أخذ بذلك، وأثم في ذلك واستحق العقاب؛ لأن هذا من فعله واختياره، ولا يمنع ذلك كونه قد قُدِّر وسبق به علم الله.
فقد سبق علم الله بكل شيء سبحانه وتعالى، ولكن العبد يختار يريد وله مشيئة، فإذا شاء المعصية وأرادها وفعلها أُخِذ بها، وإذا شاء الطاعة وأرادها وفعلها أُجرِ عليها.
فهو مخير ومسير، وتعبير السنة(ميُسَّر)، وهكذا تعبير الكتاب، قال تعالى: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى[12]، والتعبير بمُيسَّر أولى من مسير كما جاءت به السنة، ويُقال: مسير كما قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ[13]، فهو سبحانه الذي أعطاه العقل والقدرة على الفعل والعمل، فهو من جهة مسير وميسر ولم يخرج عن قدر الله، ومن جهة أخرى هو مخير وله مشيئة وله اختيار، وكل هذا واقع، وبهذا قامت عليه الحجة، وانقطعت المعذرة، واستحق الثواب والعقاب على أفعاله الطيبة والخبيثة، فالطيبة؛ له ثوابها، والخبيثة عليه وزرها، وبهذا يتضح معنى المُسَيَّر والمُيسَّر ومعنى المخير.
[1] سبق تخريجه.
[2] رواه البخاري: كتاب: صحيح البخاري، باب: فسنيسره للعسرى، رقم(4949)، ومسلم: كتاب: القدر، باب: كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، رقم (2647).
[3] سورة الليل من الآية 5 إلى الآية 10.
[4] سورة التكوير الآية 28 و 29.
[5] سورة المدثر الآية 55 و 56.
[6] سورة الأنفال الآية 67.
[7] سورة النور الآية 30.
[8] سورة المائدة الآية 8.
[9] سورة لقمان الآية 29.
[10] سورة النمل الآية 88.
[11] سورة الأحزاب الآية 35.
[12] سورة الليل الآية 7.
[13] سورة يونس الآية 22.