تقوم تجربة التنمية في ماليزيا على أنها تجربة ناجحة، وأنها تجربة اتفقت إلى مدى بعيد مع مبادئ وأسس الاقتصاد الإسلامي، وإن لم يتم الإعلان صراحة عن هذا الانتماء. فقد اهتمت ماليزيا بتحقيق التنمية الشاملة لكل من المظاهر الاقتصادية والاجتماعية، مع الموازنة بين الأهداف الكمية والأهداف النوعية، مع الاهتمام بهذه الأخيرة؛ وما يدل على ذلك: ـ في مجال التنمية المادية عملت ماليزيا على تحقيق العدالة بين المناطق، بحيث لا يتم تنمية منطقة على حساب أخرى، فازدهرت مشروعات البنية الأساسية في كل الولايات، كما اهتمت بتنمية النشاطات الاقتصادية جميعها، فلم يهمل القطاع الزراعي في سبيل تنمية القطاع الصناعي الوليد أو القطاع التجاري الاستراتيجي، وإنما تم إمداده بالتسهيلات والوسائل التي تدعم نموه، وتجعله السند الداخلي لنمو القطاعات الأخرى. كما اتفقت التنمية الماليزية مع المبدأ الإسلامي الذي يجعل الإنسان محور النشاط التنموي وأداته، فأكدت تمسكها بالقيم الأخلاقية والعدالة الاجتماعية والمساواة الاقتصادية، مع الاهتمام بتنمية الأغلبية المسلمة لسكان البلاد الأصليين من المالاويين وتشجيعهم على العمل بالقطاعات الإنتاجية الرائدة، فضلاً عن زيادة ملكيتهم لها، كما وفرت لأفراد المجتمع إمكانات تحصيل العلم في مراحله المختلفة، وتسهيل التمرين والتدريب ورفع مستوى الإنتاجية، وترتيبات الارتفاع بالمستوى الصحي وتوقعات العمر، فنجحت في تحسين مستويات معيشة الأغلبية العظمى من أفراد الشعب كماً ونوعاً، وخصوصاً مع ارتفاع متوسط الدخل الفردي. كذلك انتهجت ماليزيا إستراتيجية الاعتماد على الذات في الاضطلاع بالعبء التنموي، سواء البشري أو التمويلي، حيث عملت على حشد المدخرات المحلية اللازمة لاستغلال الموارد الطبيعية المتاحة. أيضاً اهتمت ماليزيا بتجربة تحسين المؤشرات الاجتماعية لرأس المال البشري الإسلامي، سواء كان من أهل البلاد الأصليين أو من المهاجرين إليها من المسلمين الذين ترحب السلطات بتوطينهم، كما أسهم ارتفاع نصيب المالاويين في الملكية المشتركة للثروة في القطاعات الإنتاجية المختلفة، فضلاً عن القطاع المالي والمصرفي، إلى توفير رؤوس الأموال المحلية اللازمة لمختلف أوجه التنمية بصورة متزايدة والتي أسهمت في الإقلال من الديون الخارجية، وما يترتب عليها من زيادة عبء الدين الذي يرهق الموارد اللازمة للتنمية، فضلاً عن العواقب الوخيمة اجتماعياً وسياسياً؛ فطبيعة دور الدولة في النشاط الاقتصادي في ماليزيا تتم من خلال القنوات الديمقراطية للشورى المتمثلة في الأحزاب الماليزية المتعددة التي توفر أوسع مشاركة ممكنة للناس في مناقشة جميع القضايا المتعلقة بالمصلحة العامة، ومتابعة السلطة التنفيذية في تطبيقها الجاد لجميع السياسات التي يتم الموافقة عليها. التزمت الحكومة الماليزية بالأسلوب الإسلامي السليم في ممارسة مختلف الأنشطة الاقتصادية وتوجيه الموارد، ففي حين عملت على تحويل ملكية مختلف المشروعات الاقتصادية إلى القطاع الخاص، فقد نمت مسئولية الأفراد وأشركتهم عملياً في تحقيق الأهداف القومية، واحتفظت بسهم خاص في إدارة المؤسسات ذات الأهمية الاجتماعية والإستراتيجية؛ لعدم التخلي عن دورها في ممارسة الرقابة والإشراف عليها، ومن ناحية أخرى أسهمت الحكومة في التقليل من الآثار السلبية للتحول إلى القطاع الخاص عن طريق منح تأمين ضد البطالة للعاملين في الخدمات التي تم تحويلها إلى القطاع الخاص، مع وعدهم بأجور أعلى في المدى القريب، ولكن يؤخذ على الحكومة تجاهلها للاعتراضات الإسلامية على تحويل الموارد الطبيعية العامة إلى القطاع الخاص بدلاً من إبقائها في إطار الملكية المشتركة للمسلمين تحت مسئولية الدولة ورقابتها. إن التجربة الماليزية كانت إسلامية من دون وجود لافتة تحدد هذا الانتماء من خلال أن التجربة لفتت أنظار الدارسين الذين تنبئوا بتحول القوة السياسية الإسلامية من الشرق الأوسط إلى جنوب آسيا، حيث يتوقع أن يؤدي الأخذ بالابتكارات التكنولوجية وتحقيق معدلات التنمية العالية، إلى تحويل دولة صغيرة سريعة النمو مثل ماليزيا، إلى أهم وجود إسلامي في العالم على الإطلاق. التجربة تنقصها الزكاة: إن تبوُّء ماليزيا لدور بارز في قيادة العالم الإسلامي أمل يمكن أن يصبح حقيقة واقعة إذا ما استكملت الحكومة الماليزية مسئولياتها، فإلى جانب اهتمامها بنشر الدين الإسلامي والدعوة لمختلف أركانه من تشجيع على الذكر وحفظ القرآن الكريم وإقامة المساجد، وإحياء فريضة الصوم في رمضان، وتكوين مؤسسة الادخار لتيسير أداء فريضة الحج لأكبر عدد من أبناء البلاد، فإن على الدولة أن تهتم بتطبيق فريضة الزكاة، وخصوصاً مع ارتفاع مستويات الدخول الفردية وتزايد الثروات التي تجب فيها الزكاة، ذلك مع حماية الثروات الطبيعية التي وهبها الله تبارك وتعالى لماليزيا، وعدم تعرضها للإبادة والتدمير. حضور إسلامي ولكن...!! إن تجربة ماليزيا في التنمية لها خصوصية من حيث استفادتها من الظرف التاريخي للصراع العالمي بين الاتحاد السوفيتي ـقبل سقوطهـ والولايات المتحدة الأميركية؛ حيث ساندت أميركا دول هذه المنطقة من الناحية الاقتصادية لتكون هذه نموذجاً مغرياً لدول المنطقة التي ركنت إلى الاتحاد السوفيتي السابق والكتلة الاشتراكية، ولكن لابد أن نذكر هنا أن ماليزيا طوعت هذا الاتجاه لتبني نفسها وتوجد اقتصاداً قوياً، حتى مع سيطرة اقتصاديات العولمة وجدنا أن ماليزيا شاركت فيه بقوة، ولكن من منطق المشاركة أخذاً وعطاءً وليس مجرد الحضور كما فعلت كثير من بلدان العالم النامي، وبخاصة البلدان الإسلامية، وبالتالي فإن تكرار نموذج ماليزيا في بلدان العالم الإسلامي لابد أن يأخذ في الاعتبار الظروف التاريخية المصاحبة لهذه البلدان وكذلك وضعها في طبيعة الخريطة السياسية الدولية حالياً، وإن كان يؤخذ على هذه البلدان أنها لم تستفد بشكل مباشر من فترة النظام العالمي ثنائي القطبية. أما عن تجربة التنمية في ماليزيا ومدى ارتباطها بالإسلام؛ فيُذكر أن فكر رئيس الوزراء الماليزي قائم على أن النظام الإسلامي لا يوجد به نموج للتنمية ولكن توجد بالإسلام مجموعة من القيم والأخلاق يستفاد منها في ترشيد النظام الرأسمالي، مثل حث المسلمين على العمل والإتقان والمساواة والعدل والتكافل الاجتماعي، مع الأخذ في الاعتبار أن شخصية رئيس الوزراء الماليزي "مهاتير محمد" من الشخصيات النادرة التي تتمتع بحس سياسي متفرد يتسم بالوطنية والوعي بالأوضاع السياسية العالمية. ومع ذلك نجد أن ماليزيا تفردت في بعض التطبيقات الإسلامية في المجال الاقتصادي من وجود شركات للتأمين تعمل وفق المنهج الإسلامي ووجود بعض الآليات في سوق المال تعمل وفق المنهج الإسلامي وأيضاً وجود جامعة إسلامية متطورة في ماليزيا تتفاعل مع متطلبات العصر و تخدم قضايا التنمية، كما أن ماليزيا تفردت أيضاً بوجود صندوق الحج القائم على توفير مدخرات الأفراد المشاركين فيه، فيقومون بإيداع الفائض من مدخراتهم فيه، ومنذ أعمارهم المبكرة لكي يؤدي هؤلاء الأفراد الحج عند قرب استكمالهم لتكاليف الحج، ولا شك أن هذه الأموال يتم الاستفادة منها في توظيفها في عمليات التنمية باعتبارها مدخرات إلى حد ما طويلة المدى، كما إن انفصال سنغافورة كان حافزاً على أن يُثبِّت المالاويون ذاتهم، وأن يهتموا بالتنمية. أما عن الملاحظات على تجربة التنمية الماليزية فهناك نقطتان رئيسيتان تعيبان التجربة الماليزية وهما: ارتفاع معدلات الاستيراد كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي, والأخرى ارتفاع نسبة الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الناتج المحلي الإجمالي؛ مما قد يعرض التجربة لوجود مؤثرات خارجية تجعل الاقتصاد الماليزي يتأثر بها سلباً.