التقبيل والحنان

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : د مصطفى السعدني | المصدر : www.maganin.com

وكما أن اللعب حق لهم فإن الحنان والعطاء والرحمة من حقوقهم. عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قَبَّل رسول الله الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلْتُ منهم أحداً، فنظر عليه رسول الله ثم قال من لا يَرْحَم لا يُرْحَم.

عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء أعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: أَتُقَبِّلُون الصبيان فما نقبلهم، فقال النبي: "أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟!"

حب الطفولة كلها

إن من الجميل أن نحب أطفالنا، ولكن الأجمل أن نحب الأطفال كل الأطفال أيضاً، لذا فإن نظرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ترتقي لهذه المرحلة بمعناها الشامل وليس بمعناها المحدود.
عن أنس (رضي الله عنه) قال: رأى النبي النساء والصبيان مقبلين (من عرس)، فقام النبي ممثلاً، فقال: اللهم أنتم من أحب الناس إليَّ، اللهم أنتم من أحب الناس إلي، اللهم أنتم من أحب الناس إلي، قالها ثلاثًا.
عن أسامة بن زيد (رضي الله عنهما) حدث عن النبي أنه كان يأخذه والحسن، فيقول اللهم أحبهما فإني أحبهما.

مدارج الرجال
وإذا كان من السهل على الكثيرين أن يتكلموا مع طفل فإن من الصعب أن يخاطب هذا الطفل بطريقة تناسب عقليته ومداركه وتصوره. ويحاول بعض الآباء أن يعهد إلى ابنه مهمة معينة لا تتناسب مع قدراته، فيضره ذلك أكثر من أن ينفعه وبدلاً من يساعده على إرساء الثقة في نفسه يبدد ثقته في نفسه.

وأن طفلاً ذهبت به أمه زينب بنت حميد إلى رسول الله، فقالت: يا رسول الله، بايعه، فقال النبي: هو صغير، فمسح رأسه ودعا له.
عن البراء قال: استُصْغِرتُ أنا وابن عمر يوم بدر، وكان المهاجرون يوم بدر نيفاً على ستين والأنصار نيفاً وأربعين ومائتين.

الثقة بالنفس والفداء
وربما صنع الصبيان ما لم يصنع الكبار ليس تقصيراً من الكبار بقدر ما هو إعطاء الفرصة والثقة للصغار.
عن عبد الرحمن بن عوف عن جده قال: "بينما أنا واقف في الصف يوم بدر فنظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم؟!، هل تعرف أبا جهل؟، قلت: نعم، ما حاجتك إليه يا بن أخي؟، قال: أُخبِرت أنه يسب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت لأبي جهل يجول في الناس، قلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله فأخبراه فقال أيكما قتله؟، قال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: هل مسحتما سيفيكما؟، قالا: لا، فنظر في السيفين فقال: "كلاكما قتله".

علموهم حب العبادة
ومن الجميل أن يكون لأطفالنا حظ في العبادات التي نتقرب بها إلى الله؛ لتعويدهم عليها ولتعلق هذه اللحظات الخاصة بأذهانهم، حدثنا أبو قتادة قال: "خرج علينا النبي وأمامه بنت أبي العاص على عاتقه فصلى، فإذا ركع وضعها وإذا رفع رفعها"، و"أمامة" هي حفيدته صلى الله عليه وسلم، فهي ابنة ابنته زينب رضي الله عنهم جميعاً.

(قال ابن عباس: توفي رسول الله وأنا ابن عشر سنين، وقد قرأت المحكم)، (وقال: جئتكم من عند النبي حقًّا فقال صلوا صلاة كذا في حين كذا.. فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنا، فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآناً مني؛ لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت عليَّ بردة كنت إذا سجدت تقلصت عني.. فاشتروا فقطعوا لي قميصًا فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص).

تنمية الخيال
ومن الجميل أن يكون لأطفالنا قدرة على التخيل والتصور والأجمل منها أن نتعهد ونستثمر هذا الخيال ونقدره بقدره.

عبد الله بن عمر رضي الله والنخلة:
في الصحيحين: عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أتي بجمار نخلة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من الشجر شجرة مثلها مثل الرجل المسلم لا يسقط ورقها، أخبروني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، وقع في نفسي أنها النخلة، فأردت أن أقول: هي النخلة، ثم نظرت فإذا أنا أصغر القوم سناً، فسكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة"، فذكرت ذلك لأبي عمر بن الخطاب، فقال: لأن تكون قلتها لكان ذلك أحب إلي من كذا وكذا.

وفي هذا الحديث فوائد عديدة منها:
أنه لا يكره للولد أن يجيب بما يعرف بحضرة أبيه والآخرين من وجهاء القوم، وإن لم يعرف الأب ووجهاء القوم الإجابة، وليس في ذلك إساءة أدب من الابن حديث السن.
وفيه فرح الأب بولده عند إدراك ولده ومعرفته لما لا يعرفه الكبار، وتوفيق الابن للصواب.
وهذا كله قمة في تعليم وترسيخ تأكيد الذات في نفوس أبنائنا، فبهذا الهدي الكريم يستطيع أبناؤنا مجالسة الكبار، والتحدث معهم، بل يمكنهم المشاركة بالرأي والإجابة إذا طُلب منهم ذلك؛ وذلك بشرط أن يحترم الأصغر الأكبر؛ وذلك هو ما كان عليه الصحابة الأصغر عمرا من الأدب والحياء نحو الأكبر عمرا منهم؛ حيث كان الصحابة الأصغر عمرا يجلون الأكبر، بل ويمسك بعضهم عن الكلام بين أيدي الأكبر سنا احتراما وتقديرا وإكبارا، وإن كان الكلام والمشاركة المهذبة من صغار السن في مجالس الكبار أولى.

وفيه أيضا إلقاء العالم أو الأستاذ المسائل على طلابه، وتمرينهم عليها، واختبار ما عندهم، وفيه ضرب الأمثال والتشبيه، وفيه ما تضمنه تشبيه المسلم بالنخلة من كثرة خيرها، ودوام ظلها، وطيب ثمرها، ووجود أوراقها على الدوام، وثمرها يؤكل رطباً ويابساً، وبلحاً ويانعاً، وهو غذاء ودواء وقوت وحلوى، وشراب وفاكهة، وجذوعها للبناء والآلات والأواني، ويتخذ من خوصها الحصر والأواني والمراوح، وغير ذلك، ومن ليفها الحبال والحشايا وغيرها، ثم آخر شيء نواها علف للإبل، ويدخل في الأدوية والأكحال، ثم جمال ثمرتها ونباتها وحسن هيئتها، وبهجة منظرها، وحسن نضيد ثمرها، وصنعته وبهجته، ومسرة النفوس عند رؤيته، فرؤيتها مذكرة لفاطرها وخالقها، وبديع صنعته، وكمال قدرته، وتمام حكمته.

ولا شيء أشبه بالنخلة من الرجل المؤمن، إذ هو خير كله، ونفع ظاهر وباطن؛ قد يقذفه بعض الجهلة بأقذع الألفاظ فيرد عليهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وذلك رغم قدرته على القصاص منهم، ورغم اعتزازه بنفسه وتأكيده لذاته، فهو يدفع الأذى عن نفسه دائما بالتي هي أحسن، وكذلك النخلة يقذفها بعض الناس بالحجارة فترد بإسقاطها البلح الشهي عليهم!!!.

وهي الشجرة التي حن جذعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فارقه شوقاً إلى قربه، وسماع كلامه، وهي التي نزلت تحتها مريم لما ولدت عيسى عليه السلام، وقد ورد في حديث في إسناده نظر: "أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم".