أهمية تطور الاستعراف

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : د عبد الرحمن إبراهيم | المصدر : www.maganin.com

لفهم الأطفال علينا ألا نقصر فهمنا على التطور النفسي الجنسي والتطور النفسي الاجتماعي عندهم فقط. فالأطفال لا يقضون كل حياتهم وهم يفكرون فقط بالجنس وبالعدوانية بل يقضون معظم أوقاتهم بحل المشاكل والتفاعل معها وكذلك اكتشاف وتغيير وتعلم كل شيء حول العالم المحيط بهم. هناك بعض الأشخاص يسلّمون بأن هناك دافع ثالث بالإضافة إلى الجنس والعدوانية ويدعى هذا الدافع بدافع السيادة (دافع التنافس، دافع الفعالية)، إن دافع السيادة هذا له علاقة كبيرة بالتطور الاستعرافي وعلينا أن نتفهم بشكل عام مراحل التطور الاستعرافي لكي نعرف كيف نتعامل مع الأطفال وكذلك مع البالغين.

إن مرحلة التطور الاستعرافي ستقرر كيف ينظر الطفل أو البالغ إلى جسده ويتفهم فعاليته الجسدية. وفهم هذه المرحلة من قبل الطبيب هو أمر هام جداً إذا أراد أن يقنع مرضاه الأطفال أو البالغين بالاستجابة للمعالجة الطبية وبالقبول بكل الأمور المؤلمة والخطرة والمهددة التي قد يشملها العلاج.

وأكثر من درس التطور الإدراكي هو عالم النفس السويسري Jean Piaget الذي اهتم بما أسماه بعلم المعرفة الوراثية Genetic Epistemology . ويدرس هذا العلم الطريقة التي يكتسب بها الإنسان المعرفة Kemowledge . ولقد اهتم Piaget بالتطور الذكائي Intellectual Development عند الأطفال وبدأ هذا الاهتمام يظهر حيث كان يحاول وضع اختبارات محددة لقياس الذكاء "IQ" على مجموعة من الأطفال في باريس paris ، فقد اهتم Piaget بالأجوبة الخاطئة التي كان يجيب بها الأطفال رداً على الأسئلة أكثر من اهتمامه بالأجوبة الصحيحة واعتقد أن هذه الإجابات الخاطئة تعطينا فكرة عن طريقة تفكير الأطفال وعن نظرتهم للعالم. ولذلك قضى بقية عمره وهو يدرس هذه الإجابات الخاطئة.

سأعرض باختصار خصائص مراحل التطور الاستعرافي الأربعة وعلاقة هذه الخصائص بالممارسة الطبية العامة.

مراحل التطور الاستعرافي
المرحلة الحسية الحركية (من الولادة إلى عمر السنتين):
المرحلة الأولى التي حددها Piaget هي التي دعاها بالمرحلة الحسية أو مرحلة الذكاء الحسي - الحركي. يبدأ الرضيع خلال هذه المرحلة بإدراك غائم نسبياً للعالم المحيط به ولعلاقاته مع الأشخاص في هذا العالم. يتمم في هذه المرحلة مهمتين أساسيتين المهمة الأولى هي أن يكوّن الطفل فكرة أولية عن السببية أو التفكير السببي Causai Thinking. نستطيع أن نتلمس ذلك في مهد الطفل عندما يتحرك الرضيع في سريره ويتحرك أيضاً شيء قابل للحركة معلق بالسرير عندها يكرر الرضيع الحركة لكي يتحرك ثانية ذلك الشيء القابل للحركة وهذا ما سماه Piaget بالاستمتاع بجعل المشاهدة المبهجة مستمرة Making Intersting Sights Last إن النقطة الهامة التي أشار لها Piaget كما أشار لها كثيرون من بعده أنه يجب ألا ينظر إلى الرضيع على أنه منفعل، أو عضو مستقبل، يتشرب المعرفة كالإسفنج لأنه فعال ومتفاعل مع محيطه، يطلب خبرات وتجارب جديدة، يطلب تحريض وحث أكثر ويتعلم أن أفعاله لها آثار سببية على محيطه.

أما المهمة الثانية فتسمى إخضاع الموضوع The Conquest of The Object حيث يحقق الرضيع خلال هذه المرحلة بما يسمى باستمرار الموضوع Object Permanence أو ثبات الموضوع Object Constancy فالطفل يصل إلى مرحلة من التطور الاستعرافي الذي يكوّن فيها تصور ذهني داخلي Internal Mental Representation للأشياء والأشخاص في العالم الخارجي. فمثلاً يكون كل شيء بعيداً عن النظر بعيداً عن الذهن بالنسبة للرضيع تحت السنة الأولى من العمر، فإذا أخذ أحدهم "خشخيشة" طفل عمره ستة أشهر وخبأها في مكان ما بعيداً عن نظر الطفل فإن الطفل يبحث عنها بل سيبدو مندهشاً فقط ثم ينتقل إلى فعالية أخرى. هذا يعني أن الخشخيشة لم يعد لها أي وجود بالنسبة لهذا الطفل.

كذلك عندما تبتعد الأم عن نظر طفلها عندها ستصبح بعيدة عن ذهنه. وهذه الأمور يجب ألا تغيب عن الذهن عند إدخال الأطفال إلى المشفى، فالطفل في هذه المرحلة ليس لديه أي تصور ذهني Mental Representation لأمه أو لديه تمثيل ضبابي إذا جاز التعبير، لذلك يجب على الطبيب الذي ادخل الطفل إلى المشفى أن يبقي صورة الأم حية في ذهن الطفل المريض من خلال طرق عدة كاستعمال الطبيب لصور الأم وأفراد عائلته الآخرين أو يُحدّث الطفل عن أمه أو يحضر أشياء مألوفة من المنزل، كما أن اتصالات هاتفية متكررة مع الطفل حتى ولو كان عمره أقل من سنتين، ولهذا فائدة كبيرة. والأهم من ذلك كله هو السماح لأهل الطفل أن يبقوا معه في المشفى أطول وقت ممكن.

فالحقيقة أن الطفل يؤسس تدريجياً من خلال التفكير السببي البدائي وكذلك من خلال تطور ثبات الموضوع تصورات ذهنية داخلية للأشياء في العالم الخارجي وتصورات ذهنية داخلية لجسده أيضاً.
______________________________

(Jean piaget (1896-1980: سويسري ولد في نيوشاتل لأم تعاني من أزمات نفسية وهذا سر اندفاعه لدراسة العلوم النفسية حتى غدا نابغة في علم نفس الطفل وعلم النفس التربوي، ومؤلفاته نجاوزت 100 مؤلف بين كتاب ومقال وجميعها تعتمد على الملاحظات والتجارب التي كان يجريها على طفلتيه خلال مراحل عمرهما، فكان يدوّن وزوجته ملاحظات على الطريقة التي يكتشفان بها البيئة ويتعاملان بها مع الأشياء، ويتفهمان طريقة عملها، ويحكمان بها على ما يشاهدان، والمنطق الذي يلجآن إليه في ذلك، ولغتهما، وتطور ذلك كله عندهما في مراحل تطور عمرهما.. وانصرف piaget إلى البحث في السلوك الفكري والمعرفي كما يظهر في الطفولة والمراهقة أي كان مهتماً بدراسة العلاقة بين الفرد كعارف وبين العالم كموضوع للمعرفة.. وظهر شغفه وانصرافه إلى الأبحاث النفسية بعد تخصصه في العلوم وحصوله على الدكتوراه في علم الحيوان، ثم التحق بأحد المختبرات النفسية في زيورخ ليتدرب فيه، وسافر إلى باريس ليدرس بالسوربون علم نفس الشواذ وعلم النفس التجريبي، وكان تلميذاً لـPierre Janet و Leon Brunswik، لكنه تأثر أكثر بـ تيودور سيمون وعملاً معاً بدراسات على تطور ونمو الاستدلال عند أطفال المدارس من مختلف الأعمار. ومن هنا تكونت لديه الاهتمامات التي رافقته طيلة حياته بالبحث في مظاهر النمو الحركي والحسي والوجداني والعقلي والمعرفي عند الأطفال.

ومن أجل ذلك دعاه Edward Claparede (1873-1940) عالم النفس الشهير الذي كان يشغل منصب السكرتير العام للمؤتمر الدولي لعلم النفس وأستاذ علم النفس التجريبي في جامعة جنيف ليقوم بأبحاث مماثله على التفكير في معهد روسو بجنيف الذي أصبح فيما بعد معهداً للعلوم التربوية وعُيِّن أستاذاً لعلم النفس في جامعة جنيف ثم استاذاً لعلم نفس الطفل في جامعة السوربون، وأسس مركزاً للدراسات المعرفية التكوينية، وانتخب رئيساً للمكتب الدولي للتربية ومساعداً للرئيس العام لليونسكو.. من أشهر دراساته( مفهوم الطفل عن العدد، مفهوم الطفل عن الحركة والسرعة، مفهوم الطفل عن المكان، مفهوم الطفل عن الهندسة، النمو المبكر للمنطق عند الطفل، بناء الواقع عند الطفل، بدايات الذكاء عند الطفل، اللعب والأحلام والمحاكاة في الطفولة، مفهوم الأطفال عن السببية الفيزيائية، الحكم والاستدلال عند الطفل، الحكم الأخلاقي عند الطفل، مفهوم الطفل عن العالم، تطور الإدراك من الطفولة الى الشباب، اللغة والتفكير عند الطفل، نشأة الذكاء، نمو التفكير المنطقي، المنطق وعلم النفس، الآليات النفسية للإدراك، مدخل الى علم المعرفة التكويني، التركيبية،...الخ.

ويميز piaget في مراحل عمر الطفل على النحو التالي فيتحدث عن المرحلة الأولى من الولادة وحتى السنتين يعتبرها مرحلة الذكاء الحسي الحركي، فبشكل عام سلوك الطفل بعد الولادة ذو طابع انعكاسي، فكلما استُثير عضو حس عنده صدرت له استجابة حركية تلقائية، وعندما يبلغ الثانية من العمر تغدو لديه مجموعة من الخبرات الحسية الحركية التي يحقق بها التكيف مع البيئة فعندما يقترب شيء ما اقتراباً شديداً من نظره على سبيل المثال فإن الطفل يغلق عينيه لأول مرة، ويتعلم إغلاق عينيه عند اقتراب أي شيء زيادة عن اللزوم من عينيه، ويدمج هذه الخبرة وتغدو في مخزونه السلوكي.. والمرحلة التالية هي مرحلة التفكير قبل أن يصبح التفكير في شكل عمليات وفيها يتعامل الطفل مع البيئة رمزياً فالأشياء ليست أشياء على الحقيقة( أي لها وجودها الحقيقي) وإنما كل شيء في البيئة يتعامل معه الطفل من وحي أن هذا الشيء مباح له ومسسموح به ومتاح، والطفل في هذه المرحلة يرى في العالم كله نفسه والعالم هو ما يراه فيه، ولا يعي أنه ذاتي في نظرته للعالم ولا يدرك مسألة وجهات النظر المختلفة للأشياء ولا يعرف النقد ولا أن يكون منطقياً مع نفسه والأشياء أو واقعياً في تفكيره،.. وهو عندما ينظر إلى الأشياء لا يثيره منها إلا شيء وحيد يركز عليه نظره وتفكيره ويتجاهل كل ما عداه، وفي هذه المرحلة لايعرف الطفل مرحلة معاودة النظر أو التفكير في الأشياء وإنما يمضي قدماً في التفكير ولا شيء غير ذلك، وهذا هو وضع أطفال ما قبل المدرسة، فلا يستطيعون معاودة التفكير من البداية في المشكلة إلا في المرحلة التالية وهي مرحلة العمليات العيانية أي المرحلة التي ينتقل فيها الطفل بواسطة تمثل الخبرات وتنظيمها إلى أن يستطيع تصنيف الأشياء الى مجموعات، وأن يدركها كأشياء منفصلة عنه، وأن يتعامل معها، ولا يثير اهتمامه منها مظهر أو سمة وحيدة فيها فقط، وإنما ينصرف بتفكيره إليها ككل، ويتعلم أن يفكر في الموقف ككل وأن يعاود التفكير فيه إذا وجد أن تفكيره الأول لم يوصله إلى حل.. ومن ثم يلي ذلك مرحلة العمليات الشكلية وفيها يكتسب الطفل نظرة بعدية للأشياء ويغدو قادراً على افتراض الحلول واختبارها أي التفكير الشكلي يكون المرادف للاستدلال العلمي وفي هذه المرحلة يكون الطفل حقق لنفسه ما يدعوه piaget بنية أو تركيبة المعرفة الجمعية الشبكية أي تكون المعارف على شكل مجموعات تكون ما يشبه الشبه ويهتدي بها في تفكير في المستقبل وفي سلوكه وهي جمع لأفكاره ومعارفه الخاصة بكل شيء والتي تنتسب لكل الأشياء. (المؤلف).