مقدمة : " قوانين لا بد من السير عليها " لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي . بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم أغننا بالعلم ، وزينا بالحلم ، وأكرمنا بالتقوى ، وجملنا بالعافية . مقدمة : 1 – الإنسان عقل وقلب : أيها الإخوة الكرام ، لأن الإنسان هو المخلوق الأول المكرم المكلف فقد أودع فيه قوة إدراكية . لذلك في الإنسان عقل يدرك ، وقلب يحب ، العقل يبحث عن الحقيقية ، والقلب يشعر ويحب ، البشرية من آدم إلى يوم القيامة لها إنتاج عقلي ، وإنتاج شعوري ، أفكار ومشاعر ، هذا الإنتاج العقلي والشعوري يقسمه العلماء إلى أقسام ثلاثة ، علمٌ ، وفلسفةٌ ، وفن ، فالعلم ما هو كائن ، والفلسفة وما يجب أن يكون ، والفن ما هو ممتع ، فكل إنتاج البشر من آدم إلى يوم القيامة فلا يزيد على علم ، وفلسفة ، وفن . 2 – الدين منتج ليس أرضياً : لكن الدين منتج ليس أرضياً ، ليس تراثاً ، ليس من إنتاج البشر ، الدين من الله ، وحي من السماء ، هناك فرق جوهري بين الوحيين الكتاب والسنة ، والإنتاج العقلي والشعوري للبشرية . 3 – ما هو العلمُ ؟ لكن نستعير بعض مصطلحات العلم ، ما هو العلم ؟ قالوا : العلم هو الوصف المطابق للواقع مع الدليل ، هذا تعريف مختصر ، وهناك تعريف موسَّع ، العلم علاقة ثابتة بين متغيرين ، تطابق الواقع ، وعليها دليل ، ومقطوع بها ، هذا هو القانون . 4 – ما هو القانون ؟ القانون : علاقة ثابتة ، بين متغيرين ، تطابق الواقع ، مطوع بها ، عليها دليل ، فإن لم تطابق الواقع كانت الجهل ، وإن لم يكن عليها الدليل كانت التقليل ، إن لم يكن مقطوع بها كان الوهم ، والشك ، والظن ، هذا تعليق القانون . الآن معنا سؤال : هذا القرآن الكريم الذي بين أدينا ، وهو من عند الله ، يا ترى التعامل معه تعامل علمي أم غير علمي ؟ 5 – القوانين القرآنية ثابتة ومطردة والتعاملُ معها سهل : هناك قوانين ، وعلاقة ثابتة بين شيئين ، فإن كان في القرآن قوانين ثابتة فالتعامل معها سهل جداً ، الآن الحضارة البشرية كلها قائمة على قوانين ، علاقات ثابتة ، مطردة وشاملة . في سلسلة هذه الدروس سوف بفضل الله عز وجل وبتوفيقه نتناول هذه القوانين في القرآن الكريم ، التعامل مع القرآن بقوانينه شيء مريح جداً ، لكن المسلمين اليوم لا يتعاملون مع القرآن كقوانين ، يتعاملون معه ككتاب مقدس ، فيتمنّون ، وليس التعامل مع القرآن بأماني الإنسان ، بل بتطبيقه للقوانين . أيها الإخوة ، الأمر يحتاج إلى أمثلة : لو أن التعامل مع القرآن تعامل غير تعامل علمي فالمشكلة كبيرة جداً . للتوضيح : أحياناً تكون موظفًا بمؤسسة ، وفيها نظام دقيق ، ووسائل للترقية ، ووسائل زيادة الراتب ، وعقوبات ، ولكل إنسان صفحة ، فالتعامل العلمي مع مدير المؤسسة ، أو مع أنظمة المؤسسة مريح جداً ، أما إذا كان التعامل مزاجيًا فذلك شيء متعب جداً . أنا أطمئنكم أن الله سبحانه وتعالى حينما قال :
( سورة الإسراء ) .
في القرآن قوانين ثابتة لا تتغير ، ولا تتبدل ، ولا تجمد ، ولا تعطل ، ولا تعدل ولا يضاف عليها ، ولا يحذف منها . لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ به المسلمون في أيام تخلفهم لم يتعاملوا مع هذه القوانين ، تعاملوا مع القرآن ككتاب مقدس ، وتمنوا على الله الأماني ، وقد قال الله عز وجل :
( سورة النساء الآية : 123 ) .
نحن في اللغة عندنا ترتيب شرطي ، فعلان مع أداة شرط ، كقولك : من يجتهد ينجح ، فمن :اسم شرط جازم ، له فعل شرط ، وله جواب شرط ، وجواب الشرط لا يقع إلا إذا وقع الشرط ، هذا قانون . فأحياناً تأخذ القوانين عبارة شرطية ، ﴿ لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ دقق مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ به ﴾ . هذا قانون ، فالذي يتوهم أنه يمكن أن يعمل سوءاً من دون أن يجزى به فهو واهم ، وهو جاهل ، وقد تعامل مع القرآن تعاملا ضبابيا ، تعاملاً غير علمي . فالمسلمون ما لم يعرفوا هذه القوانين ، وما لم يقدموا المقدمات ، حتى يأخذوا النتائج ، أما بلا مقدمات فلن يأخذوا النتائج . طبعاً هذا الدرس الأول درس تمهيدي وتعريفي بهذه السلسلة من الدروس التي سوف نتابعها إن شاء الله . من قوانين القرآن المطّردة : 1 – إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ مثلاً : أحد هذه القوانين :
( سورة الرعد الآية : 11 ) .
مستحيل وألف ألف ألف مستحيل أن يخرج المسلمون من محنتهم ، ومن تكالب الأمم عليهم ، ومن قهرهم ، ومن إفقارهم ، ومن إضلالهم ، ومن إفسادهم ، إلا إذا غيروا ، فإن لم يغيروا فإن الله لا يغير ما بهم ، وأي شيء يفعلونه من أجل أن ينتظروا تغييراً ، أو معجزة ، أو نصراً بلا ثمن فهم واهمون ، وغافلون . ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ . أنا أتمنى عليكم أن تتبعوا هذه القوانين ، نحن اخترنا لكم في هذا الشهر ثلاثين قانونًا من قوانين القرآن الكريم ، تماماً كقوانين الفيزياء ، المعادن تتمدد بالحرارة ، فإن لم تدع فاصل تمدد بناء سوف يتصدع . فهذا القانون ثابت ، لا يتغير ، لا يعطل ، لا يبدل ، لا يعدل ، لا يضاف عليه ، لا يحذف منه ، لا يجمد ، فإن لم تعبأ به ، وإن لم تهتم به واقع بك لا محال . عندنا في الفيزياء قانون السقوط ، إذا ألقى الإنسان بنفسه من الطائرة فهو كتلة ، هذه الكتلة في سقوطها لها قانون ، فيها تسارع بدافع الثقل ، وبدافع الجاذبية ، فإذا ألقى الإنسان بنفسه من الطائرة من دون مظلة فبحسب قانون السقوط هناك تسارع شديد يجعله إذا وصل إلى الأرض يفارق الحياة ، وإذا صدّق هذا الإنسان هذه القانون أو لم يصدّقه فالقانون واقع به ، وإذا عبأ به أم لم يعبأ به فهو نافذ فيه . لذلك التعامل مع كتاب الله تعاملا علميا مريح جداً ، هذا قانون : ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ . 2 – وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا
( سورة الطلاق ) .
في أي زمان ، في أي مكان ، في أي عصر ، في أي مصر ، في أي ظرف صعب ، في دول فقيرة أو غنية ، في دول ذات ثروات طائلة أو بلا ثروات ، في وضع صعب أو وضع سهل ، ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ﴾ ، هذا قانون ، وأي واحد منكم ، وأنا معكم ، فمَن اتقى الله في أي مجال رأى الفرج رأى اليسر ، ورأى التوفيق ، ورأى النصر ، ورأى التأييد . البطولة أن تكتشف قوانين هذا الكتاب ، والبطولة أن تأخذها كما تأخذ قوانين الفيزياء ، هناك مقدمة . هناك نتيجة ، هناك فعل شرط ، هناك جواب شرط ، لا يأتي جواب الشرط إلا إذا وقع فعل الشرط . 3 – قانون العداوة والبغضاء : أيها الإخوة ، مثلاً : قانون العداوة والبغضاء :
﴿ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ .
4 – قانون الحياة الطيبة : مثلاً : الحياة الطيبة حياة الأمن ، حياة الراحة ، حياة السكينة ، حياة الاستقرار ، حياة التفاؤل ، حياة السعادة ، حياة السلامة ، هذه حياة طيبة ، الكلمة الطيبة تجمع كل هذه الصفات ، قال تعالى :
( سورة النحل الآية : 97 ) .
والله أيها الإخوة ، لزوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين ، فتعاملْ مع كتاب الله على أنه قوانين ، وإذا قرأت كتاب الله حاول أن تكتشف هذه القوانين ، هي قوانين كثيرة جداً ، اخترت لكم بفضل الله وتوفيقه ثلاثين قانوناً ، في كل درس نأخذ قانونا أو أكثر ، أشرح لكم هذه القوانين بتوفيق الله إن شاء الله . 5– قانون الحياة الضنك : مثلاً : الحياة الصعبة ، الضيق ، الألم ن الإحباط ، اليأس ، التشاؤم ، الضجر ، هذا قد يوصل للانتحار .
( سورة طه ) .
أعطيكم نماذج من هذه القوانين ، ومستحيل وألف ألفِ ألف مستحيل أن يكون الإنسان معرضا عن الله عز وجل ويحيى حياة طيبة ، هذا قانون ، فأنت اقرأ القرآن ، الله عز وجل أرادنا أن نتعامل مع كتابه تعاملاً علمياً ، قال لك : ﴿ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ ، ﴿ وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ﴾ ، فحينما نقرأ هذه الآيات ، واستخرجناها وكتبناها على دفتر ، وتلوناها كثيراً ، وتعاملنا معها كقوانين نفلح . في أيّ بلد ، وأي عصر ، وأي مصر ، بأي سن ، بأي وضع ، في مدينة ، في قرية ، أنت ابن إنسان غني ، ابن إنسان فقير فالأمر سواء . من لوازم القوانين القرآنية الإيمانُ بأن الأمر بيد الله : الأمر بيد الله ، و من لوازم هذه القوانين أن تؤمن أن الأمر بيد الله .
( سورة فاطر الآية : 2 ) .
أيها الإخوة ، ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك .
( سورة الأنفال الآية : 17 ) .
حينما ترى أن يد الله تعمل وحدها ، وأن الأمر كل بيد الله ، وأنه لا معطى إلا الله ، ولا مانع إلا الله ، ولا رافع إلا الله ، ولا خافض إلا الله ، ولا معز إلا الله ، ولا مذل إلا الله تتجه إليه وحده ، وحينما تؤمن أنه مستحيل وألف ألفِ ألف مستحيل أن تطيعه وتخسر ، وأنه مستحيل وألف ألفِ ألف مستحيل أن تعصيه وتربح ، وأنه : (( من أصبح وأكبر همه الآخرة جعل الله غناه في قلبه ، وجمع عليه شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح وأكبر همه الدنيا جعل الله فقره بين عينيه ، وشتت عليه شمله ولم يؤتيه من الدنيا إلا ما قدر له )) .
( أخرجه ابن ماجة عن الترمذي ] .
حينما تقرأ هذا الأثر القدسي . (( ما من عبد يعتصم بي دون خلقي أعرف ذلك من نيته فتكيده السموات بمن فيها إلا جعلت له من بين ذلك مخرجا ، وما من عبد يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السموات بين يديه )) .
[ رواه ابن عساكر عن كعب بن مالك ] .
اقرأ هذه القوانين إنْ في كتاب الله ، وإنْ في سنة رسول الله ، وتعامل معها ، لكن ما الذي يحصل ؟ من لوازم القوانين القرآنية الإيمانُ بأن الأمر بيد الله : إن الإنسان الذي لا يقرأ هذه القوانين ، ولا يعبأ بها ، ويقول : يا رب عليك بهم ، فإنهم لا يعجزونك ، يا رب دمرهم ، يا رب اجهل تدميرهم في تدبيرهم ، يا رب اجعل الدائرة تدور عليهم ، وهم يزدادون قوة ، قد تقول أحيانا : الله عز وجل لا يستجيب لهذا الإنسان . مثلاً : وضعت الدولة كلية الطب لتخريج الطلاب أطباء ، كلية الطب تحتاج إلى علامات معينة ، مثلاً 235 ، في سبع سنوات سنة تُدّرَّس علوم عامة ، سنة تشريح وصفي ، سنة فيزيولوجيا وظائف الأعضاء ، سنة علم الأمراض ، سنة علم الأدوية ، وسنة تطبيقية ، هذا الطريق الوحيد كي تكون طبيبا ، لكن أحدهم جاء وما أعجبه هذا الترتيب ، لا معه شهادة ثانوية ، ولا علامات ، ولا معه كفاءة ، لكن له رغبة أن يقرأ بعض المجلات الطبية ويقول : يا رب اجعلني طبيبا ، مهما دعوت فلن يسمح لك أن تكون طبيبا ، لأن هناك طريقا إن لم تسلكه فلن تنال الذي تريده . من لوازم القوانين القرآنية الطاعة وعدم المعصية : تعامل مع الله بهذه الطريقة ، المسلمون يقيمون على معاصيهم ، وتقصيرهم ، يأكلون المال الحرام ، يكذبون ، يغشون ، يفعلون كل الموبقات ، فإذا جاؤوا إلى المسجد قالوا : يا رب انصرنا على أعدائنا ، يا رب أنت الناصر ، الدعاء يحتاج إلى مقدمات ، لئلا نقع في الإحباط ، لئلا نتوهم أن الله تخلى عنا ، لئلا نتوهم أن الله لا يستجيب لها ، لا بد من أن نأخذ بهذه القوانين ، لا بد من أن نهتم بها ، لا بد من أن نتأدب معها ، حتى نقطف ثمارها ، هذا كلام دقيق ، وأسأل الله جل جلاله أن يلهمنا الصواب ، وأن نقرأ كتاب الله بهذه الطريقة . خاتمة : رجل من علماء المسلمين التقى بأحد خلفاء بني أمية ، قال له : ادعُ لي ، صدقوا أنه ما ألتقي بإنسان إلا ويقول لي : ادعُ لي ، أنا والله أدعو له ، وأتأدب معه ، لكن في أعماق أعماق نفسي أقول : لو أنه استقام على أمر الله لا يحتاج إلى دعائي ، فهذا الخليفة قال لهذا العالم : ادعُ لي ، فقال له : " لا تظلم ، وأنت لست محتاجاً إلى دعائي " . أقول لكم كلاما دقيقا : المسلمون الآن يرغبون بعلاقات غير صحيحة ، كأن يقول لك أحدهم : ادع لي بأن تتزوج ابنتي ، ابنتك سافرة ، ادع ليصلي ، وهو ما نشأ على الصلاة ، وما علمته الصلاة ، وما اعتنيت به . هناك قوانين ، نريد كلمة تقولها ، أو دعاء تقوله تحل كل مشاكلك ، هذا فهم أسطوري للدين ، هذه أساطير ، الدين علم ، فما لم تقدم المقدمات فلن تقطف النتائج . وإن شاء الله تعالى نتابع