( سورة الصف : الآيتان 8 ، 9 )
التساؤل عن ترتيب سور القرآن الكريم : هل تم بالوحي أم باجتهاد من الصحابة ؟ جاء في وقت متأخر , بعد الجمع الثالث للقرآن الكريم والذي تم في عهد الخليفة عثمان بن عفان – رضي الله عنه – سنة 25 ه . ( جمع القرآن ثلاث مرات : إحداها بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم , والثانية بحضرة أبي بكر, والجمع الثالث هو ترتيب السور في زمن عثمان على النحو الذي وصلنا ) (1) ورغم الاتفاق على أن ترتيب آيات القرآن توقيفي ( من عند الله ) فقد اختلف العلماء في ترتيب سور القرآن على ثلاثة أقوال . (2) وظلت هذه الأقوال قائمة حتى يومنا هذا , إذ لم يستطع أي فريق أن يحسم المسالة لصالحه بشكل نهائي . وقد أدى ذلك إلى تحول مسالة ترتيب القرآن إلى مسألة خلافية ( موضع اختلاف بين العلماء ) فمسالة ثانوية- عند البعض - لا أهمية لها , لأنه لن يترتب عليها زيادة أو نقصان في كتاب الله , فسواء أكان ترتيب سور القرآن توقيفيا ( من عند الله ) أو اجتهاديا ( من الصحابة ) وسواء أكان عدد آياته كذا أم كذا فالقرآن هو القرآن محفوظ من أي تحريف مهما كان , بتعهد من الله .. وبدليل الآية :
( سورة الحجر 15 : 9 ) وكان من الطبيعي وهذه الحال أن ُيستبعد ترتيب القرآن من مجال الاهتمام . ______________________________________________ ( 1 ) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي : ج 1 ص 130 . ( 2 ) منهل العرفان للزرقاني : ج1 ص 353 . ومن غير المعقول أن يذهب احد إلى القول بإعجاز القرآن في ترتيبه أوفي رسمه في هذه المرحلة في ظل تضارب الآراء واختلافها وإغلاق باب الاجتهاد غير المعلن . ولا يخفى أن استبعاد الترتيب من دائرة الاهتمام ليس سببه أن هذه المسالة لا أهمية لها , السبب الحقيقي هو عدم امتلاك أي من الآراء في مسألة ترتيب القرآن من قوة الأدلة ما يجعل الأخذ به أمرا مأمونا , وما قد ينتج عن ذلك إذا ما تبين فيما بعد خلافه , ولعل السلامة في هذه الحال الإبقاء على الآراء المتضاربة كلها دون الجزم بواحد منها على وجه اليقين , وبذلك نتجنب الوقوع في مأزق التراجع عن رأي ما ثم الأخذ بسواه . ولا يخفى أن استمرار الأمور على هذا الحال يعني التوقف في هذه المسالة عند نقطة ثابتة لا يمكن تجاوزها, وما يترتب على ذلك من حرمان المسلمين من حقيقة ترتيب القرآن وبقائها غائبة زمنا جديدا. ( ولعل هذا ما حصل مع الذين رحبوا بدراسة رشاد خليفة المعروفة وتبين لهم بعد ذلك ما فيها من التحريف والأخطاء المقصودة , مما جعلهم يتخذون موقفا اشد حذرا من أي دراسة مماثلة , قد يصل إلى حد الرفض ) . (1) وإذا كانت مثل هذه النهاية مقبولة لدى المسلمين على علاتها , فهي ليست كذلك بالنسبة إلى غيرهم , فقد وجد فيها الآخرون ( المستشرقون والمشككون وخصوم الإسلام ) منفذا يعبرون منه للنيل من القرآن والطعن فيه وإثارة الشبهات والافتراءات من حوله بدليل الاختلاف وتضارب الآراء وتعددها في _______________________________________________ (1)حينما تقدمت بكتابي : أسرار ترتيب القرآن قراءة معاصرة الصادر عام 1994 لإجازته , حوّل الكتاب من قبل وزارة ا لأوقاف إلى احد المختصين من حملة شهادة الدكتوراة لإبداء الرأي , فنصح الدكتور بعدم نشر الكتاب وإجازته ذلك أنه قد يكون سببا في تقديس الناس للأعداد فيما بعد ...نتيجة هذا الفهم حرمان المسلمين من معرفة حقيقة الترتيب القرآني قرونا طويلة وبقائهم أسرى الاختلافات وتضارب الآراء..) كثير من المسائل المتعلقة بعلوم القرآن , والتي تبدو متعارضة – في نظر الخصوم - مع القول بحفظ القرآن من أي زيادة أو نقصان أو تقديم أو تأخير , ومع القول : انعقد إجماع الأمة على أن ترتيب آيات القرآن كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى وانه لا مجال للرأي والاجتهاد فيه . . . ولعل المدافعين عن القرآن قد وجدوا في التخلص من مسألة ترتيب القرآن وتهميشها مخرجا مما تثيره من إشكالات , وبذلك تجنبهم مواجهة الخصوم وتغلق الباب في وجوههم . ولعل هذا يفسر لنا لماذا لا نجد في المكتبة الإسلامية على آلافها الكثيرة من الكتب كتابا يتحدث عن إعجاز القرآن في ترتيبه على حين أننا نظفر بعشرات الكتب في أهون الأمور . واستمرت هذه الحال إلى وقتنا الحالي .. ومازال هناك من يرفع عصا الاختلاف في وجه كل محاولة تسعى للخروج من أسر هذه الأغلال والانطلاق نحو فهم صحيح لترتيب القرآن . ومنذ وقت قريب بدأت في الظهور دراسات وأبحاث جديدة تؤكد كلها أن ترتيب القرآن توقيفي ( من عند الله ) ورسمه كذلك , ومن الطبيعي أن يكون معجزا , وهذه النتيجة تتناقض تماما مع آراء من ذهب إلى القول بأن ترتيب سور القرآن كان باجتهاد من الصحابة , ومع آراء من ذهب إلى القول أن ترتيب بعض سور القرآن توقيفي وبعضها الآخر اجتهادي. وتتفق مع الرأي الذي ذهب أصحابه إلى القول أن ترتيب السور والآيات ما كان إلا بالوحي , فمن قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم القرآن . ( الإتقان : 1/136) . وإذا كان البعض مازال يتلقى هذه الدراسات بالحذر والشك , وربما بالعداء والرفض أحيانا لا لسبب اللهم لأنها جديدة أو تخالف رأيا راسخا لديه, فالحقيقة التي لا بد أن تظهر واضحة للناس وأن تمكث في الآفاق : أن ترتيب سور القرآن وآياته من أهم وجوه إعجاز القرآن الكريم , وجه لغته الأرقام والأعداد , اللغة العالمية المشتركة بين الناس جميعا على اختلاف أجناسهم ومعتقداتهم . وهو الوجه الذي ادخره القرآن لزمننا هذا , والذي سيجد فيه المسلمون ما يثبتهم ويزيدهم إيمانا بكتاب ربهم وما يردون به على كل ما أثير ويثار الآن حول القرآن من شبهات باطلة . هل من العجيب أن يكون ترتيب كتاب الله معجزا ؟ إن العجيب أن لا يكون .. إننا جميعا حريصون على كتاب الله , وكلنا يعرف ما يتعرض له من حملات التشويه المنظمة والافتراءات الباطلة , عبر وسائل الإعلام المختلفة وفي مقدمتها " مواقع الانترنت " , فإذا ما وجد أحدنا في القرآن ما يدحض كل تلك الشبهات , فهل نرفضه لأن القدماء لم يعرفوه أو اختلفوا فيه ؟ لقد أدى القدماء دورهم على أحسن وجه , جمعوا ودونوا وألفوا وحفظوا إلى الحد الذي جعلنا نعيش عالة على ما خلفوه لنا من تراث عظيم قرونا طويلة , ولكن , ومع اعترافنا بدورهم يجب أن لا نغفل ظروف العصر المختلفة بيننا وبينهم , والتي اتاحت للباحث اليوم من الامكانات والأدوات ما لم يكن متوفرا في عصرهم , وأبسط دليل على ذلك أن في وسع الباحث اليوم باستعمال آلة حاسبة بسيطة أن يجري من العمليات الحسابية في ساعة , ما لو فكر أحد القدماء أن يفعلها لاحتاج إلى عمره كله , وهذا ما يفسر السر في وصولنا في ترتيب القرآن إلى ما لم يصل إليه القدماء . وهنا ملاحظة مهمة : إن اختلاف القدماء في أعداد آيات بعض سور القرآن وما ترتب على ذلك من وجود أكثر من قول في عدد آيات السورة ووصول القرآن إلينا بأعداد الآيات التي هو عليها , واكتشافنا الأدلة الرياضية على صحة هذه الأعداد هو مما يؤكد آن القرآن محفوظ بقدرة الله تعالى, والا لماذا وصلنا بهذه الأعداد دون سواها ؟ . ومثال ذلك : قيل في عدد آيات سورة البقرة : 285 وقيل 286 وقيل 287 آية . ما معنى أن يصلنا القرآن , فيه عدد آيات سورة البقرة 286 آية ( ليس 285 أو 287 ) ونكتشف الكثير من الأدلة التي تؤكد صحة هذا العدد دون سواه , إلا أن يكون القرآن محفوظا ؟ فإذا كنا صادقين في زعمنا الحرص على القرآن فهذا هو القرآن بين أيدينا جميعا , إن في وسع الجميع أن يتأكد من صحة الأبحاث التي تتناول الإعجاز العددي في القرآن بصورة عامة , فإذا وجدها صحيحة , فما حجته في رفضها والتنكر لها ؟ ألا يعني ذلك أنه يتنكر لحقيقة ثابتة وموجودة في القرآن ؟
وبعد , فهذا الكتاب : هو واحد من أربعة كتب تتناول : معجزة ترتيب القرآن الكريم , صدر الأول منها عام 1994 م , تحت عنوان : أسرار ترتيب القرآن الكريم . قراءة معاصرة , وإذا كان الكتاب لم يظفر بما يستحق من الاهتمام في البداية , بسبب طرحه الجديد , فقد تنبه الكثيرون إلى أهميته فيما بعد , وتم نشر أجزاء كثيرة منه على مواقع الانترنت.. ويحمل الكتاب الثالث من هذه الدراسة عنوان : مواقع الحروف وهو غير مطبوع حتى الآن , ويتم نشر مواضيعه حاليا في موقع الأرقام " الانترنت " .
هذا الكتاب : إضافة جديدة إلى جانب الدراسات الأخرى التي تتناول ظاهرة الإعجاز العددي في القرآن , يكشف عن جوانب جديدة – غير مسبوقة - من جوانب هذا الإعجاز والماثل في ترتيب سور القرآن : البناء ( الإطار ) العام . وقد جعلته خمسة فصول وخاتمة : الفصل الأول : وموضوعه جديد غير مسبوق مما يعني إضافة جديدة للدراسات التي تتناول الإعجاز العددي في القرآن , كشفت فيه عن وجود نظام عددي في القرآن تم استخدامه في اختيار أعداد مخصوصة للدلالة على أعداد الآيات في سوره . وملخص هذا النظام : استخدم القرآن من بين الأعداد الزوجية في السلسلة من 1-114 : 32 عددا , وترك : 25 عددا , ومن بين الأعداد الفردية استخدم 32: عددا , وترك: 25 . كما واستخدم القرآن من خارج سلسلة الأعداد 1-114 : 13 عددا لا غير ( هي الأعداد التي يزيد كل منها على 114 ) , نشأ عنها ما يمكن تسميته بمجموعة آل 13 : السور الأطول بين سور القرآن . وبذلك يصبح مجموع الأعداد التي استخدمها القرآن : 77 عددا لا غير .( 64 عددا من داخل السلسلة 1 :114 + 13 عددا من خارج السلسلة ) . وفي الفصل كذلك تحليل لظاهرة التماثل والتكرار في أعداد آيات بعض سور القرآن ( تماثل بعض السور في أعداد آياتها ) , والكشف عن حقائق مذهلة في ترتيب سور القرآن وآياته , مما يعد في النهاية دليلا جديدا على إعجاز القرآن في ترتيبه وعظمة هذا الترتيب , نأمل معه أن تخف حدة المعارضين والحذرين من ظاهرة الإعجاز العددي بصورة عامة , وأن يوفر هذا الكشف لعلماء المسلمين – قبل غيرهم – ما يطمئنون إليه وما يساعدهم على مواجهة المشككين بالقرآن بالأدلة التي لا يمكنهم إنكارها أو الزعم بجهل دلالاتها . الفصل الثاني : ويعد موضوع هذا الفصل إضافة أخرى مميزة لظاهرة إعجاز القرآن في ترتيبه أرجو أن يكون فيها ما يزيد هذا الوجه من إعجاز القرآن قوة ووضوحا, وأن يدفع الكثيرين إلى إعادة النظر في مواقفهم منه . ( إننا جميعا مسوؤلون أمام الله ) ُيكشف في هذا الفصل عن وجود نظام قرآني يتم بموجبه تقسيم سور القرآن باعتبار ظاهرة الطول والقصر ( أعداد الآيات ) إلى مجموعتين رئيستين عدد سور كل مجموعة : 57 سورة , موزعة بين نصفي القرآن وفق نظام محدد : السور الطويلة : وعددها 57 سورة , 48 سورة مرتبة في النصف الأول من القرآن , و9 سور في النصف الثاني . السور القصيرة : وعددها 57 سورة , 48 سورة في النصف الثاني من القرآن و 9 سور في النصف الأول . كل ذلك وفق أنظمة وعلاقات في غاية الإحكام والدقة . أما معيار الطول والقصر فهو العدد 39 , فالسورة الطويلة : ما زاد عدد الآيات فيها على 39 آية , والسورة القصيرة : ما كان عدد آياتها اقل من 39 آية . ( لذلك لا نجد من بين سور القرآن أي سورة تتألف من 39 آية لأن القرآن لم يستخدم هذا العدد ) . ويكشف هذا النظام عن تقسيم سور القرآن إلى ست مجموعات فرعية عدد سور كل مجموعة : 19 سورة , وعن اثني عشر حدا هي الحد الأعلى والحد الأدنى لعدد الآيات في كل مجموعة . ويتم الكشف في هذا الفصل عن حقائق جديدة مذهلة في ترتيب سور القرآن وآياته , مما يعني في النهاية توفير إجابات واضحة مقنعة لما أثارته" ظاهرة طوال السور وقصارها " من تساؤلات قديمة أو حديثة , وطرح تصور جديد وواضح وصحيح لهذه الظاهرة . الفصل الثالث : وقد تناولت فيه ظاهرة العدد : 29 وإعجاز القرآن في استخدامه لهذا العدد وأجبت فيه عن عدد من الأسئلة : لماذا العدد 29 ؟ , ما علاقة العدد 29 بالعدد 114 عدد سور القرآن ؟ ما علاقة العدد 29 بالعدد 6236 عدد آيات القرآن ؟ ما علاقة العدد 29 بالعدد 57 ؟ لماذا العدد 29 رقم ترتيب مميز ؟ وقد قدمت في هذا الفصل تحليلا لمواقع ترتيب ثلاث سور من سور القرآن الكريم هي : سور العنكبوت والقلم والطارق . الفصل الرابع : وقد تناولت في هذا الفصل ظاهرة العدد 19 في القرآن وارتباط هذا العدد بالآيتين : " عليها تسعة عشر " و " بسم الله الرحمن الرحيم " . وكشفت فيه عن عدد من الإشارات المخزنة في الآيتين : إلى عدد سور القرآن والى عدد آياته , والى النظام العددي في القرآن , وعن إحصاءات قرآنية مخزنة في هاتين الآيتين . كما كشفت في هذا الفصل عن أسرار العلاقة بين الآيتين وما تختزنانه في حروفهما من عجائب الترتيب القرآني , وعن أسرار أخرى مذهلة في سورة المدثر وسورة النمل , وعن الإعجاز في ترتيب سورة المدثر , والإعجاز في موقع الآية " عليها تسعة عشر " , وعن علاقة هذه الآية بالشهادتين : ( لا اله إلا الله : محمد رسول الله ) . ومن الظواهر التي طرحت في هذا الفصل : ظاهرة العددين 31 و 13 , وظاهرة العددين : 34 و43 , وظاهرة العدد : 319 , وما في كل ذلك من دلائل على إعجاز القرآن في ترتيبه . الفصل الخامس : محاولة للإجابة على السؤال : لماذا العدد 114 ؟ لماذا : 19 ؟ لماذا : 6 ؟ ( 114 = 19 × 6 ) . إضافة جديدة إلى ما سبق أن أوضحناه في كتابنا الأول : أسرار ترتيب القرآن – قراءة معاصرة . أرجو أن يجد المسلمون في هذا الكتاب ما ينفعهم , وأن يجد فيه السائلون والباحثون عن الحقيقة ما يسعون إلى معرفته والاطمئنان إليه , وأن أكون فيه قد أضفت إلى المكتبة الإسلامية كتابا جديدا نافعا يكون سببا إلى الهداية والعودة إلى كتاب الله الكريم . والحمد لله رب العالمين .