أعجبتني كثيرا مقولة نطق بها علامة الاسلام في الهند الشيخ أبو الحسن الندوي (رحمه الله) حينما قال في إحدى مقابلاته مع مجلة المجتمع: (أفضّل وصول الايمان الى أصحاب الكراسي على وصول أصحاب الايمان الى الكراسي).. هذه المقولة التي تمثل برأيي النهج الأمثل للسعي الى إقامة حكم اسلامي ودولة اسلامية تقر بها الأعين، مع عدم وجود حرج أبدا في الخيار الآخر وهو وصول أصحاب الايمان الى الكراسي، فالوصول الى السلطة هو من الأهداف المشروعة للانسان المسلم الذي لا يبغي من ورائه الا الاصلاح، على أن لا يتحول ذلك عنده الى خيار وحيد لا بديل عنه بحيث يكون كل همه زعزعة (صاحب الكرسي) من مكانه وإن أصبح (صاحب ايمان). إذن هناك خياران لأسلمة الكرسي: أحدهما وصول الايمان الى صاحبه، والآخر وصول صاحب الايمان اليه.. وقد أستطيع القول ان الحركات الاسلامية في عصرنا لم تعط الخيار الأول حقه من الاهتمام، بل انصبّت اهتماماتها أكثر على الخيار الثاني وايصال كوادرها الى الكراسي، وقد يرجع ذلك الى أسباب موضوعية لأن أصحاب الكراسي هم الذين لا يقبلون الايمان ويضايقون أصحابه، وليس معنى كلامي هذا أن أصحاب الكراسي كلهم كفرة مارقون عن الدين، ولكن ما أقصده هو وصول الايمان الحقيقي الى قلوب هؤلاء بحيث يحركهم ويدفع بهم الى تطبيق شرع الله في أنفسهم وفي الرعية. وعلى كل حال فالمسألة بحاجة الى نوع من الاستدراك من الحركات الاسلامية التي ينبغي أن تركز قسما كبيرا من جهودها على إصلاح الكراسي عن طريق إصلاح أصحابها وإيصال الايمان الى قلوبهم، وليس بالضرورة أن تكون الجهود كلها مركَّزة على صاحب الكرسي الأول الذي قد يصعب الوصول اليه، فليكن هناك سعي للوصول الى القريبين منه، فكم من ملوك ورؤساء عبر التاريخ استقر الايمان في قلوبهم بسبب بطانة صالحة كانت حولهم، وغير بعيد عنا العاهل السعودي الملك (فيصل بن عبد العزيز) رحمه الله الذي استطاع شيخ الدعوة في العراق الأستاذ (محمد محمود الصواف) رحمه الله أن يصل اليه ويصبح واحدا من مستشاريه القريبين ويؤثر فيه وفي مواقفه، فكان الملك الراحل أول من استخدم النفط كسلاح ضد الغرب أثناء حرب العاشر من رمضان عام 1973 وتعهد بأن يصلي في الأقصى الشريف بعد أن يحرره من أيدي اليهود، فكان مصيره الاغتيال بمسرحية حبكت فصولها بدقة. وقد كان من هدي النبي (h) أن لا يعزل صاحب أمر إذا قبل أن يسلم، بل يبقيه في مكانه ولا ينتزع من ملكه شيئا، لأنه الأقدر على إدارة أمور البلاد بحكم الخبرة والتجربة. وتحدّثنا مصادر السيرة عن كتبه (h) الى الملوك والأمراء وكيف أنه دعاهم الى الاسلام والايمان فإن رضوا بالاسلام بقي لهم ملكهم. فمن كتابه (h) الى هوذة بن علي صاحب اليمامة جاء: ((بسم الله الرحم الرحيم، من محمد رسول الله الى هوذة بن علي، سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن ديني سيظهر الى منتهى الخف والحافر، وأسلم تسلم وأجعل لك ما تحت يدك)). وكتب كتابا الى الحارث بن أبي شمر الغساني صاحب دمشق هذا نصه: ((بسم الله الرحم الرحيم، من محمد رسول الله الى الحارث بن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى وآمن به وصدق، واني أدعوك الى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يبقى لك ملكك)). وجاء في كتابه (h) الى ملك عمان جيفر وأخيه عبد ابني الجلندي: ((... فإني رسول الله الى الناس كافة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، فإنكما إن أقررتما بالاسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالاسلام فإن ملككما زائل..)). فهذه الكتب والرسائل تدل على مدى حرص الرسول (h) على اسلام الناس ودخول الايمان الى قلوبهم وخصوصا من بيدهم مقاليد الأمور، كما أنها أسلوب ناجح من أساليب الترغيب، فلا يخفى ما للنفس من حب للسلطة وتمسك بها، وقد يضحي صاحب السلطة بأي شىء من أجل بقائها في يده، ومن هنا رغّب الرسول (h) هؤلاء في الاسلام ببقاء الملك في أيديهم، ومنهم من استجاب للرسالة وأسلم كملك عمان وأخيه، حيث يقول حامل الرسالة اليهما عمرو بن العاص في ختام قصته معهما: (فأجاب الى الاسلام هو وأخوه جميعا، وصدقا النبي (h) وخليا بيني وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لي عونا على من خالفني). وفي العصر الحديث أدرك الامام الشهيد (حسن البنا) رحمه الله أهمية وصول الايمان الى أصحاب الكراسي وكيف أنه يختصر الطريق الى إقامة الحكم الاسلامي على الأرض، فكان يتوجه بدعوته الى المسؤولين وأصحاب السلطة ويخاطبهم بالحجة والاقناع ويعرض عليهم مشاريعه الاصلاحية ويطالبهم بتبنيها، ومما قام به في هذا الإطار رسالة وجهها الى الملك فاروق ملك مصر والسودان والى مصطفى النحاس باشا رئيس حكومتها حينذاك، والى ملوك وأمراء وحكام بلدان العالم الاسلامي المختلفة، تحت عنوان (نحو النور) عرض فيها لمزايا الاسلام وكيف ان الاسلام كفيل بإمداد الأمة بما تحتاج اليه وكتب فيها بعض خطوات الاصلاح العملي، وختم رسالته بقوله: (وبعد، فهذه رسالة الاخوان المسلمين نتقدم بها، وإنا لنضع أنفسنا ومواهبنا وكل ما نملك تحت تصرف أية هيئة أو حكومة تريد أن تخطو بأمة اسلامية نحو الرقي والتقدم، نجيب النداء ونكون الفداء، ونرجو أن نكون قد أدينا بذلك أمانتنا وقلنا كلمتنا، والدين النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم). إذن لم يكن كل همه أن يصل هو الى السلطة، بل كان على استعداد أن يكون جنديا تحت إمرة أي صاحب سلطة يريد الخير للأمة ويقودها اليه