قيل الكثير عن الوسطية من اقوال وكلمات قديماً وحديثاً متناولاً جوانب كثيرة منها، من حيث المفهوم والمغزى والأهمية وضرورة كل عصر الى الوسطية، ولكني لم أقع في قراءاتي ومطالعاتي على تعريف جامع ومانع ومسجع مثل الذي قاله د. عصام احمد البشير عن الوسطية. فدكتور عصام هوشخصية علمية وأدبية معروفة في العالم الإسلامي، وهو علمٌ على رأسه نار، وأديب ألمعي من الطراز الأول، ولقاءاته شيقة وثرية بالمعلومات، وهو الآن يترأس منتدى الوسطية في الكويت. ففي برنامج (الإضاءات) لتركي الدخيل تحدَّث الدكتور عن الوسطية قائلاً: (الوسطية التي نزمع أن نضرب فيها بسهم في مسيرة الأمة والإنسانية هي أن نقدم تصوراً إسلامياً مرتبطاً بالزمان والمكان والإنسان، موصولاً بالواقع، مشروحاًَ بلغة العصر، منفتحاً على الاجتهاد والتجديد في محله ومن أهله، جامعاً بين النقل الصحيح والعقل الصريح، منفتحاً على الحضارات بلا ذوبان مراعياً للخصوصية بلا انغلاق، محافظاً في الأهداف، متطوراً في الوسائل، ثابتاً في الكليات، مرناً في الجزئيات، يستلهم الماضي، يعايش الحاضر، يستشرف المستقبل، يرحب بكل قديمٍ نافعٍ، وينتفع بكل جديد صالح، ويلتمس الحكمة من أي وعاء خرجت). ومن هذا التعريف أحاول أن أجعل كلامه عضيين أي أجزاء وأعتبر هذه الأجزاء ركائز واركان الوسطية التي هي عين الحق والحقيقة، والتي هي اختيار الله للأمة لكي تقوم بمهام أداء رسالة الله (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً.... )(البقرة: من الآية143). وقبل ان أشرع في بيان هذه الأركان أقول بأن الوسط هو بين الإفراط والتفريط والإسراف ووالتقتير والإغلال والتقتير، وبين طرفي الشئ، مما يلي وعلى ضوء تعريف دكتور عصام أبين ركائز الوسطية في التصور الإسلامي، اذ لابد أن يكون: 1. مرتبط بالزمكان: أي ان التصور الناجع للإسلام هو المرتبط بالزمكان، وهذا يعني أن يراعي كل التغييرات الزمانية والمكانية التي تؤثر على حياة الإنسان والمفاهيم التي تغذي هذا الزمان والمكان، وعلى ضوء هذا التصور الإسلامي الصحيح هو الذي يحترم ما سبق وينتج تصوراً جديداً للإسلام على ضوء معطيات الزمان والمكان. 2. مرتبط بالإنسان: أن يتناول الإنسان بكل عناصره، والإنسان هو المطلب الأول في التصور الإسلامي، وفي هذا التصور تجد الإنسان جالساً تحت كل نص من النصوص التي هي بمثابة عيون لتصوره وأفكاره، وهذا التصور الوسطي للإسلام هويتناول كل رغبات الإنسان وكل ما يتعلق به. 3. موصولاً بالواقع: أن يلتحم الحلقات الثلاثة للحياة (الماضي والحاضر والمستقبل)، أن لا يكون التصور ماضوياً أو مثالياً أو ولكن يجمع بين هذه الأمور الثلاثة. 4. مشروحاً بلغة العصر: لأن فقه الدين أو التصور الديني لابد ان ينبع من الواقع وليس من التاريخ، لأن التاريخ قد مضى بكل مطالباته واحتياجاته التي ادت الى ظهور مثل هذه التصورات والأفكار، وهذا الذي نحتاجه اليوم أن نشرح الإسلام بلغة العصر، وان تجيب الإسلام على تحديات العصر بلغة عصرية وهذه هي الوسطية. 5. منفتحاً على الاجتهاد والتجديد في محله ومن أهله: لكثرة المستنجدات الحياتية احتاج الإسلام الى تفعيل دائرة الإجتهاد والتجديد، ليس من الأشخاص بذواتهم بل من مؤسسات متخصصة في هذه المسائل، وهذا الإنفتاح هو قوة للإسلام وللتصور الإسلامي والذي هو في الأخير يعتبر الوسطية التي نزمع أن يكون لنا نصيب فيها. 6. جامعاً بين النقل الصحيح والعقل الصريح: العقل هو مكون من مكونات الإنسان وهو محدد مثل الإنسان، أما النقل فهو مطلق لأنه من الله، واذا دخل المطلق في المقيد، قُيد المطلق وأصبح تصوراً، والعقل هو مناط التكليف، فعن طريق العقل الصحيح يعرف مغزى النقل الصحيح، ولا يكون هناك تناقض بين العقل الصريح والنقل الصحيح نهائياً، وقد فصل القول في هذا الموضوع ابن تيمية في كتابه المشهور (درء تعارض العقل والنقل) في خمس مجلدات، وان تراءى لأحد بان هناك تناقض بينهما عندئذٍ يجب مراجعة المفهومين (العقل والنقل)، والتصور الإسلامي الوسطي هو الذي يجمع بين النقل الصحيح والعقل الصريح. 7. منفتحاً على الحضارات بلا ذوبان مراعياً للخصوصية بلا انغلاق: يأخذ الحكمة من أي وعاء خرجت (فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو احق الناس بها)، ويأخذ من الحضارات المشتركات الإنسانية من القوانين والخدمات والمفاهيم، ولكن يراعي خصوصية كل منطقة او دين أو تصور، وهذا لا يعتبر انغلاقاً بل هو تفاعل بشري مشروط بشروط مراعاة مكونات المجتمعات الفكرية والحياتية. 8. محافظاً في الأهداف، متطوراً في الوسائل: هذا التصور الإسلامي الوسطي له أهداف محدودة ثابتة وواضحة ومؤقتة، اما الوسائل فمتغييرة ومتنوعة، عليه فان الوسطية هي المحافظة على الأهداف، ولكن التنوع في الوسائل. 9. ثابتاً في الكليات، مرناً في الجزئيات: هذا التصور الوسطي عنده جملة من الكليات والأصول تعتبر قواعد عامة ثابتة لايمكن المساس بها، اما الجزئيات فالتصور الوسطي مرن بها، ويتجنب كل ما لا يبنى عليه العمل. 10. يستلهم الماضي، يعايش الحاضر، يستشرف المستقبل: وهذه هي حلقات الحياة، فالتصور الإسلامي يستلهم من الماضي أموراً للإستئناس والتماثل، ويعايش الواقع والحضر بكل معطياته، ويستشرف المستقبل بكل آماله وبشرياته، وهذا التصور الإسلامي الوسطي يرحب بكل قديمٍ نافعٍ، وينتفع بكل جديد صالح، ويلتمس الحكمة من أي وعاء خرجت. هذه بعض الخواطر التي استنتجتها من تعريف د. عصام حول الوسطية، وكل هذه مفاهيم فارغة إذ لم تسقط عملياً الى الواقع المعاشي، واذا لم ينتفع به المجتمع والإنسان، فكل ما مرّ ذكره ليس للمعلومة بقدر ما هو للعمل، وهو في الأخير دعوة للوسطية وان نكون من الأمة الوسطية التي ذكرها الله في القرآن.