الواجب الكفائى وأثره فى التنميه

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : أبو العزايم عبد الحميد حسن | المصدر : www.qudwa1.com

الواجب في اصطلاح الأصوليين هو: ما طلب الشارع فعله من المكلف طلبا حتما لازما بحيث يعاقب تاركه ويثاب فاعله . والواجب بالنظر إلى القائم به ينقسم إلى قسمين: واجب عيني و واجب كفائي
والواجب الكفائي: هو المطلوب فعله من جموع المكلفين بحيث إذا قام به البعض سقط عن الباقين أما الواجب العيني: فهو المطلوب من كل مكلف علي حده .
واضح من هذا أن المطلوب في الواجب العيني هو أداء المكلف بحيث لا يغني أداء مكلف عن أداء غيره أما المطلوب في الواجب الكفائي فهو الفعل نفسه بحيث إذا تحقق الفعل من بعض المكلفين اغني عن قيام الآخرين به مرة أخرى. وفي هذا يقول الإمام القرافي في الفرق الثالث عشر من كتابه الفروق (الأفعال قسمان منها ما تكرر مصلحته بتكرره ومنها ما لا تكرر مصلحته بتكرره فالقسم الأول شرعه صاحب الشرع علي الأعيان تكثيرا للمصلحه بتكرر ذلك الفعل كصلاة الظهر فان مصلحتها الخضوع لله تعالي وتعظيمه ومنجاته والتذلل له والمثول بين يديه والتفهم لخطابه والتأدب بآدابه وهذه المصالح تتكرر كلما كررت الصلاة والقسم الثاني كإنقاذ الغريق إذا شاله إنسان فالنازل بعد ذلك في البحر لا يحصل شيئا من المصلحة فجعله صاحب الشرع علي الكفاية نفيا للعبث وكذلك كسوة العريان واطعام الجيعان ونحوهما) أ.هـ .
المخاطب بواجب الكفاية :
وقد تناول الأصوليون الحديث عن تحديد المخاطب بواجب الكفاية وقد انحصرت الآراء عن المخاطب بالواجب الكفائى بين الأمة كلها أو فئة معينة هي القادرة عليه أو فئة معينة عند الله غير معينة عند الناس لا تظهر إلا عند القيام بالواجب وسبب الخلاف هو طبيعة الواجب الكفائى إذ انه يسقط عن الأمة بمجرد قيام فئة منها به فهل الفئة التي قامت به هي التي كانت مخاطبه به وهذا قول لبعض أهل العلم كما انه من جهة أخرى تتحمل الأمة كلها الإثم عند عدم قيام أحد به ولا شك أنها لا تتحمل الإثم إلا إذا كانت مخاطبه به والرأي الراجح الذي نميل إليه ان الأمة كلها مخاطبة بجميع أفرادها بواجبات الكفاية وتظل ذمة كل فرد فيها مشغولة به حتى يتحقق هذا الواجب في عالم الواقع وهو من هذا الجانب يتفق مع الواجب العيني غير انه يفترق بسقوطه عن جميع الأفراد عند قيام البعض به إذ لم يعد هناك مصلحة للقيام به مرة أخرى كما ذكر الإمام القرافي
وبهذا تسهم طاقات الأمة في القيام بهذا الواجب وتتفاعل معه خاصة وأننا سنري أن واجبات الكفاية تتعلق بالمصالح العامة بالمجتمع .
وقد بين الإمام الشاطبي ان مواهب الناس مختلفة وقدراتهم في الأمور متباينة ومتفاوتة فهذا قد تهيئ للعلم وهذا للإدراة والرئاسة وذلك للزراعة والصناعة وهذا للصراع والواجب أن يربي كل امرئ علي ما تهيئ له حتى يبرز كل واحد فيما غلب عليه ومال إليه وبذلك يتربي لكل فعل هو فرض كفاية قوم لانه طريق مشترك بحيث إذا وقف السائر وعجز عن السير فقد وقف في مرتبة نحتاج إليها في الجملة وان كانت به قوة زاد في السير إلى أن يصل إلى أقصى الغايات في المفروضات الكفائية وبذلك تستقيم أحوال الدنيا وأعمال الآخرة
وبذلك يستنهض واجب الكفاية همم وطاقات الأفراد جميعا حتي وان قلت فإنها إن تجمعت من العديد كثرت وتسهم بمجهود ما في تنمية الأمة وازدهارها بحيث لا تنكفئ فئة معينة علي نفسها فإذا فشلت جنت الأمة ثمار فشلها وقد يكون هناك من هو اقدر منهم علي القيام بهذا الواجب .
الواجب الكفائي علي القادر وغير القادر:
وإذا كنا قد انتهينا إلى أن الأمة كلها مكلفة بواجب االكفاية فانه جدير بالذكر انه قبل تحقق الواجب الكفائي فان جميع الأفراد مكلفين به ومخاطبون بالقيام به القادر وغير القادر وفي هذا يفترق الواجب الكفائي عن الواجب العيني إذ الواجب العيني يسقط عن غير القادر أما الكفائي فلا. يقول الإمام الشاطبي: يصح أن يقال انه واجب علي الجميع علي وجه التجوز لأن القيام بهذا الفرض قيام بمصلحه عامة فهم مطالبون بسدها علي الجملة فبعضهم قادر عليها مباشرة وذلك من كان أهلا لها والباقون وان لم يقدروا عليها فهم قادرون علي إقامة القادرين مثل مسألة الولاية فمن قدر عليها فمطلوب منه إقامتها ومن لم يقدر عليها فهم قادرون علي إقامة القادرين عليها ويضرب الدكتور مدكور لذلك مثلا بما يقع من إجبار الأفراد علي اختيار ممثلي الشعب والحاكم فان إقامة القادرين علي تمثيل الشعب لا تكون إلا نتيجة الانتخابات ويوضح الدكتور عبد الكريم زيدان ذلك فيقول: وعلي هذا التصور للواجب وجب علي الأمة مراقبة الحكومة وحملها علي القيام بالواجبات الكفائية أو تهيئة الأسباب اللازمة لأدائها لان الحكومة نائبة عن الأمة في تحقيق المصالح العامة وقادرة علي القيام بأعباء الفروض الكفائية فإذا قصرت في ذلك أثمت الأمة كلها بما في ذلك السلطة التنفيذية. الأمة لعدم حملها الحكومة علي تهيئة الأسباب التي تقام بها الفروض الكفائية والحكومة لعدم قيامها بالواجب الكفائي مع القدرة عليه.
نحو فقه صحيح للواجب الكفائي :
محاولة منا في تصحيح ما لحق بالأذهان من تشويش حول الواجب الكفائي يهمنا في هذا المجال إبراز المفاهيم التالية:
أولا : مزية القيام بفرض الكفاية علي فرض العين .
لا نتناول في هذه النقطة موضوع الترجيح بين فرض العين وفرض الكفاية لان الترجيح يفترض التعارض ولا شك أنه إذا تعارض فرض العين مع فرض الكفاية قدم فرض العين ولا يعني هذا بالضرورة فضل أو مزية لفرض العين علي فرض الكفاية بل قدم فرض العين في الأداء بسبب تعين المكلف القائم به وتقديم فرض العين علي فرض الكفاية في الأداء عند التعارض جعل من المتبادر إلى الذهن أن فرض العين أفضل من فرض الكفاية وهذا غير صحيح فجمهور العلماء علي أن لواجب الكفاية مزية علي واجب العين إذ أن واجب الكفاية جمع بين فضلين هما القيام بالواجب و إسقاط الإثم عن الأمة يقول الإمام الزركشي قال في الروضة: القيام بفرض الكفاية مزية علي القيام بفرض العين من حيث أنه أسقط الحرج عن نفسه وعن المسلمين وقال الإمام الغياثي: أن القيام بفرض الكفاية أفضل من فرض العين لانه لو ترك المتعين أختص هو بالإثم ولو ترك الجميع فرض الكفاية أثموا جميعا ولو فعله اسقط الحرج عن الجميع وقد أورد السيوطي المسألة وذكر أن الإمام الحرمين و والده والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني يرون ان فرض الكفاية افضل من فرض العين وحكاه أبو علي السنجي عن أهل التحقيق وختم كلامه بان المتبادر إلى الأذهان خلافه. وفعلا المتبادر إلى الأذهان غير ذلك ولعل الذي خلق ذلك الشعور بضعف لزوم واجب الكفاية كثرة المكلفين به وهذا خطأ إذ أن واجب الكفاية قبل القيام به تظل ذمة كل مكلف مشغولة به ومحاسبه عليه ولا يسقط إلا إذا قام به البعض أما قبل ذلك فلا.
ثانيا: جوانب الواجب الكفائي .
ومن السياسات غير الرشيدة في دراسة أصول الفقه هو تناول أمثلة واحدة عند تناول الواجب الكفائي فيضرب المثل به دائما بصلاة الجنازة وغسل الميت و لا شك أن كل عصر كان يضرب الأمثلة علي الواجب الكفائي بما يراه شائعا عنده فالواجب الكفائي كما رأينا يتمثل بالقيام بكل ما من شأنه نهضة الأمة وتقدمها إذ هو متعلق بالمصلحة العامة كما ذكر الشاطبي قبل ذلك كما يشمل الواجب الكفائي أمور الدنيا وأعمال الآخرة وهذا ما ذهب إليه جمهور الأصوليين وقد خالفهم في ذلك الإمام الجويني والغزالي فقد قصرا واجب الكفاية علي أعمال الآخرة فقط بحجة أن حث الطبع يغني عن حث الشرع والباقون يرون ان واجب الكفاية عندهم يشمل أمور الدنيا التي تحتاجها الأمة مثل الحرف والصناعات المختلفة وقاعدة حث الطبع التي تعلل بها الغزالي والجويني لا تغني عن حث الشرع بإطلاق إذ انه في بعض الأحيان يتخاذل الطبع عن القيام بما من شأنه إصلاح النفس والمجتمع فيتدخل الشرع للإلزام بالقيام بذلك وهناك أمثلة عديدة في تحرك الحكم من المباح إلى الوجوب في الأمور الدنيوية التي تعتمد علي حث الطبع فالشرع لا يأمر الإنسان بالأكل أو الشرب اعتماداً علي حث الطبع لهما لكن إن عزف الإنسان عنهما وأصبحت نفسه معرضه للهلاك وجب عليه الأكل والشرب وتحرك الحكم في حقه من الإباحة إلى الوجوب وهكذا يجب أن يتحرك الحكم إلى الوجوب في الأمور الدنيوية التي يكون عليها مدار الأمة ومصلحتها ودرأ المفاسد عنها .
ثالثا: أمثلة معاصرة للواجبات الكفائية .
أ: من الأمور الدينية :
1-دفع الشبهات التي تثيرها المذاهب الفكرية المعاصرة وتعلم أسس الحوار والمحاجة والتجديد في وسائل ذلك وفقا لمنطق العصر وعلومه.
2-الاشتغال بعلوم الشرع من منطلق تطبقها علي حياتنا المعاصرة باستخدام متخلق الوسائل في أصول القران والحديث وعلومهما والعلوم الشرعية إلى الناس من قنوات فضائية ومواقع علي الشبكة العنكبوتية ومعاجم وفهارس بلغات الأمم المختلفة.
3-إقامة مؤسسات للاجتهاد الجماعي ومؤسسات إعداد المجتهدين والمفتيين بما يكفي لحاجات الأمة ورفع الجهل عن أبنائها وضبط حركتها علي أصول الشريعة.
4-إقامة مؤسسات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمن أنظمة متخصصة متطورة تكفل تحقيق الوظيفة دون تعسف في الفهم أو إساءة في الممارسة ومع بقاء دور الأفراد قائما بحماية قانونية تنظم قيامهم بهذا الواجب.
ب- ومن الأمور الدنيوية:
1-تحقيق الاكتفاء الذاتي في جميع المجالات الاقتصادية بدءاً بالضرورات من زراعة وصناعة لمتطلبات الغذاء والملبس والمسكن والصحة والتعليم مما يكفل الاستقلال الاقتصادي للأمة الإسلامية وتيسير الضرورات مجانا لغير القادرين .
2-إقامة المعاهد التعليمية ومؤسسات البحث العلمي ونظم التدريب الكفيلة بتقدم الأمة في جميع المجالات وتكوين العناصر المتخصصة والمدربة اللازمة لتغطية هذه المجالات ووضع النظم الكفيلة لتعبئة المدخرات والفوائض وتوجيهها للاستثمار في هذه المجالات ووضع الحوافز الربحية والضريبية المعينة علي ذلك.
رابعا:الواجب الكفائي والمندوب الكفائي.
وقد شاع أيضاً أن الواجب حسب القائم به يكون عينياً او كفائياً فقط لكن المندوب أيضا يتعلق بالعيني والكفائي وقد اشتهرت الكفاية في الواجبات دون المندوبات يقول الأمام القرافي أن الكفاية كما يتصوران في الواجبات يتصوران في المندوبات كالآذان والإقامة والتسليم والتشميت وما يفعل بالأموات من المندوبات والتي علي الأعيان من الوتر والفجر وصيام الأيام الفاضلة وصلاة العيدين والطواف في غير النسك والصدقات ولا يترتب علي المندوب الكفائي سقوط الإثم عن الباقين إذ ليس هناك إثم في ترك المندوب لكن يترتب عليه أن يحصل القائم بالمندوب الكفائي مثل أجور المخاطبين به قال العلامة بن ذكري في حاشيته علي البخاري: وقد ذكروا أن الفرض الكفائي كالصلاة علي الجنازة وسنة الكفاية كالآذان والإقامة إذا أراد فاعلها إسقاط الحرج عن حاضري هذا الموضع من المكلفين كانت له أجورهم وان بلغت أعدادهم ما بلغت (نقله كنون علي حواشي عبق واردة في القواعد السنية في الأسرار الفقهية) .

خامسا: لا يسقط الواجب الكفائي إلا بتحققه .

وهذه من طبيعية الواجب الكفائي وهي غائبة أيضاً عن الأذهان إذ أن الواجب الكفائي تظل الذمة مشغولة به حتي يقع فعلا فإذا لم يتحقق لحق الإثم جميع الأمة ولا يسقط بتعيين القائم به حتي يقوم به فعلا وذكر بعض الأصوليين انه يسقط إذا غلب علي الظن القيام به يقول الإمام القرافي: يكفي في سقوط المأمور به علي الكفاية ظن الفعل لا وقوعه تحقيقا فإذا غلب علي ظن تلك الطائفة أن تلك فعلت سقط عن تلك وإذا غلب علي ظن كل واحدة منها فعل الأخرى سقط الفعل عنهما.

وبعــــــــــــــــد:
يظل فقه الواجب الكفائي مصدراً للتنمية ونهضة الأمة وازدهارها في جميع المجالات إذ لا يتوقف ذلك علي حث الطبع كما رأينا بل يظل واجبا في ذمة جميع الأفراد لا يسقط إلا إذا قامت به فئة أو علي الأقل غلب علي الظن القيام به وفي كلا الأحوال إذا تأكدنا انه لم يقم به أحد يظل واجبا في ذمة جميع الأمة كما تظل الواجبات الكفائية التي تعين لها أفراد عاجزون لم يقوموا بها تستحث الأمة كلها للقيام بها فلو تعين مثلا للإفتاء غير قادرين لم يلبوا حاجات الأمة في هذا الجانب ظلت الأمة بجميع أفرادها مكلفة بذلك حتي يقوم منهم من يكفي حاجة الأمة في هذا المجال وكذلك الدفاع والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبليغ الدعوة وسائر ما أوردناه من أمثلة الواجبات الكفائية سواء من أمور الدنيا أو من أعمال الآخرة تظل الأمة كلها مشغولة بها حتي يقوم كل واجب .