نوعيّة الحياة

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : عبد الكريم بكار | المصدر : www.qudwa1.com

وصفوا القرن التاسع عشر بأنه كان قرن (التفاؤل) بسبب كثرة الفتوحات العلمية التي حدثت فيه. ووصفوا القرن العشرين بأنه كان قرن (التشاؤم) بسبب اشتماله على حربين عالميتين وأكثر من مئة حرب إقليمية ومحلية. أما القرن الحادي والعشرون -والذي ما زلنا في بدايته- فلا ندري الاسم الذي سيكون لائقًا به في نهاية المطاف، لكن بعض أصحاب الرؤى الإستراتيجية يرون من الآن المسارعة إلى تسميته بقرن (التعقيد). وأعتقد أنهم محقون في هذه التسمية. والسبب في وجاهة هذا الاسم هو أن أبرز ملامح التطورات المتسارعة التي نشاهدها على كل صعيد هو (التنوّع): تنوّع في الطُّرز وتنوّع في العناصر المكونة للمصنوعات، وتنوّع في الفهم وفي التفسير للنصوص والأحداث، وتنوّع في الأمراض والمشكلات والأزمات، يصحبه تنوّع في الحلول والأدوية والعلاجات... وإذا تساءلنا عن أكثر الأشياء ملازمة للتنوع فسنجد أنه (التعقيد). وإذا تساءلنا مرة ثانية: ما الذي يترتب على التعقيد أو ما الذي يلازمه؟ لوجدنا العديد من الأشياء التي يمكن أن نتحدث عنها؛ لكن لعل ما يهمنا منها ثلاثة، هي :

 

1- ارتباك الوعي

؛ إذ إن الوعي الأكثر قدرة على استيعاب الأمور المعقدة هو الوعي الذي تشكل ونما في بيئة صناعية. أما الوعي الذي تشكل في بيئة رعوية أو زراعية، فإنه يجد صعوبة بالغة في فك رموز التركيبات الشديدة التعقيد. وهذا هو حال الوعي لدى معظم المسلمين؛ إذ إنه ليس هناك أي دولة إسلامية يمكن أن توصف بأنها (دولة صناعية) بمعنى الكلمة !

 

2 - صعوبة العجز

عن إدارة الأشياء المعقدة والتحكم التام بها. خذ مثالاً على ذلك السيطرة على التدفق الثقافي الأجنبي. وخذ السيطرة على موضوع (الاستنساخ)، هذا العمل البالغ الخطورة والذي يمكن أن يتم في شقة مستأجرة! وخذ السيطرة على تلوث البيئة وارتفاع حرارة الأرض. إن كل هذه الأشياء ومئات الأشياء على شاكلتها باتت خارج السيطرة، وهذا شيء مقلق ومخيف .

 

3- المرونة

؛ إذ إن من شأن كثرة العناصر التي أدّت إلى التعقيد أن تتيح قدرًا كبيرًا من المرونة في التعامل مع الأشياء على صعيد إيجاد تكوينات جديدة، وعلى صعيد إيجاد حلول للمشكلات القائمة. إن بعض العطور اليوم مكوّن مما يزيد على ستين عنصرًا كيميائيًا، وهذا التعقيد والتنوّع يتيح الحصول على مئات الروائح من خلال التغيير في كميات العناصر المكوّنة. ولهذا فالتنوع يأتي بالتعقيد ويأتي بالمرونة في آن واحد، وهذه معادلة غير مألوفة .

 

الذي نخلص إليه من وراء هذه المقدمة هو أن العيش في عصر سِمته (التعقيد) يتطلب منا أن نطوّر منهجيات معقدة إذا أردنا القيام بمواجهة ناجحة للمشكلات التي أخذت تغير ملامح حياة الإنسان المسلم، وتسبب له الكثير من الألم والأذى. إن ما نواجهه من مشكلات لم يحدث بمحض الصدفة، ولا بوصفه ناتجًا طبيعيًا لتفاعلات بريئة هي جزء من ثمن التحضر... إن هناك جهات كثيرة تسعى إلى تحقيق مصالح خاصة، وطبيعة تلك المصالح تقتضي إدخال تغييرات سيئة على الحياة الشخصية لأعداد كبيرة من البشر. وتلك الجهات تستثمر أموالاً وخبرات عظيمة وهائلة في سبيل الوصول إلى أهدافها، ومن ثمّ فإن ردود الفعل العشوائية والخجولة التي تصدر من هنا وهناك، ستكون قليلة الجدوى. إن التخريب الواعي والمنظم يجب أن يُقابل بإصلاح على شاكلته، وإلا كنا كمن يحاول علاج السرطان بـ (الإسبرين) أو إسقاط طائرة بمسدس .

 

نحن في حاجة إلى قيام مشروع وطني في كل قطر إسلامي يكون همه الأكبر مراقبة (نوعية الحياة) ورصد التطورات الإيجابية والسلبية التي تطرأ على سلوكات الناس وعاداتهم ومواقفهم المختلفة. هذا المشروع يحتاج حتى يخدم الأغراض التي أُنشئ من أجلها إلى تشكيل عدد كبير من الهيئات والجمعيات والأنشطة المتخصصة. وستكون المهمة محاولة بلورة معايير ومواصفات للحياة الطيبة التي تليق بالمسلم المعاصر على المستوى الروحي والخلقي والاجتماعي والصحي والمعنوي... ثم العمل على نشر الوعي بها في أوساط الجماهير بشتى الوسائل والسبل المتاحة. أما المهمة الثانية فهي العمل على تنظيم حملات متتابعة وأنشطة مستمرة لمقاومة أنواع الأخلاق والسلوكات السيئة التي يسببها العيش في هذا الزمان؛ إذ المحرك الأساسي لسلوك البشر هو المادة والمتعة واللهو والإرواء المباشر للرغبات، وسيكون على تلك اللجان أيضًا متابعة التقصير في الواجبات الشرعية والخلل في التواصل الاجتماعي وما شابه ذلك مما هو مشاهد اليوم .

 

نحن في حاجة إلى جمعيات تتابع إعراض الشباب عن الذهاب إلى صلاة الجماعة في المساجد، والإعراض عن القراءة واقتناء الكتاب، وجمعيات تتابع التغيرات الثقافية والسلوكية مثل: الإدمان على التدخين والخمور والمخدرات والإسراف في الإنفاق وسوء استخدام الموارد مثل: الماء والكهرباء بالإضافة إلى العادات الشخصية السلبية مثل: السهر والنوم المتأخر والأكل في المطاعم والبدانة واستخدام المنبهات والمنشطات..... إن هذا ما هو إلا عادة محدودة للأشياء الكثيرة التي تحدّد نوعية الحياة لدى الأمة والتي تحتاج إلى الاهتمام .

 

السؤال المطروح هنا هو: لمن نقوم بتوجيه هذا الكلام؟

 

الحقيقة أنني أوجه الكلام لكل أولئك الذين يملكون الوعي والغيرة على مستقبل هذه الأمة، وهم بحمد الله كثر. الأمة تملك اليوم ملايين الشباب التوّاقين لعمل شيء إيجابي يصب في المصلحة العامة، وإن على الكهول والشيوخ أن يوفروا لهم الأطر والمؤسسات والجمعيات التي يتمكنون من خلالها من عمل شيء جيد. إن رصد الواقع وقراءته عن طريق المسح والإحصاء والاستبيان عمل كبير وحيوي في هذا المشروع، وإن في إمكان مجموعة مكونة من خمسة شباب أن تقوم بعمل مسحي منظم ومنهجي لظاهرة من الظواهر تحت إشراف أستاذ متخصص، ثم تقوم بنشر نتائج ذلك المسح على الإنترنت وغيره من أجل إيقاظ وعي الناس ورفعهم للاهتمام بتلك الظاهرة والتعامل معها بما يلائم. ولابد من التنسيق مع الجهات الإعلامية والتربوية في كل خطوة من خطوات مشروع (نوعيّة الحياة). إن الإصلاح الذي تحتاج إليه الأمة له ألف رأس وألف ذراع وألف ذيل، وإن من المهم أن نمتلك القناعة بأن التقدم الشامل لا يتم من خلال عمل كبير يقوم به فلان أو فلان أو هذه الدولة أو تلك...، وإنما يتم من خلال ملايين المبادرات الصغيرة التي تصدر عن ملايين الأبطال الصغار، وأعتقد أننا نستطيع أن نتعلم من الغرب في هذا الشأن الكثير من الدروس البليغة والمفيدة