العالم والمبدع والمبتكر في عالمنا يعيش على الفتات، ولا ينال شكر السلطان، ولا يحسب لكلامه أي حساب، بل يكتم رأيه، ويكمم فاه اذا نطق بما فيه خير البلد ما لم يكن موافقاً لهوى السلطان، وهذا الداء قد دب الينا وهي من بقايا العصر المظلم الأوروبي. وقد قال د. خالص جلبي في مقال رائع بعنوان (لماذا يقتل العالم العربي المفكرين؟)، وبعد أن ذكر ثلة من المفكرين نقل عن (برتراند راسل)، قوله أن كل النهضة الغربية يعود فضلها لمائة دماغ لو اغتيلت أو قضي عليها لأجهضت النهضة وانطفأ عصر التنوير، وفي البيولوجيا، فإن الدماغ هو النسيج النبيل، والمفكرون في الأمة مثل الخلايا العصبية في الدماغ يتقدون ويقودون، فإذا حل السرطان بالجسم انتقلت. وحسب قانون (الكواكبي) أن الناس ثلاث: عوام ومستبدون وعلماء، والعوام يتأرجحون بين قطبي العلماء والمستبدين، فإن جهلوا خافوا، وإن خافوا استسلموا، والعلماء يعلمون، والعلم نور، والخوف جهالة وظلام، فإذا انتشر النور انقشع الظلام وانزاح الخوف، وما يبدئ الباطل وما يعيد، وجاء الأنبياء والفلاسفة يعلمون الناس، فمنهم من أوذي ومنهم من قتل وما بدلوا تبديلا. الموهبة في الغرب هي مناط التكليف أما في الشرق فهي مناط التأديب... والذرائع الناجحة عندهم تلف بالحرير وعندنا تلوى بعنف حتى تتوب من جريرة النجاح والتميز، وهذا هو معيار التقدم والتخلف، لأن عالم التكنلوجيا والصناعات هي نتاج التفكير والإبداع الفكري ثم ترجم عملياً ومادياً الى أن وصل الإنسان الى ماوصل اليه، ولا يزال في طور الإبداع والإكتشاف ما أعطى المفكرون والموهبون حظهم من التقدير والتكريم والإحترام، وأجزم بأن معيار تقدم أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية ترجع الى احترام وتقدير أصحاب الكفاءات العلمية، والحاضر والتايخ خير شاهد على ما نقول، فالشرق الإسلامي في العهد العباسين كان متقدماً ومزدهراً بالعلم والمعرفة فقد أسس العلماء أسس كل الحقول العلمية التي يفتخر بها الغرب اليوم من (الطب والرياضيات والفيزياء والفلك و...)، فكان الشرق غرباً للغرب والغرب شرقاً للشرق بالمفهوم المعاصر من الجانب العلمي والتكنلوجي فقط أما الجانب الأخلاقي فلا يزال يحتفظ الشرق به نسبياً ويفتخر به ويرجع السبب والفضل الى الدين الإسلامي، فلنا حضارة أخلاقية وهي مؤهلة اذا هذبت على الطريقة الإسلامية لكي تقود من جديد الحضارة التكنلوجية الغربية. وكان الغرب يومئذٍ يعيش أحلك أيامه وأقتمه فكان مجرد تعبير عن نظرية علمية جزاؤه الموت أو الحرق وما حصل لـ (كاليلو وكوبرنيكوس و...) يؤكد صحة ما ذهبنا اليه، ولكن سرعان ما تفطن الغرب لهذا الخلل الفكري، وأطاحت الثورة الإصلاحية بمثل هذه النظريات المتخلفة، وبدأ بتأسيس حضارة علمية عملية تجريدة ويرجع فضل هذا التقدم الهائل الى العلماء والمفكرين . المفكرون هم الذين يوصلون حلقات الدنيا الثلاث بعضها ببعض (الماضي والحاضر والمستقبل)، وهذا من أجل التوازن الفكري والمعرفي والإنساني، اذن فهم حلقات الوصل والتوضيح، وهم مصابيح الهدى، وهم الذين يبشرون بتوطيد دعائم المجتمع المتمدن والقانوني، والذي يتنكر لماضيه التاريخي والمعرفي يكون انساناً مائلاً غير مستوي، ولا يستطيع بناء حاضره ومستقبله، والذي يعيش فقط للمستقبل دون الإهتمام بالماضي والحاضر لايكون انساناً نافعاً لنفسه ولغيره، والذي يعيش في الماضي وحده ويترك الحاضر والمستقبل وراء ظهره يصاب بعقدة \"نوستلوجيا\" أي الحنين الى الماضي، ويصيب غيره باليأس والإحباط ويكون شعاره دوماً كان أبي كان أبي، أما المفكر والعالم هو الذي يقوم بربط هذه الحلقات الثلاث بعضها ببعض ويفسر هذه المفاهيم للناس على ضوء قوله تعالى (يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم). فباستقراء لواقعنا في المجال المعرفي والفكري والعلمي نصل الى أنه رغم انتفاء كل حوافز التشجيع والدعم المادي والمعنوي وتسهيل أمور الحياة له يضايق في فكره وحركته وابداعاته، وخوفاً على حياته ومحيطه ينكمش على نفسه ويخنق الإبداع والفكر في نفسه، فيجعل من نفسه مقبرة لأفكاره وابداعاته. لماذا لا يوجد مركز استراتيجي لكل المفكرين دون تميز للأفكار الحزبية الضيقة؟ ويفعل المراكز البحثية الإجتماعية لكي يقدموا الحلول للمشاكل والقضايا الإجتماعية، لأن المشاكل الإجتماعية التي تزداد يوماً بعد اليوم وتستعصى على الحل الإداري بحاجة ماسة الى الحل الفكري قبل الحل الإداري، فان الباحثين الإجتماعين في بحثهم عن المشاكل والقضايا الإجتماعية والسياسية والإقتصادية يصلون الى النقطة المركزية لهذه المشكلة ثم يحددون أسبابها وتداعياتها، ومن ثم يقومون بوضع العلاج المناسب للأشخاص والبيئة لكي يقضى على الوباء نهائياً. فنحن اليوم بأمس الحاجة الى المفكرين لكل قضايانا، لكي يضعوا من جديد النقاط على الحرف، وتكون للكلمات معاني نفهمها، ثم نكون منها جملاً مفيدة تكون بمثابة حلول جذرية لما نعاني منها، وهذه الطريقة ترجع الدور الريادي للعلماء والمفكرين ومراكز البحوث، ثم نستطيع أن نقول بعد ذلك بأننا بدأنا العروج في سلم المضي نحو جوهر التقدم، لأن العصب بدأ بالحياة من جديد، والمفكرون هم عصب هذه الأمة