الإجازة الصيفية والسفر

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : عبدالمحسن بن محمد القاسم | المصدر : www.kalemat.org

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

الوقت مُنقض بذاته مُنصرم بنفسه ومن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته وعظم فواته واشتدت حسراته، والأوقات سريعة الزوال وعلى المرء أن يعرف قيمة زمانه وقدر وقته فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، وللمسلم وقفات في مستهل إجازة العام:

 

الوقفة الأولى:

 

خير الأسفار ما كان في مرضاة الواحد الأحد، وقد كانت أسفار المصطفى بعد البعثة دائرة بين سفره للهجرة وسفره للجهاد، وهو أكثرها، وسفره للحج والعمرة، وفي السفر يرى المسافر من عجائب الأمصار وبدائع الأقطار ومحاسن الآثار ما يزيده إيماناً بقدرة الله وما يدعوه إلى شكر نعمة مولاه. في السفر انفراج الهم وزوال الغم وأخذ العبرة من الأمم الغابرة، والقرون السالفة فيه حصول العلم والآداب وصحبة الأمجاد وإكتساب المعيشة: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15].

 

الوقفة الثانية:

 

الزم حسن الصحبة في سفرك وتحلى بالمرؤة ومكارم الأخلاق واطلب لك رفيقاً صالحاً، إذا ضاقت بك الأمور لقيت منه ما يفرج كربك، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ( لا تؤاخ الفاجر فإنه يزين لك فعله ويحب أنك مثله ويزين لك أسوأ خصاله ).

 

الوقفة الثالثة:

 

كن مقتدياً بالمصطفى فكان إذا سافر خرج من أول النهار، وكان يستحب الخروج يوم الخميس، وأمر المسافرين إذا كانوا ثلاثة أن يؤمروا أحدهم، ونهى أن يسافر الرجل وحده وأخبر أن الراكب الشيطان والراكبين شيطانان والثلاثة ركب.

 

الوقفة الرابعة:

 

لقد اسبغ الله عليك نعمة المال والعافية وغيرك حُرم ذلك، فلا يكن سفرك إلا لأمر مشروع أو مباح، واحذر سفر المعصية فصاحبه ينتقل فيه من الأنس إلى الوحشة ومن سرور الأسفار إلى هم مطاردة الأفكار، يقول محمد ابن الفضل رحمه الله: ( ما خطوت خطوة منذ أربعين سنة لغير الله عز وجل ). واشكر نعمة الله عليك بعدم التطلع إلى المعاصي وإياك والبذخ في الإنفاق والتباهي بمالك عند الفقراء المسلمين فالمال دُول.

 

الوقفة الخامسة:

 

تذكر وأنت تسافر للنزهة مشقة سفر العلماء لتدوين العلم وحفظ الدين وهداية الأمة فقد سطروا من الأخبار أعجبها ومن الأحداث أحلكها متعرضين للفقر والجوع والمخاطر رغبة في الثواب ونشر الحق، فقد رحل الإمام إسحاق بن منصور المروزي رحمه الله من نيسابور إلى بغداد سيراً على قدميه حاملاً كتبه على ظهره، يسأل عن مسائل فقهية، ورحل ابن مندة يطلب العلم وعمره عشرون عاماً ولم يرجع إلى بلده إلا وعمره خمسة وستون عاماً يدون الحديث في تلك السنين الطويلة، ويقول أبو العالية رحمه الله: ( كنا نسمع الرواية عن أصحاب رسول الله ونحن بالبصرة فما نرضى حتى نركب إلى المدينة فنسمعها من أفواههم ). إنها همة العلماء وقوة العزيمة ومصارعة الأخطار لخدمة الدين، وتذكر وأنت ترحل بأسرتك للترويح عن نفسك فرحاً مسروراً إخوة لك أُخرجوا من ديارهم قهراً وشتت أُسرهم بين الأمصار جبراً وودعوا أوطانهم فراراً فلم يجدوا مأوى ولا ملاذاً. وتذكر وأنت في سفرك حفظ العلماء لأوقاتهم يقول الحسن البصري رحمه الله: ( لقد أدركت أقواماً كانوا أشد حرصاً على أوقاتهم من حرصكم على دراهمكم ودنانيركم ).

 

الوقفة السادسة:

 

قلم التكليف جارٍ على المرء في ظعنه وإقامته فكن داعية خير في سفرك، ولا تزدرنفسك في الدعوة إلى الله، فبركة الرجل تعليمه الدين حيثما حل ونصحه أينما نزل، قال عز وجل إخباراً عن المسيح عليه السلام: وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ [مريم:31]. وبذا يكون سفرك عبادة ونزهة.

 

الوقفة السابعة:

 

لا يكتمل النعيم إلا براحة الروح مع الجسد وقراءة القرآن وذكر الله يضفي على السفر راحة وطمأنينة يقول عز وجل: أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]. وبذا ينعم جسدك وتلتذ روحك ويجتمع لك النعيمان.

 

أخي المسلم:

 

لقد جاءت الشريعة بالحفاظ على دين المرء ودرئه عن الفتن والشبهات والشهوات وعدم تطلعه إليها، يقول النبي : { ومن استشرف إليها - أي الفتن - أخذته } [رواه البخاري].

وقد افتتن بعض الناس بالسفر إلى بلاد الكفار معرّضين دينهم وأرواحهم للهفوات والمخاطر ومصائد المحتالين، ولقد هيأ الله لبعض الناس السفر إلى هناك لقبض أرواحهم في تلك الديار، يقول النبي : { إذا قضى الله للعبد أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة } [رواه الترمذي وصححه].

في ديار الكفار تهافت على المادة وإنحطاط الأخلاق والسلوك وبعد عن القيم والمروءات، كم عاد منها من مسحور ومسلوب، وكم آب منها من مفتون ومبتلى، وكم ذرفت فيها الدموع أسفاً وندامة، ولقد أفتى أهل العلم بحرمة السفر إلى بلاد الكفار إلا لحاجة ومع علم يدفع الشبهات، وإيماناً يدرأ الشهوات، ومع إقامة شعائر الدين وليحذر المسلم المسافر من حب المشركين وموالاتهم ولا يغتر بما هم فيه من زخرف خادع أو دنيا قائمة فقد قال الله تعالى: فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55]. وقال عز وجل: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7]. وما أبهى السفر مع المقترن بالعبادة عمرة تكفر الخطايا وصلاة في مسجد رسول الله تعدل ألف صلاة، رحلة إيمانية وظفر بالخير في الدنيا والآخرة، قال عز وجل: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ [العنكبوت:20].