الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإنه نتيجة لبعد كثير من المسلمين عن ربهم، وجهلهم بدينهم في هذا الزمن، فقد كثرت فيهم الشركيات والبدع والخرافات. ومن ضمن هذه الشركيات التي انتشرت بشكل كبير تعظيم بعض المسلمين لمن يسمونهم بالأولياء والصالحين ودعائهم من دون الله واعتقادهم أنهم ينفعون ويضرون، فعظموهم وطافوا على قبورهم، ويزعمون أنهم بذلك يتوسلون بهم إلى الله لقضاء الحاجات وتفريج الكربات، ولو أن هؤلاء الناس الجهلة رجعوا إلى القرآن والسنة وفقهوا ما جاء فيهما بشأن الدعاء والتوسل لعرفوا ما هو التوسل الحقيقي المشروع.
إن التوسل الحقيقي المشروع هو الذي يكون عن طريق طاعة الله وطاعة رسوله بفعل الطاعات واجتناب المحرمات، وعن طريق التقرب إلى الله بالأعمال الصالحة، وسؤاله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، فهذه هي أداة القربى إلى الله والطريق الموصلة إلى رحمته ومرضاته. أما التوسل إلى الله عن طريق الفزع إلى قبور الموتى، والطواف عليها وتقديم النذور لأصحابها، والترامي على أعتابهم لقضاء الحاجات وتفريج الكربات، فإن هذا ليس توسلاً مشروعاً بل هذا هو الشرك والكفر والعياذ بالله. وأما ما جاء في توسل عمر بن الخطاب بالعباس رضي الله عنهما، الذي قد يحتج به البعض، فإن عمر توسل بدعاء العباس لا بشخصه، والتوسل بدعاء الأشخاص غير التوسل بشخصهم بشرط أن يكونوا أحياء، لأن التوسل بدعاء الحي نوع من التوسل المشروع بشرط أن يكون المتوسل بدعائه رجلاً صالحاً.
ثم إن الميت الذي يذهب إليه السائل ليسأل الله ببركته ويطلب منه العون قد أصبح بعد موته لا يملك لنفسه شيئاً، ولا يستطيع أن ينفع نفسه بعد موته فكيف ينفع غيره؟ ولا يمكن لأي إنسان يتمتع بذرة من العقل السليم يستطيع أن يقرر أن الذي مات وفقد حركته وتعطلت جوارحه يستطيع أن ينفع نفسه بعد موته فضلاً عن أن ينفع غيره. وقد نفى النبي قدرة الإنسان على فعل أي شيء بعد موته فقال: { إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له..} فتبين من الحديث أن الميت هو الذي بحاجة إلى من يدعو له ويستغفر له، وليس الحي هو الذي بحاجة إلى دعاء الميت، وإذا كان الحديث يقرر انقطاع عمل ابن آدم بعد موته، فكيف نعتقد أن الميت حي في قبره حياة تمكنه من الإتصال بغيره وإمداده بأي نوع من الإمدادات، كيف نعتقد ذلك وفاقد الشيء لا يعطيه والميت لا يمكنه سماع من يدعوه مهما أطال في الدعاء قال تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (13) إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر:14،13]. فنفى الله عنهم الملك وسماع الدعاء ومعلوم أن الذي لا يملك لا يعطي، وأن الذي لا يسمع لا يستجيب ولا يدري. وبينت الآية أن كل مدعو من دون الله كائناً من كان فإنه لا يستطيع أن يحقق لداعيه شيئاً، وكل معبود من دون الله فعبادته باطلة، قال تعالى: وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ [يونس:107،106] ويتبين من هذه الآية أن كل مدعو من دون الله لا ينفع ولا يضر، فإذاً ما الفائدة من عبادته ودعائه، وهذا فيه تكذيب لأهل الخرافة الذين يقولون ذهبنا للقبر الفلاني أو دعونا الولي الفلاني وحصل لنا ما نريد، فمن قال ذلك فقد كذب على الله، ولو فرض أنه حصل شيء مما يقولون فإنه قد حصل بأحد سببين:
1 - إن كان الأمر مما يقدر عليه الخلق عادة فهذا حصل من الشياطين لأنهم دائماً يحضرون عند القبور، لأنه ما من قبر أو صنم يعبد من دون الله إلا تحضره الشياطين لتعبث في عقول الناس، وهؤلاء المتوسلون بالأولياء لما كانوا من جنس عباد الأوثان صار الشيطان يضلهم ويغويهم كما يضل عباد الأوثان قديماً. فتتصور الشياطين في صورة ذلك المستغاث به وتخاطبهم بأشياء على سبيل المكاشفة، كما تخاطب الشياطين الكهان وقد يكون بعض ذلك صدقاً ولكن أكثره كذب. وقد تقضي بعض حاجاتهم وتدفع عنهم بعض ما يكرهون مما يقدر عليه البشر عادة، فيظن هؤلاء السذج أن الولي هو الذي خرج من قبره وفعل ذلك، وإنما هو في الحقيقة الشيطان تمثل على صورته ليضل المشرك المستغيث به، كما تدخل الشياطين في الأصنام وتكلم عابديها وتقضي بعض حوائجهم. كما نص على ذلك كثير من أهل العلم.
2 - أما إن كان الأمر مما لا يقدر عليه إلا الله كالحياة والصحة والغنى والفقر إلى غير ذلك مما هو من خصائص الله فهذا انقضى بقدر سابق قد كتبه الله قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وجعل وقته هذه اللحظة، ولم يحصل ذلك ببركة دعاء صاحب القبر كما يزعمون.
فينبغي على الإنسان العاقل أن لا يصدق مثل هذه الخرافات، وأن يعلق قلبه بالله وينزل حاجته به حتى تقضي ولا يلتفت إلى الخلق لأن الخلق ضعفاء مساكين فيهم الجهل والعجز، وكيف يطلب الإنسان حاجته من مخلوق مثله، وقد يكون ذلك المخلوق ميتاً أيضاً لا يسمع ولا يرى ولا يملك شيئاً، بل إنه لأعجز من أن يرفع ذرة من التراب الذي يواري جسده فهل هذا إلا عين الضلال والجهل والانحراف عن جادة الصواب، ولكن الشيطان يزين للناس ما كانوا يعملون. ويكفي بهذا العمل حقارة وخسة أن صاحبه يفتقر إلى الخلق ويعرض على الخالق جل وعلا، وهذا هو والله عمى البصائر وموت القلوب.
لقد اختلط الأمر على كثير من الناس اختلاطاً عجيباً جعلهم يجهلون حقيقة المعجزات والكرامات، فلم يفهموها على وجهها الصحيح، ليفرقوا بين المعجزات والكرامات الحقيقية التي تأتي من الله وحده إتماماً لرسالته إلى الناس، وتأييداً لرسله أو إكراماً لبعض أوليائه الصالحين الحقيقيين، لم يفرقوا بينها وبين الخرافات والأباطيل التي يخترعها الدجالون ويسمونها معجزات وكرامات ليضحكوا بها على عقول الناس وليأكلوا أموالهم بالباطل، ولقد ظن الجهلة من الناس أن المعجزات والكرامات من من الأمور الكسبية والأفعال الاختيارية التي تدخل في استطاعة البشر، بحيث يفعلونها من تلقاء أنفسهم وبمحض إرادتهم، وبهذا الجهل اعتقدوا أن الأولياء والصالحين يملكون القدرة على فعل المعجزات والكرامات في أي وقت يشاءون، وما ذلك إلا لجهل الناس بربهم وبحقيقة دينهم.
ونقول لهؤلاء إن تصوير ما يحدث من هؤلاء الدجالين على أنها معجزة أو كرامة لهذا الولي أو ذاك: إن ذلك كله كذب، وإنما هذه الحوادث كلها من عبث الشياطين أو من اختراع عقلية ماكرة اصطنعت تلك الحوادث الوهمية وسمتها كرامات ومعجزات لتضفي على أصحاب هذه القبور مهابة وإجلالاً فتجعل لهم بركات ليعظمهم الناس، ولتجذب الجماهير الساذجة لزيارة هذه القبور والتبرك بها وطلب الحاجات من أصحابها فتأتي لهم بالنذور من أموال وهدايا، وفي هذا عيش وكسب حرام لكل عاطل لا يريد العمل وإنما يريد الضحك على الناس وأكل أموالهم بالباطل.
ولا يمكن لأي عاقل يحتفظ بفطرته السليمة أن يصدق أن الميت يمكنه القيام بأي عمل بعد أن خرجت روحه من بدنه وبطلت حركته وأكل الدود جسمه وأصبح عظاماً بالية، من الذي يصدق مثل هذه المزاعم المفضوحة إلا إنسان جاهل ساذج، لأن هذه المزاعم التي يزعمونها مما يستحيل أن يفعلها الأحياء فضلاً عن الأموات. فهل نلغي عقولنا التي منحنا الله لنصدق مثل هذه الخرافات؟ إن العقول المستنيرة والفطر السليمة ترفض بشدة تصديق مثل هذه الخرافات لما في ذلك من مخالفة لسنن الله الشرعية والكونية.
إن الكثيرين من الناس من مرتادي القبور والمزارات يقولون إن المشركين في الجاهلية كانوا يعبدون الأصنام، أما نحن فلا أصنام عندنا نعبدها، بل لدينا قبور لبعض المشايخ والصالحين لا نعبدها ولكننا فقط نسأل الله أن يقضي حاجتنا إكراماً لهم، والعبادة غير الدعاء.
ونقول لهؤلاء إن طلب المدد والبركة من الميت هو في الحقيقة دعاء، كما كانت الجاهلية تدعو أصنامها تماماً ولا فرق بين الصنم الذي يعبده المشركون قديماً وبين القبر الذي يعيد الناس ساكنه حديثاً فالصنم والقر والطاغوت كلها أسماء تحمل معنى واحداً وتطلق على كل عبد من دون الله سواء كان إنساناً حياً أو ميتاً أو جماداً أو حيواناً أو غير ذلك، ولما سئل المشركون قديما عن سبب توسلهم بالأصنام ودعائهم لها كان جوابهم كما في قوله تعالى: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] أي وسطاء بيننا وبين الله لقضاء حاجاتنا، ومن ذلك يتبين أنه لا فرق بين دعوى الجاهلية الأولى وبين عباد القبور الذين ينتسبون إلى الإسلام اليوم فغاية الجمع واحدة وهي الشرك بالله ودعاء غير الله.
إن مجرد انصراف القلب والمشاعر كلها إلى مخلوق بالحب والتعظيم فيما لا يجوز إلا لله يعتبر عبادة له، فالذين يزعمون أنهم يحبون الموتى من الأولياء والصالحين لكنهم يعظمونهم ويقدسونهم بما يزيد عن الحد الشرعي هم في الحقيقة يعبدونهم لأنهم من فرط حبهم لهم انصرفوا إليهم فجعلوا لهم الموالد والنذور وطافوا حول قبورهم كما يطوفون حول الكعبة واستغاثوا بهم وطلبوا المدد والعون منهم، ولولا التقديس والغلو فيهم ما فعلوا كل ذلك من أجل الموتى، ومن غلوهم فيهم أيضاً أنهم يحرصون على أن يحلفوا بهم صادقين، بينما لا يتحرجون من أن يحلفوا بالله كاذبين هازلين، والبعض منهم قد يسمع من يسب الله تعالى فلا يغضب لذلك ولا يتأثر بينما لو سمع من يسب شيخه لغضب غضباً شديداً، أليس في ذلك غلو في أوليائهم ومشايخهم أكثر من تعظيمهم لله؟ وأن محبتهم لهم غلبت محبة الله، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ [البقرة:165]. وهذا النوع من الشرك هو شرك المحبة.
إن الله تعالى قريب من عباده، قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]. فليس بين الله وبين عباده ما يمنع من مناجاته واللجوء إليه وطلب الحاجة منه مباشرة حتى يلجأ الإنسان إلى قبور الموتى يتوسل بهم ويدعوهم ليشفعوا له عند الله ويسألهم ما لا يملكون ويطلب منهم ما لا يقدرون عليه. بل يجب على الإنسان أن يلجأ إلى ربه مباشرة وأن يسأله بلسانه هو، ويتوسل إليه التوسل المشروع وذلك بالتقرب إليه بالطاعات والأعمال الصالحة ودعائه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وأن يكون معتقداً تمام الإعتقاد أن الله تعالى هو المعز المحيي المميت الرازق النافع المدبر لشؤون الحياة كلها وأن بيده وحده النفع والضر، وأن يعتقد أنه لا يستطيع أي إنسان مهما عظم شأنه عند الله وعند الناس أن يضر أحداً أو ينفعه بشيء لم يكتبه الله له قال : { واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك بشيء إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك } فإذا كانت الأمة كلها لو اجتمعت على أن تنفع الإنسان أو تضره لم تستطع ذلك إلا بشيء قد كتبه الله، فالفرد سواءً كان حياً أو ميتاً من باب أولى، إنه لن ينفع ولن يضر أحداً إلا بشيء قد كتبه الله. إذاً فما الداعي لدعاء من لا ينفع ولا يضر؟ أليس ذلك هو غاية الجهل والضلال؟ بلى والله.
لذا فيجب على كل من ابتلي بمثل هذه الشركيات وهذه البدع والخرافات من طواف على القبور وتعظيمها وسؤال أصحابها الحاجات وتفريج الكربات، يجب عليه أن يتوب إلى الله من هذا العمل الفاسد الذي هو في الحقيقة شرك بالله تعالى وصاحبه مخلد في النار والعياذ بالله. قال تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]. وأن يخلص العبادة لله وحده لا شريك له في كل شأن من شؤون حياته إن كان صادقاً في إسلامه، وأن لا يلتفت لأحد من الخلق كائناً من كان لا في دعاء ولا غيره مما لا يقدر عليه إلا الله. وأن يلتزم كتاب الله وسنة رسوله وأن لا يخالط أهل البدع وأهل الشرك لئلا يتأثر بهم ويقلدهم فيهلك معهم ويخسر الدنيا والآخرة. والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين