الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد:
ما أشبه الإنسان بالهلال يبدو في أول الشهر وليداً، ثم يكبر حتى يبلغ أشده في منتصف الشهر فيكون بدراً واضح الرؤية عظيم الفائدة، وما يلبث كذلك إلا ويعود إلى الضعف والتراجع حتى يبلغ أرذل عمره قبل انصرام الشهر، ثم ينطوي ويختفي، ليظهر هلال شهر جديد وزمن جديد.
وكذلك الإنسان يولد صغيراً فقيراً حسيراً ثم يترعرع ويكبر حتى يبلغ أشده مروراً بمرحلة شبابه حتى اكتمال نضجه إذا بلغ أربعين سنة، قال تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [الأحقاف:15]، ثم يعود إلى الانحدار من جديد ليصل إلى آخر محطة وهي أرذل العمر إن كتب الله له بقاء حتى يصلها، وهو في هذه المحطة ينتظر قافلة هادم اللذات ليصحبهم إلى تلك الدار التي يقصدها ( شاء أم أبى ) فما هي إلا عشية أو ضحاها حتى يختفي هلال عمره ليهلّ عليه هلال عمر جديد وحياة جديدة لا يعلم تقديرها إلا مقدّرها عز وجل، تلكم هي حياة البرزخ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ [الحج:5].
والمتأمل في عمر الإنسان وعمر الهلال يدرك أن الأيام والليالي هي القاسم المشترك بين كل منهما، وكل يوم يمضي عليهما لا يعود إلى يوم القيامة، ولذا حثّ النبي على اغتنام العمر فقال: { اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك } [رواه الحاكم وصححه الألباني].
فسماها النبي غنائم، وكأن العبد في حرب مع الزمن؛ لأن العلاقة بين هذه الأمور المذكورة في الحديث هي عامل الزمن، فما بين الشباب إلى الهرم زمن، وما بين الصحة إلى السقم زمن، وما بين الغنى والفقر زمن، وما بين الفراغ إلى الشغل زمن، وما بين الحياة إلى الموت زمن، ومجموع ذلك هو العمر، فإما أن يغنمه، وإما أن يحرمه، فالشباب غنيمة ويفسده الهرم، والصحة غنيمة ويفسدها السقم، والغنى غنيمة ويفسده الفقر، والفراغ غنيمة ويفسده الشغل بما لا ينفع، والحياة غنيمة ويفسدها الموت، فما أكثر الغنائم، ولكن أين المغتنمون؟!
كم من شاب انفتل في ريعان شبابه وأصابته مقاتل إعجابه، لم يتذكر أن الموت يقطع كل لذة ويفسد كل متعة، وأن المنايا تخبط في الناس خبط عشواء، ومع ذلك فهو في اللهو واللعب ممتطياً كل ذلول وصعب، فلم يشعر بنفسه إلا والروح في الحلقوم تغرغر، وإلى من حوله ينظر هل من راق فيرقيه أو شاف فيشفيه وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ [سبأ:54]، وإن كان ممن أمهل حتى طال عمره وهو كذلك في لهوه ولعبه فإذا الأيام تنصرم والأعوام تندرس، فما يدرك نفسه إلا وهو في غياهب الكهولة تهب عليه عواصف الهرم فحينئذ لا ينفع الندم. عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: { أعذر الله إلى امرئ أخّر أجله حتى بلّغه ستين سنة } [رواه البخاري].
قال العلماء: ( معناه لم يترك له عذراً إذا أمهله هذه المدة ).
وكم من صحيح معافى داهمه السقم قبل أن يتحصن منه، فهو إما أن يكون ممن أصابته أمراض البدن فلم يعد قادراً على أداء المأمور به من العبادات وقد كان معافى فلم يبادر إليها؛ فتمنى ألا يكون قد فرّط أيام عافيته، وإما أن يكون ممن أصابه داء الغفلة فمرض قلبه حتى تراكمت الذنوب عليه فصارت راناً لا يمكنه التخلص منه كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطفيين:14] فأنى لمثل هذا أن يتدارك نفسه ( إلا أن يشاء الله ) وقد أضاع عمره بين سيئات الأماني ورديء المعاني، فما أدرك نفسه إلا وهو صريع الفراش، قد باع نفسه من الشيطان ببلاش أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:56-58].
وكم من غني موسر غزته جيوش الفقر والفاقة قبل أن يملأ خزائن آخرته. لم يبال من أي مصدر جمع أمواله، وما ترك مصرفاً من مصارف لذائذه وشهواته إلا وأنفق فيه إلا مصارف البر والإحسان لم يكن لها نصيب من نفقاته، وقد قال المعصوم : { لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع } وذكر منها: { وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه } [رواه الترمذي وصححه الألباني].
فلم يشعر ذلك الغني إلا وهو بين براثن الفقر يقلب كفيه وهي خاوية، وحاله كحال أصحاب الجنة إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ إلى أن قال سبحانه: كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [القلم:17-33].
وكم من متفرغ من الأعباء والمسئوليات أوقاته واسعة، والنعم بين يديه راتعة، فلم يقدر لذلك قدراً، ولم يعرف للنعمة عليه حقاً، بل أضاع أوقاته ما بين اللعب والطرب والسهر والسفر، قد انشغل بما لا يصلح شغلاً في الحقيقة، قتلته سهام الأماني ورماح التسويف، وليت هذا وأمثاله يستشعر قول المصطفى : { نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ } [رواه البخاري]. وصدق القائل:
مرّ أحد السلف عل قوم يتسامرون في مقهى قد علا ضحكهم وكثر لغطهم فتأوّه وقال: ( ليت أن الأوقات تباع وتشترى لاشتريت من هؤلاء أوقاتهم ). فمن حاله كذلك ولم يبادر إلى التوبة النصوح لن يستفيق إلا حين ينادى عليه: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ [المؤمنون:112].
وكم من حي غزاه الموت قبل أن يغزو إليه، اشتغل بدنياه وغرّته الأماني فلم يستفد من حياته إلا ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى، ولم يفق إلا وهو في عسكر الموتى مرهون بعمله، ولسان حاله يقول: رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:100،99] وما أكثر هؤلاء في هذا الزمان، أقوام هم في عداد الأحياء وهم في الحقيقة أموات.
فيا شاباً غرّه شبابه وأهلكه إعجابه، أما تعلم أن عاقبة الشباب هرم، أما علمت أن الموت بالمرصاد، والمنايا تتخطف الأكابر والأصاغر، والأباعد والأقارب، فما يدريك لعل الساعة الآتية ساعتك والمنية منيتك، فليت شعري ما الذي تتمناه وأنت في السكرات قد غشيتك العبرات. أأغنية تريد سماعها أم خمرة تدير كأسها، أم بغية تفجر بها، أم تريد ما قال ربك على لسان أولئك: رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:100،99].
ويا شيخاً أضاء الشيب طلعة محياه، قد استحيا الله منك فهل استحييت منه، قد جاءتك نذر ربك، فما عذرك من أولئك النذر إذا قيل لك: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ [غافر:37]، أم أنت كما قال القائل:
وكيف سيكون لقاؤك لرسل ربك، وما ردك عند طلبهم لك، فوصيتي إليك أيها الشيخ أن تستعد للقاء ما دمت في البقاء، واربط حزام الإيمان لعلك تصل إلى الله بأمان.
ويا فتاة فتنت بحسن طلعتها وبهجتها وجمالها، فتنت بالثياب وموضتها، والشعور وقصتها، والقنوات وفضيحتها، والمجلات وخلاعتها، أيسرك أن تلقى ربك بهذا، أما تذكرت حديث الكاسيات العاريات، المائلات المميلات، اللاتي لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها؟! أما تذكرت أن أكثر أهل النار من النساء فتتقي ذلك بالتوبة النصوح؟!
فشمري يا أختاه عن ساعد الجد، واعلمي أن الدنيا لا تدوم على حال، وأن الموت قد يحول بينك وبين الآمال، وفقني الله وإياك لصالح الأعمال.
وأخيراً.. أخي رعاك الله قبل رحيل هذا القلم أذكرك بالرحيل الأعظم، واسأل نفسك بأي شيء تلقى ربك؟! ما جوابك حين تقف أمامه فيسألك: ( يا عبدي، ألم أصح جسدك، ألم أطعمك وأروك من الماء البارد ) ما حيلتك حين يقررك بذنوبك فتراها في صحيفتك لم تغادر منها شيئاً؟! فوالله إن ذل ذلك الموقف وخجله لهو عذاب في حد ذاته، فكيف بجهنم أعاذني الله وإياك؟ لكني أزفها إليك بشرى من لسان من لا ينطق عن الهوى حتى لا تقنط من رحمة ربك سبحانه، فإنه مع ذلك كله يضع كنفه على عبده فإذا قرره بذنوبه قال له: ( يا عبدي سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ).
فهل لك أخي أن تراجع النفس قبل أن يضيق النفس، وتعود إلى ربك قبل أن يختم على قلبك: كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [ القيامة:26-30].
وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.