الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:
إن تعاقب الشهور والأعوام على العباد من نعم الله الغزار، قال جل وعلا: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمسَ وَالقَمَرَ دَائِبَينِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الليلَ والنَّهَارَ (33) وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعمَتَ اللهِ لا تُحصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34،33]، ويقول عليه الصلاة والسلام: { نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ } [أخرجه البخاري في الرقاق:6412 من حديث ابن عباس رضي الله عنه].
وقد أقسم الله في آيات عديدة من كتابة بأجزاء من الوقت من الليل والنهار والفجر والعصر والضحى، ونحن قد ودعنا عاماً حافلاً من أعمارنا، واستودعنا فيه أعمالنا، تُنشر يوم الحشر أمامنا، فما أسرع ما مضى وانقضى، وما أعظم ما حوى، كم من حبيب فيه فارقنا، وكم من بلاء فيه واجهنا، وكم من سيئات فيه اجترحنا، والليالي والأيام خزائن للأعمال ومراحل للأعمار، تبلي الجديد وتقرب البعيد، أيام تمر، وأعوام تكر، وأجيال تتعاقب على دروب الآخرة، فهذا مقبل وذاك مدبر، والكل إلى الله يسير، يقول المصطفى : { كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها } [أخرجه مسلم في الطهارة:223 من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه].
في الدهر آلام تنقلب أفراحاً، وأفراح تنقلب أتراحاً، أيام تمر على أصحابها كالأعوام، وأعوام تمر على أصحابها كالأيام، واللبيب من اتخذ في ذلك عبرةً ومدَّكراً، قال سبحانه: يُقَلِّبُ اللهُ الليلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبرةً لأُوْلِي الأَبصَارِ [النور:44]. والعام ولى بما أودع فيه العباد من أفعال، وستعرض عليهم أعمالهم، يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَومَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة: 13].
فانظر في صحائف أيامك التي خلت؛ ماذا ادخرت فيها لآخرتك؟ واخل بنفسك وحاسبها حساب الشحيح، يقول ميمون بن مهران: ( لا يكون العبد تقياً حتى يكون مع نفسه أشد من الشريك مع شريكه ) [أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف:7/235،195، وأبو نعيم في الحلية:4/ 89، وعلقه الترمذي في الرقاق:2459]. والرشيد من وقف مع نفسه وقفة حساب وعتاب؛ يصحح مسيرتها ويتدارك زلتها، يتصفح في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محموداً أمضاه، واستبق بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموماً استدركه وانتهى عن مثله في المستقبل؛ لأنه مسافر سفر من لا يعود، يقول ابن حبان: ( أفضل ذوي العقول منزلة أدومهم لنفسه محاسبة ) [روضة العقلاء:19].
وإن غياب محاسبة النفس نذير غرق العبد في هواه، وما أردى الكفار في لجج العمى إلا ظنهم أنهم يمرحون كما يشتهون بلا رقيب، ويفرحون بما يهوون بلا حسيب، قال سبحانه عنهم: إِنَّهُم كَانُواْ لا يَرجُونَ حِسَاباً [النبأ:27].
والاطلاع على عيب النفس ونقائصها ومثالبها يلجمها عن الغي والضلال، ومعرفة العبد نفسه وأن مآله إلى القبر يورثه تذللاً وعبودية لله، فلا يُعجب بعمله مهما عظم، ولا يحتقر ذنباً مهما صغر، يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: ( لا يتفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً ) [أخرجه عبدالرزاق في المصنف:11/255، وابن أبي شيبة في المصنف:7/ 110)، والطبري في تفسيره:1/258، وأبو نعيم في الحلية:1/211].
وإذا جالست الناس فكن واعظاً لقلبك، فالخلق يراقبون ظاهرك، والله يراقب باطنك، ومن صحح باطنه في المراقبة والإخلاص زين الله ظاهره في المجاهدة والفلاح. والتعرف على حق الله وعظيم فضله ومنه وتذكر كثرة نعمه وآلائه يطأطىء الرأس للجبار جل وعلا، ويدرك المرء معه تقصيره على شكر النعم، وأنه لا نجاة إلا الرجوع إليه، وأن يطاع فلا يعصى، وأن يشكر فلا يكفر، يقول أهل العلم: ( بداية المحاسبة أن تقايس بين نعمته عز وجل وجنايتك، فحينئذ يظهر لك التفاوت، وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمته أو الهلاك والعطب ).
وتفقد عيوب النفس يزكيها ويطهرها، قال سبحانه: قَد أَفلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَد خَابَ مَن دَسَّاهَا (10) [الشمس:10،9]، يقول مالك بن دينار: ( رحم الله عبداً قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟! ألست صاحبة كذا؟! ثم زمَّها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب ربها، فكان لها قائداً ) [انظر إحياء علوم الدين:4/405، وإغاثة اللهفان:1/79].
وإن أضرَّ ما على المكلف إهمال النفس وترك محاسبتها والاسترسال خلف شهواتها حتى تهلك، وهذا حال أهل الغرور الذين يغمضون عيونهم عن المعاصي ويتكلون على العفو، وإذا فعلوا ذلك سهُلت عليهم مواقعة الذنوب والأنس بها والله يقول: يَأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ [الانفطار:6]، يقول الحسن البصري رحمه الله: ( لا يليق بالمؤمن إلا أن يعاتب نفسه فيقول لها: ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بأكلتي؟ وأما الفاجر فيمضي قدماً لا يعاقب نفسه ) [أخرجه أحمد في الزهد:281، وعزاه في الدر المنثور:8/343 إلى عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس].
والمؤمن قوام على نفسه يحاسبها، قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُم طَائِفٌ مِّنَ الشَّيطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبصِرُونَ [الأعراف:201] وإنما خف الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وشق الحساب على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة، فتوق الوقوع في الزلة، فترك الذنب أيسر من طلب التوبة، وأنبها على التقصير في الطاعات، فالأيام لا تدوم، ولا تعلم متى تكون عن الدنيا راحلاً، وخاطب نفسك: ماذا قدمت في عام أدبر؟ وماذا أعددت لعام أقبل؟ يقول الفاروق رضي الله عنه: ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا ) [أخرجه ابن المبارك في الزهد:103، وابن أبي شيبة في المصنف:7/ 96، وأبو نعيم في الحلبة:1/ 52، وعلق بعضه الترمذي في الرقاق:2459 بنحوه، وأورده الألباني في السلسلة الضعيفة:1201].
وعاهد نفسك في مطلع هذا العام على المحافظة على الصلوات الخمس في المساجد جماعة مع المسلمين، والتزود من العلم النافع والسعي في نشره وتعليمه، وحفظ اللسان عن المحرمات من الكذب والغيبة والبذاءة والفحش، وعليك بالورع في المطاعم والمشارب، واجتناب ما لا يحل، واحرص على بر الوالدين وصلة الأرحام، وبذل المعروف للقريب والبعيد، وتطهير القلب من الحسد والعداوة والبغضاء، واحذر الوقيعة في أعراض المسلمين، واجتهد بالقيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأداء حقوق الأولاد والزوجة على الوجه الأكمل، وغض البصر عن النظر إلى المحرمات في الطرقات أو الفضائيات، وما أجمل أن يكون هذا العام انطلاقة تغير في المجتمعات، ومحافظة النساء على حجابهن، والتزامهن بالستر والحياء، إمتثالاً لأمر الله واتباعاً لسنة رسول الله واقتفاء بسير الصحابيات والصالحات.
فالليل والنهار يباعدان من الدنيا ويقربان إلى الآخرة، فطوبى لعبد انتفع بعمره، فاستقبل عامه بمحاسبة نفسه على ما مضى، فكل يوم تغرب فيه شمسه ينذرك بنقصان عمرك، والعاقل من اتعظ بأمسه، واجتهد في يومه، واستعد لغده، فخذ الأهبة لآزف النقلة، وأعد الزاد لقرب الرحلة، وخير الزاد التقوى، وأعلى الناس عند الله منزلة أخوفهم منه.
يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَلتَنظُر نَفسٌ مَّا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِير بِمَا تَعمَلُونَ [الحشر:18].
فاتحة شهور العام شهر الله المحرم، من أعظم الشهور عند الله، عظيم المكانة قديم الحرمة رأس العام، من شهر الله الحرام، فيه نصر الله موسى وقومه على فرعون وملته، ومن فضائله كثرة صيام أيامه، يقول عليه الصلاة والسلام: { أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل } [رواه مسلم].
وأفضل أيام هذا الشهر يوم عاشوراء، يقول ابن عباس رضي الله عنهما، قدم النبي المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم: { ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ } قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً، ونحن نصومه، فقال عليه الصلاة والسلام: { نحن أحق بموسى منكم }، فصامه وأمر بصيامه. [متفق عليه]. ولمسلم عن أبي قتادة أن رسول الله سُئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: { أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله }.
وقد عزم على أن يصوم يوماً قبله مخالفة لأهل الكتاب فقال: { لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع }. فيستحب للمسلمين أن يصوموا يوم عاشوراء اقتداء بسنة المصطفى ، وطلباً لثواب الله عز وجل، وأن يصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده مخالفة لليهود، وعملاً بما استقرت عليه السنة، وذلك من شكر الله عز وجل على نعمه، واستفتاح هذا العام بعمل من أفضل الأعمال الصالحة التي يرجى فيها ثواب الله سبحانه.
وصلَّى الله على محمد وآله وسلم.