عن المياه العذبة لم يقل (هذا عذب) فقط، إنما قال (فُرَاتٌ) وكلمة (فرات) في اللغة أي: المستساغ المذاق، لو كانت مياه النهر عذبة مائة بالمائة ليس لها طعم، وليس لها أي شيء يستساغ، ولكن عندما تمتزج مع هذه الأملاح والمعادن إلى آخره فإنها تكسبها هذا الطعم المستساغ الذي نُحس به أثناء شربنا لهذه المياه العذبة.
عندما قال تبارك وتعالى (هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ) إنما تعامل القرآن مع قضية المياه بدقة علمية كبيرة، فعلماء المياه اليوم يصنفون المياه حسب درجة الشوائب التي فيها، أو الأملاح التي تحتويها، فالماء المقطر هو ماء عذب مائة بالمائة، والماء الفرات هو ماء الأنهار يحوي نسبة ضئيلة جداً من الأملاح لا نحس بها ولكنها موجودة، والله تبارك وتعالى عبر عن ذلك بكلمة فرات (هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ). أما المياه الخاصة بمياه البحار: هذه المياه تحتوي كميات زائدة من الملح، لم يكن أحد يعرف ذلك الأمر ولكن القرآن وصف لنا بأن ماء البحر هو (مِلْحٌ أُجَاجٌ). ولو تابعنا تدبر الآية الكريمة يقول تبارك وتعالى: 1- (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً) جعل بين البحر المالح والنهر العذب برزخاً: أي مسافة فاصلة يمتزج فيها هذين البحرين ولا يطغى أحدهما على الآخر، هذه المنطقة هي المنطقة الحساسة جداً التي سماها العلماء منطقة المصب. ولم يكن أحد يعلم شيئاً عن هذه المنطقة، يعني حتى كلمة (المصب) أو (منطقة المصب) تحديداً هذا مصطلح علمي حديث لم يكن موجوداً زمن النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يكن أحد يعلم شيئاً عن وجود برزخ أو منطقة فاصلة. وبالفعل ثبت أن هذه المنطقة الفاصلة بين البحر المالح والنهر العذب، هذه المنطقة لها خصائص ولها ميزات ولها صفات تختلف عن كلا البحرين (العذب والمالح). 2- (وَحِجْراً مَحْجُوراً) أي أن هنالك حجر أشبه بالجدار الذي يحجز ماء النهر عن ماء البحر، كأن هنالك منطقة محصنة وحجراً محجوراً أي حصناً منيعاً لا يسمح لأحد البحرين أن يطغى على الآخر، وهذا ما وجده العلماء حديثاً، ولم يتسرب الخلل إلى هذه المنطقة إلا عندما لوث الإنسان الأنهار ولوث البحار فاختل التوازن في هذه المنطقة. اليوم يعمل العلماء على إعادة التوازن لمنطقة (المصب) بسبب حساسيتها وأهميتها البيئية، وهذا ما أخبرنا به القرآن عندما قال: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) يعني انتبه أيها الإنسان إلى أهمية هذه المنطقة، لا تلوثها لأن الله تبارك وتعالى جعلها منطقة توازن حساسة جداً، وهي تشكل مصدراً لك ولغيرك من المخلوقات التي تعيش في هذه المنطقة. والآن نتساءل عن الهدف من وراء ذكر هذه الحقيقة العلمية في القرآن الكريم؟ لماذا حدثنا الله تبارك وتعالى عن برزخ، وعن ماء فرات، وماء أجاج وحجر محجور وامتزاج واختلاط واضطراب لماذا؟ إذا تدبرنا سورة الفرقان حيث وردت هذه الآية، نلاحظ أن الله تبارك وتعالى أحياناً يخبرنا عن الهدف من الحقيقة العلمية قبل ذكر الحقيقة، فقبل هذه الآية ماذا يقول تبارك وتعالى بعدما عدد آيات كثيرة عن البحار وعن المياه وعن الرياح وغير ذلك آيات كونية ذكرنا بنعمه عز وجل قال: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) [الفرقان: 52] هذه الآية ماذا تعني؟ تعني أن كل مؤمن مطلوب منه أن يجاهد في سبيل الله ولكن بما يتناسب مع العصر الذي يعيش فيه، فالقرآن الكريم ذكر الجهاد في كثير من مواضعه ولكن المرة الوحيدة التي ذكر فيها الجهاد الكبير كانت في هذه الآية. يقول تعالى: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ) أي بالقرآن (جِهَادًا كَبِيرًا)، (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا) [الفرقان: 53] كأن الله تبارك وتعالى يريد أن يوصل لنا رسالة من خلال هذه الحقيقة الكونية، أنه سيأتي زمن يكون فيه الجهاد الكبير هو الجهاد بالعلم، الجهاد بحقائق القرآن، إذ أننا عندما نُخاطَب يقول الله تعالى لنا (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ) أي بالقرآن جهاداً كبيراً، كيف نجاهد غير المؤمنين بالقرآن؟ من خلال تعريفهم على حقائق القرآن. وبما أننا نعيش عصر العلم وعصر التقنيات العلمية وعصر الاكتشافات العلمية فكانت أفضل وسيلة لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام هي لغة الحقائق العلمية التي أودعها الله في هذا الكتاب لأن الله تبارك وتعالى عندما حدثنا عن هذه الحقيقة إنما حدثنا لهدف وهو أن تكون هذه الحقيقة سلاح بأيدينا نحن المسلمين لدعوة غير المسلمين إلى طريق الله تبارك وتعالى.