كابوس الكفر الجزء الثاني

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : هارون يحيى | المصدر : www.55a.net

 

في المجتمعات البعيدة عن قيم الدين تسمع الناس يقولون: "عندي أصدقاء كثر لكن ليس بينهم صديق واحد يمكن التعويل عليه" أو تسمعهم يقولون: "إنني لا أثق بأي من أصدقائي". فرغم ما لهؤلاء الناس من صداقات حميمة ظاهريا إلا أنهم يشعرون في قرارة أنفسهم بالحرمان من الأصدقاء. ومن المستبعد جدا أن يعثروا على أصدقاء مخلصين. وهذه الحقيقة هي التي تثنيهم عن السعي لإقامة صداقات أفضل. وما ذاك إلا لأن الصداقة الحق تقتضي من طرفيها اجتهادا وتضحية. فالصديق الحق هو الذي لا يتردد في التضحية من أجل أصدقائه إذا حلت بهم ضائقة أو طرقهم مكروه، فلا يتأخر عن مواساتهم بماله  أو بوقته أو بأي شيء آخر من نفيس ما يملك. لكن ليس للناس في المجتمعات الغافلة عن هدى الدين دافع للتضحية والإيثار. 
فلو مرض أحدهم فجأة مثلا فالراجح أن يستثقل صديقه نقله إلى المستشفى أو دفع نفقات علاجه أو البقاء بجانبه في المستشفى لرعايته. وأغلب الظن أنه سينتحل المعاذير ويتحجج بضرورة ذهابه للعمل أو للمدرسة أو البقاء مع أسرته بدلا من البقاء إلى جانب صديقه الذي يحتاج إلى العون. والأدهى من ذلك أن الجميع يعتبرون هذا تصرفا عاديا لا يدعو للاستغراب. 
إن هذا هو السبب الرئيس في انعدام الصداقة الصدوقة في المجتمعات الشاردة عن مبادئ الدين، فحتى الأزواج لا تقوم علاقاتهم على الأمانة والوفاء، إذ لا يلبث الحب أن يتلاشى في وقت قصير. فالأسباب الاقتصادية والضغوط الاجتماعية هي التي تشدهم إلى بعضهم بعضا لسنوات طويلة. وتدفعهم هذه الظروف إلى التعويل على أبنائهم لتأمين مستقبلهم لكن هذا المسعى يخيب أيضا بسبب تقوقع الأبناء على أنفسهم، إذ يصدهم الطمع الدنيوي والأنانية عن مد يد العون لوالديهم. ولهذا كتب على كل من يتنكب سبيل الإيمان أن يحيا وحيدا محسورا يتجرع كأس العزلة ولا يكاد يسيغه.
التمسك بقيم الدين يبدد كافة المخاوف الدنيوية
تنتاب الأشخاص الذين بعدوا عن الله ولا يتوكلون عليه هموم ومخاوف لا أساس لها. ولهذا فهم في قلق وخوف دائم مما يخبئه لهم المستقبل، ومن احتمالات انتهائهم إلى الوحدة أو أن تذهب عنهم أموالهم. إنهم يوجلون من أن يتعرضوا لحادث، وفوق ذلك، فإنهم يهابون الموت ويجزعون من مجرد التفكير فيه: "قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (الجمعة: 8).فالموت في تصور الكفار لغز لا يسبر غوره. فحتى لو لم يكونوا يؤمنون بالحياة بعد الموت فإنهم يفكرون كثيرا في مواجهته وترتعد فرائصهم لمجرد التفكير في أنه سيحل بساحتهم يوما ما. إن تكذيبهم للدار الآخرة يضفي على الموت هالة كبيرة من الرهبة في أذهانهم. فهم يظنون أن الموت سيجعلهم نسيا منسيا ولن تتاح لهم أبدا فرصة ثانية للحياة. والحق أن خوفهم من الموت ينبع في الأساس من خوفهم من الحرمان من متع الحياة والفناء لا من حقيقة اليوم الآخر. ولهذا يسعى هؤلاء الناس لمدافعة هذا الخوف من الفناء بابتداع آثار ضخمة تخلد ذكراهم: "وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُون" (الشورى: 129)
إن مجرد التفكير في الموت يطوّح بالكفار في مهاوي البؤس. وحتى لو اجتهدوا في الكف عن التفكير في الموت فإن مشاهده تطل عليهم كل يوم من على صفحات الصحف وشاشات التلفاز. كما تظل حالات الموت التي تتخطف الناس من حولهم وحوادث الأمراض والإصابات التي يتعرض لها أشخاص آخرون في أماكن أخرى، تذكرهم أبدا بنهاية هذه الحياة. ومع هذا فهم يدأبون في تحاشي التفكير في الموت. وإن جاء ذكر الموت على لسان أحد الناس شغبوا عليه وأنسوه النهاية القادمة.
إن تنوع الصور التي يأتي بها الموت يملأهم رعباً. ولذلك تجدهم يتفادون المرور بقرب المقابر مثلا، كما ينفرون من السكنى بجوار المقابر. لكن هيهات، ففوت الموت بعض المستحيل. وهذه الحقيقة الراسخة يحكيها القرآن في قوله تعالى: "أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا" (النساء: 78).
إن الموت والحياة الآخرة حقيقتان يدركهما المؤمنون تمام الإدراك ولا تلهيهم الحياة عن التفكير فيهما والاستعداد لهما. فالموت في نظرهم يأخذهم للقيا بارئهم ويقربهم زلفى من دار الخلود والنعيم المقيم ومن الحياة التي لا موتفيها. فهم يوقنون بأن الموت لا يعني نهاية حياتهم وفنائهم ولهذا خلت قلوبهم من رهبته.
التمسك بهدى الدين يزيل الخوف من المستقبل
إن الناس، كل الناس، ما خلا المؤمنين، يساورهم فضول وتطلع وإشفاق مما يخبئه لهم المستقبل. وتغذي قلقهم هذا الحوادث المؤسفة والقروح التي ربما مستهم في أوقات ما من حياتهم وشعورهم بأنهم قد يمسهم مثلها في قادمات الأيام. وهناك، إلى جانب هذه المخاوف المقيمة، مخاوف يومية تتبدى في صور شتى وفي أطوار مختلفة من حياة المرء. وقد تتمثل هذه المخاوف اليومية الصغيرة مثلا في بحث دراسي يتعين على طالب ما الفراغ منه في حيز زمني ضيّق. ومع تقدم عمر الإنسان تزداد التعقيدات التي يصنعها لنفسه وقد يلازم الخوف من هذا التعقيدات الإنسان ما دام حيا.
وبالنسبة لتلميذ في المرحلة الثانوية فإن شكله وعلاقته بأصدقائه وشهرته وسط مجموعته ونجاحه في الدراسة وعلاقته بأسرته تمثل في نظره أهم المشكلات في العالم. ولهذا فهو يصاب بنوبة من الضغط النفسي لأصغر أزمة تواجهه، وتشتدد معاناته بوجه خاص عندما يكون بصدد اتخاذ قرار فيما يتعلق بحياته المهنية. وغني عن القول أن هذه مشكلات لا ينبغي أن تسبب للمرء ضغطا نفسيا عميقا. فمن الطبيعي أن يرغب المرء في الحصول على الوظيفة التي يعتقد أنها ستجلب له السعادة والنجاح، لكن إن أخفق المرء في الحصول على هذه الوظيفة رغم حرصه عليها فما عليه سوى أن يكل أمره إلى الله سائلا إياه أن يتفضل عليه بنعمة أخرى. ولا شك أن النجاح والفشل كليهما يذهبان أدراج الرياح بعد الموت. ولا يبقى إلا ثقة المرء بربه وإيمانه به.
لكن الغافلين عن قيم الدين ولجهلهم بهذه الحقيقة المهمة يشعرون بخوف أكبر بشأن المستقبل كلما تقدم بهم العمر. وبالإضافة إلى خططهم بشأن المستقبل فإن كثرة المهام والمسئوليات الدنيوية تقلقهم، إذ تتعدد المشكلات التي تحيط بهم وتنتابهم، بمرور الوقت، أفكار شتى منها على سبيل المثال: هل ستتم ترقيتهم في الشركة، هل سيأخذون عطلة في ذلك الصيف أو أين سيقضون العطلة السنوية وهل ستتاح لهم فرصة الانتقال لمنزل أفضل حالا أم هل سيتمكنون من الحضور في الوقت المحدد للاجتماع.
وأكثر ما يقض مضاجع هؤلاء هو خوفهم من تردي أوضاعهم المالية، إذ ينتابهم قلق شديد بشأن قدرتهم على إعالة أسرهم في المستقبل. إن لهم طموحات دنيوية عريضة لكن مواردهم محدودة ولا تتيح لهم تحقيق هذه الطموحات. ثم لا يلبث هذا الأمر أن يغدو مصدرا كبيرا لمخاوفهم، ولأجل هذا السبب يحجمون عن إسداء المعروف للآخرين رغم ما بحوزتهم من ثروات تكفل لهم عيشا هنيئا. إنهم قلقون بشأن المستقبل ويتصرفون بلؤم سواء الغني منهم أم الفقير. لكن الله هو الذي يتكفل برزقهم في الحياة الدنيا وهو الذي يرفع عنهم البلاء إن توكلوا عليه حق توكله، إلا أنهم حرموا هذا النعيم بسبب ضعف ثقتهم في الله. إن الإنسان مبتلى بالنعم التي يتفضل بها عليه خالقه ومأمور بأن يسخر هذه النعم في طاعة الله، لكن خوف هؤلاء الناس بشأن المستقبل يجعلهم محصورين في نطاق مصالحهم الشخصية الضيقة وهذا الوضع تشير إليه الآية التي يقول الله فيها: "الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيم ٌ" (البقرة: 268)
وهناك خوف مقيم آخر ينتاب الإنسان بشأن المستقبل،، ألا وهو تقدم السن. فعندما تكبر سن الإنسان تحدث تغييرات في جسده، فتغطي جبينه التعرجات ويأخذ شعره في التساقط ثم يبيّض لونه وتضعف حواسه تدريجيا. وتثير كل واحدة من هذه الآثار الفزع والهلع في نفوس الذين يجهلون أخلاق الدين. فيتساءلون مثلا: هل سيعتني بهم أبناؤهم إن أصابهم مرض؟ ويفكرون كذلك في كيفية مواجهتهم للموت الذي سيلاقيهم يوما ما. ومن دواعي قلقهم الكبيرة هو ما ستؤول إليه حياتهم بعد موت أزواجهم.
هذه ببساطة هي المشكلات والمخاوف التي تصيب أصحاب القلوب الخالية من الإيمان. لكن الأمر جد مختلف عند المؤمنين، فقلوبهم خلو من هذه المخاوف ولا تحزنهم البلوى تصيبهم لأنهم يقطعون بأن كل ما يجري لهم لا يعدو كونه تقديرا إلهيا وراءه من الحكم ما وراءه. ولذلك فهم لا يرجون غير هدى الله لأنهم يؤمنون أنه هو وحده ملتحدهم الذي إليه يأوون. هذا بالإضافة إلى عدم خوفهم من أي شيء أو وضع في هذه الحياة الدنيا. فهم يكلون أمرهم إلى الله وينشدون رضاه. وهذا الموقف الإيماني تحكيه الآية التالية: "قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون" (التوبة: 51). ويحكي صلابة إيمان المؤمنين بربهم وتوكلهم عليه الحديث المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي يقول فيه: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك. وإذا سألت فأسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشي لا ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وأنهم لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لا يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف" (الترمذي)
إن المرء إذا اعتصم بمبادئ الإسلام مقيما لها وجهه تلاشت من طريقه كثير من المشكلات والمعاناة، وعاش حياة ملؤها الأمن والهناء. إن عند الدين حل لكل أزمة ومخرج من كل ضيق. والمتدينون يشعرون بالراحة والتحلل من الأعباء، وما ذاك إلا لقناعتهم الراسخة بأن كل ضر يصيبهم إنما هو ابتلاء من رب العالمين. ففي غمرة الشدائد تجدهم يحتسبون الأجر بالثقة في الله. وبالمثل تراهم شاكرين لأنعم الله عليهم في الحياة الدنيا ويتطلعون إلى ما في الدار الآخرة من حسنات. إن هذه القناعة هي بلا شك امتياز تحقق للمؤمنين بسبب تمسكهم بأخلاق الإسلام. لكن لا سبيل إلى تحصيل هذا الامتياز إلا بقوة الإيمان والثقة بالله والتسليم لأمره. فالذين تجتمع فيهم هذه الخصال هم وحدهم الذين لا ترى عليهم وعناء القلق. أما الآخرون الذين تكتنفهم الهموم والمخاوف وتحيط بهم من كل جانب، فيذوقون نصيبهم من العذاب وهم على قيد الحياة وحين تقوم الساعة يردون إلى أشد العذاب.
أخلاق الإسلام تحث المؤمنين على التواضع
يأمر الله الناس في كثير من آي القرآن بأن يتواضعوا ويذكرهم مرارا بسخطه على كل جبار متعجرف. ولهذا ليس أمام المؤمن خيار سوى التواضع. إلا أن الكافرين لا يمكن أن يتواضعوا وذلك بسبب بعدهم عن الهدى الرباني. إذ تصبح عندهم المزايا الشخصية كالذكاء والغنى والجمال والشهرة دواعي للإعجاب بالذات وتصعير الخدود واحتقار الآخرين. إنهم دوما يسعون إلى التفوق على الآخرين في مجالات الجاذبية الشخصية والتميز والذكاء، لكنهم يذهلون، في عماهة سكرتهم هذه، عن حقيقة أنهم سيلاقون الموت يوما ما وأنهم سيفارقون كل شيء مما تشتهيه نفوسهم وأن ما يدلون به من جمال ورشاقة قوام سيتحلل متلاشيا في الثرى. إنهم في حقيقة الأمر يبالغون في الاعتداد بالنفس وهو في فهمهم علامة على سلامة الشخصية.
إن الغرور هو الذي يمنعهم من معاملة الناس بحب واحترام خالصين. فهم يتوقعون أن يعاملهم الآخرون بكل محبة واحترام لكنهم يظنون أن مقابلة هذا الحب وهذا الاحترام بمثله أو بأحسن منه، غباء لا يليق بهم. إن الناس الذين يجهلون مبادئ الإسلام مصابون بالنرجسية وتضخم الأنا. كما يدفعهم ظنهم أنهم قد أحاطوا علما بكل شيء،، إلى محاولة السيطرة على الآخرين واغتنام كل سانحة لإذلالهم. والشيء المهم هنا هو أن هؤلاء الناس ليسوا حالة نادرة أو استثناء، إذ ينطبق هذا الوصف على كثير من الناس في المجتمعات الغافلة عن قيم الدين: "وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُول " (الإسراء: 37)وفي آية أخرى: "وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور" (لقمان: 18)ولقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمنين من الكبر وذلك في الحديث: "بئس الرجل المتكبر الذي ينفخ أوداجه وينسى العلي العظيم" (مسلم)
قد يخدع بعض الناس أنفسهم بقولهم "أنا متواضع"، لكن التواضع كخلق إسلامي له تأثيره على كل لحظة في حياة الإنسان وعلى كل ما يصدر عنه من سلوك وما يتخذ من مواقف. إن دافع المؤمن إلى التواضع الحق هو إيمانه بأن الله بيده ملكوت كل شيء بما في ذلك نفس الإنسان وما ملكت يداه وأنه خالق كل شيء. فهو يعلم أن علم الله محيط بكل ما يقع في الكون. وهؤلاء الناس لا يسعهم إلا أن يكونوا مؤمنين. وليس يرجى من الشخص الذي ينقصه العلم الديني أن يتواضع وذلك لأنه يفتقر إلى البعد الخلقي الذي لا يكون إلا للمؤمن. فكل ما يبدي من تواضع، إن لم يتقيد بهدي القرآن، لا يعدو أن يكون نفاقا أو سلوكا ناشئا عن شعور بالنقص.
إن أي مجتمع يفشو فيه الكبر هو مجتمع لا يطاق ولا ينضح إلا بالقلاقل والعذاب. وثمة بون شاسع بين مجتمع لا يعرف أفراده حدودا للتكبر والقسوة والنرجسية وآخر سيماء أفراده التواضع. وهذا الفرق سببه الأول إعراض البعض  عن هدى الدين.
أخلاق الإسلام تطهر المجتمع من القسوة والشحناء
إن الرحمة، إلى جانب كونها صفة للرحمن، خلق يحب الله من عباده أن يتخلقوا به. إذ يرشد الله المؤمنين في كثير من الآيات إلى أن يعمروا قلوبهم بالرحمة. ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يحث المؤمنين على التراحم وذلك في الحديث: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" (الترمذي وأبو داوود)
إن العيش بغير أخلاق الإسلام والزهد في رضا الله يقعدان بالمرء عن ابتغاء الكمال الأخلاقي. وإن مظاهر انعدام الرحمة في المجتمعات البعيدة عن الإيمان لتتبدى في كل مناحي الحياة وفي كافة العلاقات الاجتماعية فيها. فالشخص غير المؤمن قد يعامل حتى أمس الناس به رحما كأبيه وأمه وأخواته واخوته وغيرهم بقسوة. كما أنه قد يغضب بسرعة من أخطاء أو تقصير الآخرين فيؤذيهم، وذلك لأنهم لا ينظرون إلى الحوادث من زاوية الرحمة.
تقل في المجتمعات الكافرة مظاهر الرأفة بالبؤساء وأصحاب العاهات وذلك لأن المصالح المباشرة لأفرادها أهم عندهم من كل شيء آخر. وهذا الاشتغال بالمصالح الشخصية هو الذي يحول بينهم وبين التفكير في الآخرين. والحق أن لكل واحد من هؤلاء الناس تفسيره الخاص للرحمة، لكنه تفسير ممسوخ. فهو مثلا يترفق بالشحاذين ويرى ذلك غاية الرحمة لكنه يتلهى وينكفئ على ذاته حين تبرز ظروف تستدعي تصرفا نابعا من أصل الضمير، أو تتطلب تضحية. فإن شهد حادث سير مثلا فإنه لا يتوقف ليساعد المصابين، وتراه يصطنع معاذير شتى يسوغ بها هذا التصرف. إذ إن تطوعه بأخذ المصابين إلى المستشفى سيفسد عليه يومه أو قد يكلفه شيئا من المال أو الوقت. وفوق ذلك، لا يجد مثل هذا الشخص دافعا للتضحية من أجل شخص لا يعرفه، فهو في النهاية لن يحصل على شيء.
إن هذه الأحداث تكثر في المجتمعات النافرة عن هدي الدين. ولا سبيل إلى اختفاء هذه اللامبالاة غير الإنسانية إلا إذا تشبث الناس بأخلاق القرآن. فليس سوى الدين ضامنا لقيام مجتمع طيب يتواصى أهله بالمرحمة ويتنافسون في فعل الخيرات. ومع هذا ينبغي التنبيه إلى أنه لا يكفي أن تتوفر هذه السمات الخلقية في فئة محدودة من الناس، بل إن التمسك بهدي القرآن في بعض الأوضاع والتنكر له في أوقات أخرى، أو اجتناب منكرات معينة ثم الوقوع في غيرها لا يضمن قيام هذا المجتمع المنشود. إذ لا سبيل إلى إقامة حياة اجتماعية آمنة إلا إذا خضع كل أفراد المجتمع لإرادة الله الشرعية واتسم سلوكهم بالتضحية والإيثار.
الوحشية والسلوك غير الإنساني لا يظهر في المجتمعات التي يلتزم أهلها بقيم القرآن بل يهنأ فيها
 المسنون والأطفال والفقراء والمحتاجون بالحماية والرعاية. والصور أعلاه نتاج لحياة بعيدة عن أخلاق القرآن.
أخلاق الإسلام تهب الجميع مفاتيح للخير
إن الشخص المستمسك بهدي القرآن يأتي بالحلول للمشكلات ويتصرف بحكمة في كل الظروف، ولهذا لا يعرف الإحباط طريقا إلى قلبه العامر بمبادئ القرآن بالغا ما بلغ تعقيد الوضع الذي يواجهه. 
حين تختفي أخلاق الدين تقل الحكمة وهذا هو السبب الذي يبقي المشكلات البسيطة بلا حل في المجتمعات اللادينية. ولهذا يواجه أفراد مثل هذه المجتمعات أزمات ومشكلات جمة خلال مسيرة حياتهم. وبدلا من التماس حلول ناجعة لهذه المشكلات فإنهم يجعلونها جزءا من حياتهم اليومية وكأن هذه المشكلات مقدر لها أن تبقى بلا حل. إن لهذا العجز عن الإيتاء بحلول للمشكلات تداعيات ضارة على كافة جوانب حياة المجتمعات اللادينية. إنهم في الغالب يتردون في وهاد اليأس والألم والشكوى. وفي غضون ذلك يعجزون عن الإتيان بالحلول بسبب تعطيلهم لموهبة العقل، وحتى إن حاولوا عمل ذلك جاءوا بحلول غير عقلانية بسبب انحصار فكرهم في فضاء ضيٌق جدا.
وفوق ذلك، يكاد تعذر العثور على حلول للمشكلات أن يكون مسوغا للاستكانة والاستسلام في المجتمعات التي لا ترعى قيم الدين. فهو في الغالب يتخذ غطاء توارى به سوءة الكسل واللامبالاة والخدر وتجاهل المسئولية. ففي مكان العمل بخاصة يحاول كل فرد أن يظهر تعقيد المهام الموكلة إليه محاولا إظهار نفسه بمظهر الشخص الذي يتولى أداء مهام صعبة. لكن هذه ليست في حقيقة الأمر سوى مناورة  يريد أن يسوغ بها ما عسى أن يبدر منه من فشل أو إهمال أو أخطاء.
إن السبب الأول لبقاء الأزمات دون حل في المجتمعات البعيدة عن قيم الدين هو أن أهلها عاجزون حتى عن التعامل مع مشكلاتهم الشخصية. ولا غرو، فالشخص البعيد عن مبادئ الإسلام تغلب عليه شهواته فتجده منهمكا في إشباعها غافلا عن مصالح واحتياجات محيطه الاجتماعي. فهو في كل الأحوال مقبل على مصالحه الخاصة محتف بها مستنكفا أن ينفق ماله ووقته في خدمة مصالح الآخرين.
إن توافه المشكلات تبقى في مثل هذه المجتمعات عصية على الحل. وفي غضون ذلك يحاول كل فرد ترك انطباع حسن في نفوس الآخرين أو يلتمس الزلفى إلى رؤسائه أو يسعى إلى تلميع وجهة نظره أو على الأقل يحاول أن يكون هو صاحب القول الفصل والكلمة الأخيرة. وهذه الطموحات والعقد الشخصية هي التي تشل قدرة الإنسان على الإتيان بحلول للمشكلات الماثلة في نهاية الأمر. إن السبب الأول لعجز المتنكرين لمبادئ الدين عن الإتيان بحلول مرضية للمشكلات توضحه الآية التالية: "لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُون" (الحشر: 14)
وكثيرا ما يشاهد المرء نماذج لهذا العجز في البرامج الحوارية التلفزيونية المفتوحة حيث ينفق المشاركون ساعات طويلة في مناقشة قضية معينة بل يأخذهم النقاش أحيانا إلى مطلع الفجر. وسبب استحكام الخلاف بين هؤلاء المتحاورين هو أن الكل قد أوتي جدلاً. فقد يستيقن طرف بسلامة وجهة نظر الطرف الآخر لكنه يجحدها علوا وتكبرا وتأخذه العزة بالإثم والرغبة في إذلال الآخرين ومعارضتهم. ويخوض المجادلون في طوفان من التفاصيل التافهة ليظهروا سعة اطلاعهم. فالهدف الأول هنا هو استغلال كل سانحة لإبراز ذكائهم وحذقهم. وهم في الغالب يطيشون عن موضع النقاش ليكتشفوا بعد ساعات لاحقة أنهم لم يصلوا إلى حل. والمدهش أن هذه النقاشات تبرز إلى السطح مزيدا من التعقيدات والاختلافات والآراء المتعارضة. فهم في الحقيقة لا يبغون حلا أصلا، فتراهم يلجئون إلى فلسفات خاوية معتقدين أن النقاش وتبادل الأفكار هو غاية في نفسه. إنهم يرون أن عدم الوصول إلى أي حلول بعد نقاش متطاول أمر مقبول وطبيعي.
أما المؤمنون، ولقناعتهم أن الله محيط بالأمور، فلا تطيش عقولهم ولا تعشى أبصارهم مهما كانت الظروف التي تمر بهم. إنهم يتخذون أفضل القرارات وأنجع الحلول وأقربها للتقوى. إنهم يبادرون إلى البت بشأن القضايا لا يصدهم عائق وكيف لا وهم يسترشدون بأكرم الأخلاق وأقوى شعور بالمسئولية وأمضى ملكة تفكير تفضل بها عليهم خالقهم: "وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ" (الشورى:38)فهواهم في كل الأحوال مع ما يرضي الله فلا يصرفهم عن السير في سبيل الحق والعدل صارف ولو اقتضى ذلك تفويت مصلحة لهم شخصية.
إن إخلاص المؤمنين لربهم وجهادهم في سبيله وانقطاع أملهم إلا منه يحجزهم عن الطمع فيما عند الآخرين ويزهدهم في ثناء الناس ومدحهم، ولهذا يمدهم الله بتأييده وعونه وتوفيقه في كل قرار يتخذونه. إن الخوف الشديد من الله والوقوف الصارم عند حدوده يجعل للمؤمن نورا يبصر به إذا سجى ليل النوازل (الأنفال: 29) فيهتدي إلى أفضل القرارات وأبرك الحلول: " وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا " (الطلاق: 2-4)
أخلاق الإسلام تهدي إلى التوكل على الله
إن أرواح المتمردين على إرادة الله المتنكرين لمبادئ الإسلام يغلب عليها التشاؤم والتمرد والاكتئاب. إنهم يعزون كل ما يقع لهم إلى المصادفة المحضة وتزخر حياتهم بمشاعر التوتر والقلق والاضطراب. فهم، بخلاف المؤمنين، محرومون من نعمة التوكل على الله وإدراك أن كل شيء في الكون يجري حسب قدر إلهي مكتوب. لقد عزب عن إدراكهم أن الخير والشر يقعان بإرادة الله لاختبار الإنسان وأنهم لن يعيشوا بسلام إلا إذا انصاعوا لأمر الله. ولهذا فإنهم يقاسون عواقب تصرفاتهم ويغتمون بكل ما يصيبهم في حياتهم صغيرا كان أو كبيرا.
يأخذ هؤلاء الناس تجاربهم اليومية بجد ويطيلون التفكير في حوادث الدنيا كما لو أنها أهم شيء في الحياة. وهكذا فإنهم يتبرمون إذا لم تجر الأمور بما يشتهون، ثم لا يلبث التشاؤم أن يسلمهم إلى اليأس ظانين أن ما أصابهم إنما هو سوء طالع لا يملكون حيلة لدفعه ولا يهتدون سبيلا. إن فسقهم عن أمر ربهم هو الذي يحول بينهم وبين إدراك أن كل الحوادث تجري بقدر مقدور.
إن اهتمامهم بالأحداث اليومية التي تقع لهم يجعل أمزجتهم متقلبة لا تستقر على حال. أصغر الأشياء في هذه الحياة تقلقهم، فتراهم ينفقون الأيام في التأسف والتحسر والدعاء بدعوى الجاهلية. إن العواقب السيئة لعدم توكلهم على الله تتبدى في حياتهم كلها بشكل يومي وفي كل الظروف.
فالزوجة القائمة على أمر بيتها مثلا تحصر اهتمامها كله في نطاق أسرتها ومشاغلها في البيت. فإن عجزت عن حل مشكلة ولو كانت صغيرة جزعت وندبت حظها دون أن يخطر لها أنها محنة قدرها الله وأنها لا بد أن تنطوي على منحة. والعجيب أن هذه الحادثة التي تنغص حياتها قد تكون طعاما نسيته في الموقد فاحترق أو عطل أصاب المكنسة الكهربائية. إن عدم تسليمها لأمر الله وبعدها عن قيم الدين يجعل أصغر المشكلات تكبر في عينها لتصبح مصدرا للقلق والحزن.
وهذا الوصف ينطبق أيضا على زوجها مدير الشركة حين يواجه بعض المشكلات في عمله التجاري. فهو يرى أن مشاكل زوجته لا تساوي شيئا إذا قيست بهمومه هو. ولذلك يصاب بقلق نفسي لأنه يجهل أن الحوادث أقدار مقدرة ولأنه ينقصه السلوك الإيجابي. كما ينسحب هذا الوصف على الأطفال الذين يعيشون في بيئة لا تقيم وزنا لمبادئ الدين. إذ تستحوذ مسيرتهم الدراسية التي تمتد لعشر أو خمس عشرة سنة على كامل تفكيرهم. فلا يكاد الواحد منهم يتغلب على مشاعر اليأس إذا لم يكن أداؤه مرضيا في امتحان واحد ولو حصل على كامل الدرجات في المواد الأخرى. فتجدهم أكثر قلقا بشأن صداقاتهم وشهرتهم. وما التشاؤم واليأس والعجز عن العثور على حلول للمشكلات والشكوى سوى آفات انتقلت إليهم عدواها من والديهم ومن يحيط بهم من الناس.  وهذه السمات تظل ملازمة لهم. لكن الشيء الذي صيّرهم إلى هذا الوضع هو عدم تمسكهم بمبادئ الدين وجهلهم بخالقهم وعدم توكلهم عليه.
يستطيع الإنسان أن يسلم من غوائل الاكتئاب والبؤس إذا طبق مبادئ القرآن متى ما أحس بالإحباط وأيقن أن هناك خيرا في كل شيء قدره الله. فالتمسك بأخلاق الإسلام  يستأصل كل أنواع التشاؤم والإحساس بالفشل، لأن المتخلق بأخلاق الإسلام ينظر إلى كل قضية، صغيرة كانت أو كبيرة، نظرة إيجابية. وهذا السلوك يجلب السلام للحياة على الصعيدين الشخصي والاجتماعي.
إن المهتدي بأخلاق الإسلام لا ينظر إلى الحوادث على أنها وليدة المصادفة. ولأنه يؤمن بأن كل الحوادث لا تخرج عن نطاق القدر الإلهي، فهو يتوخى إدراك الحكمة من وراء الأحداث والرسائل التي يوصلها الله لعباده. وهذا هو سبب اختفاء كلمة "لو"  عن كل مكان تعمره قيم الدين. فلا تصل إلى سمعك عبارات من شاكلة "لو لم أذهب بالأمس لما أصابني هذا الأمر" أو "كنت سأسافر للخارج لتلقي للدراسة لولا التحاقي بهذه المدرسة" أو "لو أتيت مبكرا لكنت قد التقيته" أو عبارة "لماذا سلكنا هذا الطريق؟ إنه طريق يزدحم بالحركة" أو "ما منعني من التمتع بشبابي إلا اقتراني بك" أو "لو أنني لم أرتد هذا الثوب لما أفسدت ليلتي" أو "لو امتنعت عن الخروج لنجوت من المرض" أو "لو امتنعت عن السفر لما تعرضت لحادث سير" أو "لو أنها قابلت طبيبا آخر لعوفيت من مرضها" أو "لو أنه لم يسافر في تلك الطائرة لما مات". إن الأشخاص الذين تخلو حياتهم من الإيمان بالله وينأون عن هدي الدين يكثرون من قول "لو" وسيقولونها في الدار الآخرة لكنها لن تغني عنهم شيئا: "وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" (الأنعام: 27)
الآثار السلبية للكفر على جسد الإنسان
كما أن للكفر آثاراً ضارة على المجتمع فكذلك له أثر ضار على سلامة الأفراد الجسدية والروحية، وسنتعرض في هذا الفصل لهذه الأضرار الروحية والجسدية.
كما مضت الإشارة فيما مر فإن الأشخاص الذين لا تظللهم أخلاق الإسلام يعيشون في قلق وتوتر دائمين، وهو أمر يسبب لهم أمراضا نفسية لا حصر لها. فأجسادهم تسرع إليها الشيخوخة، وذلك أن ضرر معاناتهم الروحية يمتد إلى أجسادهم فيضعفها بالأوجاع.
وهذه الآثار يمكن أن تطال حتى الأشخاص الذي يتمتعون بالصحة والشباب والجمال. إذ تبدو أعراض التغييرات الفسيولوجية ويبهت لون الشعر والعينين ويزداد تساقط الشعر والصلع في أشخاص صغار السن لكن هذه الأعراض لا تظهر عند الأشخاص المتدينين من نفس الفئة العمرية. ولأسباب فسيولوجية يخشوشن الجلد ويغلظ ويفقد نعومته في وقت قصير ثم لا يلبث أن تظهر على الجلد إمارات الاعتلال. ولا ريب أن لعدم التزام هؤلاء الناس بإرشادات القرآن المتعلقة بالنظافة دخل كبير في ذلك. وهذه ظواهر مشاهدة على نطاق واسع في المجتمعات البعيدة عن أخلاق الإسلام وعن هدي القرآن. فهي من الشيوع بحيث تعد ظاهرة طبيعية. إنهم يلقون جزاء كفرهم في الحياة الدنيا وحين تقوم الساعة ينالهم عذاب أشد وأمض.
أما المؤمنون فيحتفظون بحيويتهم وذلك بسبب تمتعهم بالصحة والاستقرار النفسي وسلامتهم من مشاعر الأسى والضغط النفسي واليأس. ولا غرو، فأن توكلهم على الله وحسن ظنهم به وطمعهم في رحمته يؤثر إيجابا على صحتهم الجسدية. وينسحب هذا الوصف على أصحاب الضمائر الحية من الناس الذين يؤمنون بالله حقا.
صحيح أن المؤمنين يمرضون ويشيخون لكن هذه الأحوال ليست وليدة أسباب نفسية كما هو الحال لدى غير المؤمنين، فالمرض والموت والكبر حتم مقضي على الناس كلهم. إلا أن سرعة وضراوة هذه العمليات لها علاقة مباشرة بالسلوك النفسي السلبي الذي يغلب على الشخص بسبب تنكبه طريق الإيمان. فالشخص الذي يقضي حياته كلها مطمئن القلب تملأ جوانحه الثقة بخالقه ويرجو خيرا في كل شر يعرض له، سيعيش سعيدا هانئ البال فيسلم بذلك من غواشي القلق والخوف وما تلحقه بصحته من أذى.
إن مجتمعا يغفل أهله عن قيم الدين حري بأن يحرم من الأمن والطمأنينة التي يسكبها الدين في قلوب من يتشبثون به، وسيذوق الثمار المرة لهذه الغفلة من أذى نفسي وجسدي. وأمثلة ذلك كثيرة ومشاهدة في المجتمعات التي تفسق عن أمر ربها.
وثمة علتان في عصرنا هذا ترتبطان بمصطلح "أمراض العصر" ألا وهما الاكتئاب والضغط النفسي. وهاتان العلتان يعاني منهما كل الناس ولكنهما ترتبطان أيضا باضطرابات فسيولوجية.
إن أشهر الاضطرابات التي ترتبط بالضغط النفسي والاكتئاب تتمثل في ثنائي: إدمان تعاطي المخدرات والأرق. ثم تأتي بعد ذلك الأمراض الجلدية والباطنية بالإضافة إلى الاضطرابات المرتبطة بضغط الدم والكلى والجهاز التنفسي والحساسية والانفلونزا والصداع النصفي والذبحة الصدرية وتضخم المخ. إن من الخطأ طبعا إرجاع أسباب هذه الأمراض إلى الضغط النفسي والاكتئاب وحدهما. إلا أن البحوث الطبية أثبتت أن هذه الأمراض ترجع في كثير من الأحيان إلى مشكلات نفسية.
إن الشخص الملتزم بمبادئ الدين يجعل توكله كله على الله ويؤمن بالقدر خيره وشره. كما يدفعه علمه بحب الله لعباده الصالحين، إلى التصرف بطريقة ينال بها رضا ربه. وفي النهاية فإن إحسان المرء في كل الظروف، يجلب نوعا من الطمأنينة التي يجدها المرء حين يستجيب لداعي ضميره.وإن حدث أن نزلت بساحة المؤمن ضراء فإنه يعلم أنها ابتلاء من الله فيتعامل معها وفق مقررات القرآن، فلا يستسلم لمشاعر الأسى واليأس والضيق. إن تركيزه على الفوز في الآخرة يجعل همه الأكبر هو أن يتصرف بطريقة تضمن له الفوز برضا الله حين يقوم الناس لرب العالمين. إن قوة إيمانه بالله تحصنه من بأس النوازل فيثبت جنانه. وهذه الطمأنينة ورباطة الجأش تعجم قناته وتقويه.
شتان بين العيش وفق مبادئ الدين والتنكر لها. إن أقصى ما يأمله الكافر ويرجوه هو أن "يعيش حياته طولا وعرضا" وأن يحافظ على قوته وصحته ليستمتع بالحياة. وهو بهذا المعنى شديد الارتباط بجسده الذي يقربه إلى طموحه هذا زلفى. وهذا، حسب اعتقاده، أفضل شيء يفعله. لكنه اعتقاد بيّن الخطأ واضح الخطل. إن شروده عن هدى القرآن يقربه من هلاكه وبواره بدلا من أن يكسبه حياة هانئة. فهو سيذوق من العذاب الأصغر في الدنيا دون العذاب الأكبر الذي ينتظره في يوم الحساب. وبهذا يغدو الجسد الذي أريد له أن يستمتع بكل مباهج الحياة عرضة لأضرار فاتكة.
لقد خلق الله عقل وجسد الإنسان لكي يلتزما بالعيش وفق هدى الدين. وقد هيأهما الله للعمل في إطار نظام تسوده قيم الدين وزودهما بمزايا وسمات ملائمة. فإن سخّر الجسد لغاية غير الغاية التي من أجلها خلق أسرع إليه الفساد وحل به الخراب. والواقع أن جسد وعقل الإنسان خلقا متشابكين متصلين. ولأن الله خلقهما فمن الضروري أن يسخرا في خدمة الغاية التي من أجلها خلقا.
في المجتمعات التي لا تلتزم بقيم الإسلام يكون الحزن والغم والضغط النفسي والسخط جزءا من حياة الناس اليومية. والحق أن كل شيء لا يحدث إلا بإذن الله، والناس الذين يقرون بهذه الحقيقة يتوسمون الخير في كل الحوادث والنوازل. أما الكفار فسيعلمون بعدم جدوى الأحداث التي أصابتهم بالهم والحزن أو الغضب حين يأتيهم الموت: " كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون " (البقرة: 216)
أوضحنا فيما مضى من فصول هذا الكتاب كيف أن روح الإنسان تكون عرضة لعنت رهيب في هذه الحياة الدنيا متى ما تنكب الإنسان الجادة التي رسمها الله وأراد له السير فيها. كما يعاني الناكبون عن صراط الله المستقيم من رهق جسدي. إن قوة الرابطة بين الروح والجسد تتبدى في كثير من الأمثلة في المجتمع. فقد لوحظ أن الأشخاص الذين ينعمون بالاستقرار النفسي وهناء العيش، والذين ينظرون لكل حادثة بإيجابية ويرجون المنح من وراء المحن ولا يغلب عليهم التشاؤم ولا يستولي عليهم الغضب يحافظون على حيويتهم إلى آخر أيام حياتهم ويشيخون بإيقاع بطيء. وهذا هو السبب الذي يجعل المجلات والصحف الطبية والصحية تؤكد على وجوب أن يتعامل القراء بإيجابية مع أحداث الحياة ليضمنوا لأنفسهم عيشا سعيدا. وتجمع هذه المجلات على ضرورة أن يحافظ الإنسان على هدوئه وأن يكون متفائلا بغض النظر عن الظروف التي تمر به. لكن الإنسان إذا تأمل في هذه النصائح فسيجد أنها جميعا مزايا يمكن للمرء نيلها بالالتزام بمبادئ الدين. فبدون الالتصاق التام بأخلاق القرآن لا يتسنى للناس التحكم التام بأمزجتهم.
تجاهل قيم الدين يسبب التوتر النفسي
يرجع الضغط النفسي، ذلك الوباء المقلق والواسع الانتشار، إلى أسباب نفسية. وهو عبارة عن حالة عامة من التوتر الذهني والجسدي الذي يسببه الخوف واليأس والقلق ومشاعر أخرى كالخوف من فقدان الوظيفة والخوف من الإصابة بالمرض أو الخوف من موت أحد أفراد الأسرة.
يستجيب جسم الإنسان للضغط النفسي بإحداث سلسلة من التفاعلات البيوكيماوية. ولهذا يزداد معدل هرمون الأدرنالين في الدم ويصحب ذلك ارتفاع شديد في معدل استهلاك الطاقة وتسارع تفاعلات الجسم. وفي غضون ذلك تتسرب مواد السكر والكولسترول والأحماض الدهنية إلى مجرى الدم فيرتفع نتيجة ذلك ضغط الدم وتزداد ضربات القلب.
تحدث حالات الضغط النفسي المزمن ضررا بالغا بجسم الإنسان ولا سيما في وظائف الجسم. كما يحدث الضغط النفسي ارتفاعا كبيرا في نسبة هرموني الكورتيزون والأدرنالين. كما يحدث الجلكوز المتجه إلى المخ ارتفاعا في معدل الكلسترول معرضا الجسم لمخاطر شديدة. ويسبب الضغط النفسي أمراض القلب وارتفاع ضغط الدم والاكتئاب وإصابات  في الجهاز التنفسي والجلد وداء الصدف إلى جانب مشكلات صحية كثيرة أخرى.
تشير مصادر علمية كثيرة إلى وجود علاقة مهمة بين الضغط النفسي والتوتر والآلام التي يسببها. فقد أشارت الدراسات أن التوتر الناشئ عن الضغط النفسي يحدث تقلصا في الأوردة مما ينتج عنه إعاقة تدفق الدم لمناطق معينة من المخ. وتحدث هذه العملية نقصا حادا في كمية الدم التي تصل إلى هذه الأجزاء من المخ. وفي غضون ذلك يحدث حرمان هذه الأجزاء من الدم لفترات طويلة أضرارا بأنسجتها. ففي حالة الضغط النفسي تزداد حاجة النسيج المتوتر إلى قدر أكبر من الأوكسجين لكن عدم حصوله على قدر كاف من الدم يدفعه إلى تنبيه أجهزة استشعار الألم. وفي غضون هذا التوتر يتم إفراز هرموني الأدرنالين والنورأدرنالين، وهما هرمونان يؤثران على الجهاز العصبي، مما ينشأ عنه بصورة مباشرة أو غير مباشرة زيادة في توتر العضلات. ويولد هذا التوتر آلاما ثم تبدأ بعد ذلك دورة شريرة من ألم يحدث توترا يفضي إلى قلق ينشئ آلاما حادة.
إن الذبحة الصدرية هي بلا شك إحدى أخطر الاختلالات الجسدية الذي يسببها الضغط النفسي. وتشير كثير من الدراسات والبحوث إلى أن خطر الإصابة بالذبحة الصدرية يزيد عند الأشخاص المصابين بالقلق وحدة الطبع وسرعة الانفعال ويقل عند الأشخاص الذين لديهم قدرة على السيطرة على أنفسهم عند الغضب. وطبقا للبحوث العلمية التي أجريت في هذا الصدد فإن الإثارة الشديدة للجهاز العصبي المتجانس تحدث زيادة في معدل الأنسولين في الدم والذي يشكل بدوره تهديدا كبيرا للصحة وذلك لأن جميع الحالات التي تؤدي إلى مرض الشريان التاجي لا يفوق ضررها الضرر الذي تسببه زيادة معدل الأنسولين في الدم.
إن هذه الحالة غير العادية التي تصيب جسم الإنسان واستمرارها لمدة طويلة من الوقت تلحق ضررا بالغا بالصحة وبالتوازن الطبيعي للجسم. إن أهم مخاطر الضغط النفسي على جسم الإنسان تتمثل في الآتي:
-                                الهم والخوف: قلق الشخص من فقدان السيطرة على الغضب في حياته
-                                التعرّق: كثافة العرق والحاجة إلى الاستخدام المتكرر للمرحاض
-                                تغير الصوت: تلعثم وارتعاد الصوت
-                                حالة النشاط الفائق: نوبات مفاجئة من تفجر الطاقة وضعف التحكم بمعدل السكر في الدم
-                                الأرق: الكوابيس
-                                أمراض الجلد: النمش والحمى والإكزيما وداء الصدف
-                                أمراض الجهاز الهضمي: سوء الهضم والقرحة والغثيان
-                                الشد العضلي: آلام الفك والظهر والعنق والكتفين
-                                إصابات طفيفة: الانفلونزا وغيرها
-                                الصداع النصفي
-                                تزايد ضربات القلب وألم الصدر وارتفاع ضغط الدم
-                                اضطرابات الكلى وبقاء السوائل داخل الجسم
-                                اضطرابات الجهاز التنفسي وضيق التنفس
-                                الحساسية بأنواعها المختلفة
-                                الذبحة الصدرية
-                                ضعف جهاز المناعة
-                                تضاؤل حجم المخ
-                                الشعور بالذنب وفقدان الشعور بالأمان
-                                الاضطراب وضعف القدرة على إصدار أحكام متوازنة والعجز عن التصور وضعف الذاكرة
-                                حدة التشاؤم والقناعة القوية بالفشل
-                                صعوبة الوقوف المستقر
-                                عدم أو ضعف التركيز
-                                توتر الأعصاب وفرط الحساسية
-                                التصرف بشكل غير عقلاني
-                                فقدان شهية الطعام أو شدة الجوع
إن الضغط النفسي بلاء يصيب الأشخاص الذين يجهلون المنافع التي يجلبها الالتزام بأخلاق الإسلام. وليس لهم نجاة من هذا العذاب طالما ظلت أفكارهم ونظرتهم إلى الحياة وأحداثها على ما هي عليه من جمود. وهذه الحقيقة تؤكدها توصيات الخبراء فيما يتصل بالتعامل مع الضغط النفسي. ولنوضح هذا الأمر بضرب المثال الآتي: يحث دين الله على "التغلب على الغضب". والخبراء يعلقون على الغضب، وهو أحد أهم مسببات الضغط النفسي، على النحو التالي: " لا تفقد أعصابك مهما كان مقدار الاستفزاز الذي تشكله الحالة الماثلة. لا تلجأ للعنف (إلا في حالات الدفاع عن النفس) ولو شعرت بأن لك الحق في اللجوء إلى العنف".
وكما رأينا فيما مر فإنه كلما أفلح المرء في المحافظة على هدوئه ورباطة جأشه كلما زاد حظه من السلامة من كثير من الأمراض. إن هذه حقيقة يؤكدها العلم. ومما لا شك فيه أن هدوء البال وطمأنينة النفس لا ينالا إلا بالتمسك بالدين.
الاختلالات المناعية الناشئة من الضغط النفسي 
ثمة علاقة وثيقة بين الضغط النفسي وجهاز المناعة. وللضغط النفسي أثر سلبي بالغ على جهاز المناعة، فالضغط النفسي يدمر جهاز المناعة. ففي حالة الضغط النفسي يزيد المخ من معدلات هرمون الكلسترول في الجسم مما يضعف جهاز المناعة.  وبعبارة أخرى، هناك ارتباط وثيق بين الهرمونات وجهاز المناعة.
لقد أظهرت الدراسات في مجال الضغط النفسي والجسدي أن حدة الضغط النفسي وبقاءه لمدة طويلة  يضعف مقدرة جهاز المناعة على المقاومة تبعا للتوازن الهرموني للجسم. وقد أثبتت آخر الدراسات أن كثيرا من الأمراض، بما في ذلك السرطان، تظهر وتحتد تبعا للضغط النفسي. وهذا هو ما يجعل لهدوء البال وصفاء المزاج دور كبير في الحفاظ على سلامة أعضاء الجسد بوجه عام. وقد ظهر أن هذا الاستقرار النفسي يمنع ظهور طائفة من العوامل التي تقود إلى الإصابة بالأمراض. والحق أن الإيمان بالله يفرز مثل هذه النظرة التي تعين الفرد على التمتع بسلامة العقل والجسم. إن النظرة الإيجابية إلى كل حادثة تعرض للمرء هو نوع من العبادة بشرط أن يكون الطمع في إرضاء الله هو الدافع إلى هذا السلوك. إن القرآن يرشد المؤمنين إلى إحسان الظن بالله والثقة به والأمل فيما عنده ويسهل لهم سبيلا إلى النجاة والفوز في الدار الآخرة بالإضافة إلى ما يحققه لهم في الحياة الدنيا من حياة سعيدة وهانئة ومباركة. على أن هذا هو فقط جزء من الفضل الجزيل الذي وعد الله الذين يلتجئون إليه ويقتدون بهديه. وليس معنى ذلك أن المؤمنين لا يمرضون ولا يصيبهم مكروه، بل الأمر ببساطة هو أن المؤمنين، مقارنة بغيرهم، أقل تعرضا للأمراض وذلك لأنهم بمفازة من الضغط النفسي وتعكر المزاج.
هناك أمر مهم تجدر الإشارة إليه، وهو أن الناس لا يفزعون إلى الدين هربا من الأمراض. لكن الثقة بالله والتسليم لأمره واتباع النور الذي أنزله يفضي إلى العافية في العقل والجسد. وبعبارة أخرى، فإن سلامة صحة المؤمنين لها علاقة بقوة إيمانهم وصلابة بنيتهم الروحية.
وبصريح العبارة فإن إنسان القرن الحادي والعشرين بحاجة إلى تحقيق شيء واحد هو: أن يعود لفطرته الأولى التي فطره الله عليها وأن يلتزم بمبادئ الدين، لأنه إن لم يفعل حصد الخيبة والخسران في الدنيا والآخرة.
التشبث بقيم الدين يحل جميع المشاكل الاجتماعية
ناقشنا بتفصيل فيما مر من فصول هذا الكتاب الحالة العقلية وسمات الأشخاص الغافلين عن قيم الدين والسلوك الإنساني الذي تحدثه هذه الغفلة. وسنبين في هذا الفصل كيف أن التشبث بقيم  الدين يعين على حل مشكلات اجتماعية استعصت على الحل لعقود متطاولة من الزمن.
تلاشي كافة ألوان الفساد والانحطاط
إن التفسخ الأخلاقي هو أبرز سمات المجتمعات البعيدة عن هدي الدين. ويتخلل هذا التفسخ كافة مستويات المجتمع ويزداد حدة وتمكنا بمرور الوقت. ويفاقم من هذا التفسخ غفلة الناس عن هدي القرآن وافتقارهم إلى قيم الخوف من الله والرغبة في نيل رضاه. ولا جرم أن في هذه المجتمعات بعض التقاليد والأعراف والقوانين الاجتماعية التي طورها الأفراد والقادة والتي تسهم في تشكيل السلوك العام للمجتمع، لكن لأن هذه الأعراف والقوانين هي نتاج للعقل البشري ولا يرفدها خوف من الله، فإن أثرها على المجتمع ضعيف ولا تستطيع  أن تقضي على السلوك المعوّج.
والدليل على ذلك أنه لا يوجد سبب يمنع الشخص المنحرف من الإمعان في الفساد. تأمل مثلا في حال أحد ملاك الشركات، فهو إن لم يكن يؤمن بالله ولا يخاف عقابه فمعنى ذلك أنه قد وطن نفسه على التصرف بشكل غير أخلاقي وأصبح متحفزا لاستغلال كل سانحة لتمرير قراراته ووضعها موضع التنفيذ. وهو لا يرى بأسا بإساءة معاملة موظفيه واحتقارهم أو استغلالهم. كما أنه يسلك نفس هذا السلوك تجاه شركائه، فيخدعهم ويخادعهم ويحاول بشتى الطرق الملتوية أن يحوز لنفسه أكبر قدر من الثروة وفي أسرع وقت ممكن دون أن يزعه من هذا الصنيع الفاجر وازع.
كما أوضحنا من قبل فإن التصور الأخلاقي يختلف من شخص لآخر إذا لم تكن الشريعة الإلهية أصلا للمعايير الاجتماعية. فقد يعاف شخص ما سلوكا معينا في حين يعده شخص آخر سلوكا مقبولا لا بأس به. فحين يختفي تأثير القيم الدينية عن مكان ما يتخذ أهله  قيما أخلاقية شتى. وفي ظل غياب منظور قيمي موحد يصبح المجتمع فيصلا وحاكما للبت في مختلف النزاعات والصراعات، ولهذا تكون الأجيال اللاحقة أسوأ أخلاقا من الأجيال السابقة.
إن الأثر السيئ للتفسخ الأخلاقي على المجتمعات في تزايد مستمر. وينتشر الفساد بسرعة في المجتمعات التي لا تؤمن بالله. وقد يكون السلوك مرفوضا في عام مقبولا في الذي يليه. ولا شك أن هذا التردي المطرد يقود إلى تدمير المجتمع ويفاقم الانحطاط الخلقي.  والعجيب أن هذا التفسخ الأخلاقي يوصف بأنه "حداثة" ومعاصرة ويغدو أهم موضوع في حملات تعليم وتثقيف المجتمع، وينشط المنظرون اللادينيون في الترويج للشعار القائل: " إن إنسان القرن الحادي والعشرين يجب أن يكون حرا وطليقا من كل القيود".
إن أجيالا بكاملها تتعرض في سن مبكرة للتفسخ الأخلاقي. بل هناك زيادة كبيرة في أعداد الأطفال الذين يرتكبون جرائم قتل في أوربا وأمريكا. ومن الشرق الأقصى تأتينا الأخبار بتعرض الأطفال لأبشع ألوان الاستغلال الجنسي لتحقيق أغراض تجارية. والحق أن الانحراف الجنسي كان في الثمانينات موضوعا يتحرج الناس حتى من مجرد الخوض فيه، أما اليوم فقد أصبحوا يعدونه جزء لا يتجزأ من طبيعة الحياة العصرية بل ويتعاطفون مع الأشخاص المنحرفين جنسيا. ومن ناحية أخرى يرمى الأشخاص الذين يعارضون هذه النظرة بتهمة التخلف ومخالفة روح العصر. وقد عاب القرآن سلوك هؤلاء الناس وذلك في قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُون " (النور:19)
إن من المستبعد جدا أن يشيع التفسخ الأخلاقي في مجتمع تسوده تعاليم الدين، وذلك لأن خوف أفراد هذا المجتمع من الله يعصمهم من الانزلاق في مهاوي الانحطاط الخلقي. ففي الآية التالية مثلا يتضح المعيار الأخلاقي الذي وضعه الله للناس: "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون" (النحل:90)
إن الانحراف الخلقي يقل كثيرا في المجتمعات المؤمنة التي تراعي حدود الله التي بينها في كتابه المجيد. وإن شذ من هذه الاستقامة العامة سلوك معين فخرج على الإجماع الخلقي فإن ذلك لا يمثل مشكلة للمجتمع وذلك لأن المؤمنين سيواجهونه بالنكير لا بالتشجيع كما هو الحال في المجتمعات الضالة، وذلك لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أحد أهم واجبات المسلم كما يوضح ذلك قوله تعالى: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيم" (التوبة:71)
بناء على ما تقدم يمكن القول إن المجتمع الذي تظلله قيم القرآن هو أيضا مجتمع فريد ومتميز أخلاقيا وذلك لأن أفراد هذا المجتمع: "وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ" (آل عمران:114) وثمة فضيلة أخرى يتحلى بها المؤمنون يشير إليها قوله تعالى: "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" (فصّلت:33) وقوله تعالى: "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَاب" (الزمر:18)وقوله تعالى: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُون" (آل عمران:110).وجاء في أحد الأحاديث النبوية قوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن مرآة أخيه" (أبو داوود) كما حث الرسول المؤمنين على التواصي بالخلق النبيل وذلك في قوله: "أحسن الناس إسلاما أحاسنهم أخلاقا" (أبو داوود). وفي هذا شاهد قوي على أن مجتمع المؤمنين متفوق أخلاقيا على غيره من المجتمعات اللادينية.
 
التمسك بقيم الدين يقوي الرابطة الأسرية
إن قوة الترابط الأسري هي الدعامة التي ينهض عليها كل هيكل اجتماعي ناجح. وتفكك المجتمعات مرده إلى تفكك الأسر. ولقد كانت الأسرة هدفا أول للأيديولوجيات الهدامة مثل الشيوعية والاشتراكية، إذ هدف هؤلاء إلى هدم مؤسسة الزواج والقضاء على قيم الأمومة والإخلاص والخصوصية والشرف. وقد زعم فلاسفة ومنظرو هذه الاتجاهات أن هذه القيم لا قيمة لها. ففي الماضي كان العيش المشترك بين رجل وامرأة لا تجمع بينهما رابطة زوجية مثلا محل رفض المجتمع لكنه أصبح هذه الأيام سلوكا معتادا. وفوق ذلك فإن متوسط أعمار الأشخاص الذي يتعايشون دون رابطة زوجية يتناقص باطراد.
إن نظرة مجتمع اليوم إلى الأسرة معيبة بوجه عام. فغالب النساء ينظرن إلى الزواج كضمانة للعيش. وهذه النظرة تجعل المال المعيار الأول في اختيار الزوج. وأحيانا قد تكون المكانة الاجتماعية والجمال والبيئة عوامل مهمة في قرار الارتباط برجل معين، لكن في الأغلب يبقى المال هو المعيار الأول والأهم. ولهذا لا يستغرب المرء من تصاعد معدلات الطلاق والتي تفضح ضحالة الزيجات التي تقوم على عوامل خادعة كالمال والمكانة الاجتماعية والجمال.
وثمة مهدد آخر معروف للزواج وهو ارتفاع سقف توقعات الأزواج من زوجاتهم. فالجمال من ناحية عامة عامل مهم في اختيار الرجل لزوجته، كما قد يتأثر اختياره بعوامل أخرى مثل حظ المرأة من التعليم وتعدد مهاراتها. ولا شك أن توفر هذه المزايا في أحد الزوجين أو كليهما أمر لا اعتراض عليه، لكن إذا أسس الزواج، الذي ينبغي أن يقوم على أرضية صلبة، على هذه العوامل وحدها فستنهار الأسرة متى ما تبين لاحقا أن أحد هذه العوامل غير موجود.
إن الزواج يتطلب وفاءً وحبا واحتراما وهو نوع من المفاهيم لا يمكن أن تصبح قيما صلبة وملزمة إلا من خلال الدين. وعليه فإن الدين هو الضمانة الوحيدة لتماسك ونجاح العلاقة الزوجية.
إن الزواج القائم على هذا الفهم غير العقلاني هو زواج مؤسس على شفاء جرف هار. إذ سرعان ما تختفي من أفق الزواج معاني الحب والاحترام وتذهب المودة المتبادلة بين الزوجين جفاء. فما يمر طويل وقت على الزواج حتى تتبدى لكل طرف عيوب ونواقص الطرف الآخر، فيحتدم النقاش والاختلاف بين الزوجين ويتبادلا الاتهامات الخطيرة. لكن بعد حين من الوقت يقبل الزوجان بالأمر الواقع وتلفهما الدائرة الخبيثة ككثيرين غيرهم. ومما يجدر ذكره هنا أن الأجيال التي تخرج من كنف هذه الأسر تكون مضطربة نفسيا، وذلك لأن تأثرهم بسلوك والديهم يجردهم من معاني الحب والاحترام.
إن الأسر تتفكك عادة في المجتمعات التي لا تجعل من قيم الدين هاديا لحياتها. فللمال في هذه المجتمعات دور كبير في تشكيل العلاقات بين أفراد الأسرة. فالأب الذي ينفق بسخاء على أسرته يكافأ من قبل زوجته وأولاده حبا واحتراما، لكن إن حدث أن توقف الأب يوما ما عن الإنفاق على أسرته فإن هذا الحب والاحترام ينقلب إلى سخط، وهكذا يصبح المال سببا مستمرا للنزاع داخل الأسرة، وليس ثمة ضمانة على بقاء الزوجة مع زوجها إذا أفلس أو قل دخله. والغالب في مثل هذه الحالات أن ينتهي الزواج بالطلاق. وهذا بلا شك إحدى عواقب العيش بعيدا عن مظلة القرآن.
ثمة بون شاسع بين نظرة المؤمن ونظرة الكافر للزواج. فيقين المؤمن بأن هناك حياة أبدية تنتظر الإنسان بعد الممات تجعله يصمم على البقاء في كنف الزواج إلى الأبد. فالقرب من الله هو كل ما يرجوه المؤمن من الزواج. وبعبارة أخرى، فهو يريد من الشخص الذي سيبقى معه إلى الأبد أن يحيا وفق هدي القرآن. وذلك لأن كل السمات التي يتحلى بها الإنسان في الحياة الدنيا إنما هي عرض زائل. فاهتداء الزوجين بالقرآن يملأ حياتهما بالحب والاحترام والانسجام. فإن حدث أن أخطأ أحدهما ذكره الآخر بهدي القرآن فتزول المشكلة وذلك لأن المؤمن لا يجد حرجا فيما قضى الله بل يسلم تسليما. وعليه يمكننا، بناء على الأسباب الواردة أعلاه، أن نقول إن الأشخاص الذين يؤمنون بالله ويخافونه يقيمون زيجاتهم على قاعدة صلبة.
لكن من الخطأ حصر مفهوم الأسرة في العلاقات بين الزوجين فقط، فسلوك الأطفال تجاه والديهم وكبار السن من أفراد الأسرة مهم أيضا، وفي البيئات التي تعمرها مبادئ الدين تقوم هذه العلاقات على قاعدة الحب والاحترام. كما يخلو جو الأسرة من أنماط السلوك الفظ والزعيق والعراك والتي لا يسلم منها جو أسري في أيامنا هذه. ويسود بدلا منها جو من السلام والبهجة. فلا وجود لمزيد من الكوارث الأسرية وكل فرد يحمل أسرته في حدقات عيونه الأمر الذي يخرج إلى الوجود حياة أسرية يعز نظيرها. ويرى الأطفال في أبويهم نعمة عظيمة ويشعرون برابطة قوية تشدهم إليهما. ويشعر الأبوان أن أبناءهما إنما هم وديعة أستودعهم الله إياها واستحفظهم عليها. إن "الأسرة" تعني الدفء والحب والثقة والتضامن. ولا بد من التأكيد ثانية على أن مثل هذه الحياة الأسرية السليمة تقتضي التزاما تاما وخالصا بقيم الدين وخوفا من الله وحبا له.
رابطة الود والاحترام تقوى بين أفراد المجتمع
ذكرنا في عرضنا للآثار المعنوية للكفر على الإنسان أن الكفار لا يمكن أن يدركوا المعنى الحقيقي للحب والاحترام. فمجتمع قوامه أناس كهؤلاء لا يمكن للعلاقة بين أفراده، صغارا كانوا أم كبارا، بدوا كانوا أم حضرا، أن تتسم بالدفء. ويشعر الفرد في ظل مثل هذه الظروف بالوحشة والعزلة. فكل فرد يفكر بنفسه فقط. والواقع أن مشاعر الحب والاحترام التي يبدونها لبعضهم بعضا ليست هي التي وصفها القرآن. والسبب الأول لذلك أن قيمهم كلها مبنية على اهتمامات مادية الصبغة.
لا أحد في هذه المجتمعات يحترم شخصا آخر دون مقابل. فالموظف يحترم رئيسه خوفا من غضبه وما قد يترتب على هذا الغضب من فقدان للوظيفة. ويجل الطالب أستاذه لئلا يفشل في الامتحان. كما تشعر المرأة بالرغبة في الإحسان إلى زوجها طمعا في استمراره في الإنفاق عليها. لكن من الواضح جدا هنا أن الاحترام الذي تعكسه جميع هذه الأمثلة يقوم على المصلحة الخالصة.
لكن لا تكاد تعثر على أثر لصور التعامل هذه في المجتمعات وأنماط العيش المصبوغة بصبغة الخلق القرآني. إذ يحترم كل فرد في هذه المجتمعات وبشكل تلقائي كل مؤمن يسعى للفوز برضا الله. فلا يحتاج المرء لأن يصبح نجما مشهورا أو ثريا واسع الثراء لينال التوقير وحسن التقدير في مجتمعه. فمجرد إيمانه بالله وخوفه منه وسعيه لنيل رضا خالقه يكفي لرفع مكانته في عيون الناس في مجتمعه.
أشرنا فيما سلف من فصول هذا الكتاب إلى نمط الأخلاق والروح التي تغلب على المجتمعات الكافرة. ولنتأمل الآن، في حال مجتمع قوامه أمثال هؤلاء الناس. هل سيكون مجتمعا تسوده معاني الحب والاحترام؟ إن الإجابة هي وبلا تردد بالنفي. فمن خلا قلبه من حب الله خالقه ورازقه لا يمكن أن يحب خلق الله وعباده. وحل هذا الإشكال يكمن في قيام مجتمعات تسير حياة أفرادها وفق مبادئ الدين.
انتهاء فظائع السكر والقمار 
إن أبرز ملامح هذه الصورة الكالحة للمجتمعات اللادينية هو أن السكر والقمار قد أصبحا طريقة حياة لغالبية أفراد هذه المجتمعات. إن حرمان هؤلاء الناس من هدي الإسلام جعلهم لا يدركون معاني الصبر أو الرجاء أو التوكل على الله، وهذا هو سبب فزعهم إلى السكر والقمار متى ما اعترضت سبيلهم محنة. فإن لم تجر الرياح بما يشتهون أو إذا تملكهم الغضب أو استولى عليهم الملل أو ركبهم الحزن أو حتى إن ألمت بهم حالة فرح، هرعوا إلى الكحول يطلبون عندها السلوى والعزاء، لكنهم لا يجنون من ذلك سوى الإضرار بأنفسهم وبالآخرين. فحين تبلغ سكرتهم مداها تذهب عنهم عقولهم ويغيب وعيهم فيرتاحون عندها من عذابات الضمير ووخزه الممض، ثم يأخذون في شتم الناس وإساءة الأدب والتعامل بوقاحة دون أدنى شعور بالحرج.
إن ذهاب العقل والوعي بسبب السكر وما يترتب على ذلك من نتائج مؤسفة يوضح حالة الاضطراب التي يجلبها ذلك للمجتمع. فليس بمستغرب أن يفقد شخص ما كل ما يملك في ليلة واحدة على طاولة القمار، أو أن يندفع بتأثير السكر إلى ارتكاب جريمة قتل أو ممارسة العنف أو الانتحار أو غير ذلك من الموبقات. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الشرور وذلك في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون " (المائدة:90-91)
يجتنب المؤمنون القمار لأن الإسلام يحرمه تحريما قاطعا. إن الخوف من الله الذي يعمر قلوبهم يضمن هذا الاجتناب ويعينهم عليه، فلا يستهويهم أبدا بالغا ما بلغت قوة الدافع وشدة الإغراء. والحق أنه ليس ثمة معاذير ومسوغات شرعية تتيح للمرء الوقوع في مثل هذا المنكر. وما كان لمؤمن أو مؤمنة أن يأثم بالتماس الأعذار وذلك لأنه لا مجال للمرونة أو التساهل في شيء حرمه الإسلام.
إنه لا يمكن الوثوق بقيم الغافلين عن قيم الدين وذلك لأنها تتغير تبعا لتغير الظروف والوقت والملابسات. لذلك تبرز تفسيرات شتى انطلاقا من هذه العوامل. فقد تجد القمار وأمثاله من المنكرات مرفوضة في بعض الأمكنة في حين تجدها مقبولة تماما حتى في نظر منكريها إذا مورست في أماكن معينة كالفنادق مثلا. فقد لا يجد الشخص الذي لا يقامر   حرجا البتة في لعب القمار إذا كان المكان ملائما لذلك.
إن السلوك القويم يقتضي مجانبة الشرور في كل الأحوال. وإن تقلب سلوك المرء بحسب الظروف والرفقة دليل على ضعف الشخصية. وليس يرجى من شخص يجهل قيم الدين أن يكون ذا شخصية أو إرادة قوية.
اختفاء مشكلة المخدرات
ذكرت إحدى وكالات الأنباء نقلا عن تقرير أعدته منظمة الأمم المتحدة في عام 1997م أن 200 مليونا من سكان العالم يتعاطون المخدرات. ولا تنفك الصحف ومحطات التلفزة تعرض في كل يوم تقارير مطولة عن تعاطي وإدمان المخدرات الأمر الذي يصيب عقولنا بالخدر ويدفعنا إلى عد هذا الأمر من جملة الأشياء المعتادة. غير ن التأمل في هذه الشرور يتيح لنا فهما أفضل لوهن الأساس الذي يرتكز عليه هذا القبول. فهل يعقل أن يستسلم الإنسان الذي خصه الله بنعمة العقل وميزه بها عن كافة المخلوقات لإدمان مليجرامات قليلة من مادة ما ويفقد وعيه أو ينهار بالكامل إذا حرم منها؟
يتعاطى مدمنو المخدرات في الغالب الجرعة الأولى من المخدرات قائلين: "لا بأس من تجربة هذا الأمر مرة واحدة"، فتتولد فيهم، بوعي أو بدون وعي، نزعة تمرد. ثم يجدون أعذار "معقولة" لإدمانهم لكنها مع ذلك أعذار واهية. إن تلهي هؤلاء الأشخاص عن ضعف إرادتهم الشخصية يدفعهم  إلى الإنحاء باللائمة على من حولهم من الناس، حيث تصبح المشاكل الأسرية و الفشل في الدراسة و العمل والصراعات الاجتماعية والمشكلات المالية وتصعّب الأمور أو الاكتئاب لسبب أو لآخر، أسبابا كافية للتورط في مستنقع الإثم. وما إن تتلبسهم هذه الروح حتى تتكون لديهم نظرة سلبية للأمور ثم يغوصون أكثر في لجج السلبية والتشاؤم. 
يشعر هؤلاء الناس بالضعف أمام مصاعب الحياة. ولأنهم محرومون من معية الله ورفقته فإنهم لا يثقون بأحد، مما يزيّن لهم أن سداد الرأي يحتم عليهم نسيان كل شيء وأن يفقدوا الوعي الحقيقي. فتدفعهم هذه القناعة إلى زيادة كمية المخدرات التي يتعاطونها في كل يوم فيخربون حياتهم بأيديهم. كما يزيدهم إنكارهم للمعاد الأخروي وإيمانهم بأن الموت هو النهاية التي لا بعث بعدها يزيدهم حرصا على الاستمتاع بحياتهم إلى آخر مدى لكنهم يصابون بالهلع حين تتحول هذه الحياة إلى كابوس يقض مضاجعهم، فينتهون إلى ورطة وذلك حين تفتك المشكلات، التي تلقي بوطأتها الثقيلة على حياتهم اليومية، بصحتهم العقلية والجسدية.
إن هذه الحالة المرعبة من السخط والغضب الذي يجدونه إنما هو عقاب في هذه الدنيا على تهافتهم على شهواتهم بدلا من الحرص على إرضاء الله.
لقد وهب الله الإنسان حكمة وضميرا وعقلا وبشره بحياة مباركة في هذه الدنيا وفي الآخرة شريطة أن يكون همه هو إرضاء الله، فإن لم يفعل فالجحيم مصيره في الدنيا وفي الآخرة. والحق أن الذين يبتغون القرب من الله هم وحدهم الذين ينعمون بالأمن أملا في الفوز بالنعيم المقيم في فردوس الله الأعلى وطمعا في العيش الهانئ في الحياة الدنيا.
إن القرب من الله مالك السماوات والأرض وما بينهما هو بلا ريب أشد ركن يمكن أن يأوي إليه الإنسان، وهذا هو الذي يجعل المؤمنين أقوى الناس وأصلبهم قناة، قوة في الإرادة وقوة في الإدراك. إن عمق إيمانهم بالله وإخلاصهم لدينه الذي أنزل هو الذي يمدهم بهذه القوة.
إن الأمراض الاجتماعية كتعاطي المخدرات والكحول والقمار والعنف تنشأ بسبب الغفلة عن ذكر الله.
 وهي آفات يسلم منها كل من يعرف نعم الله عليه ومسئولياته تجاه مسبغ هذه النعم.
اختفاء البِغاء
"وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً"(الإسراء: 32)
إن الزنا، وهو أحد الأفعال التي حرمها الله، جريمة شنعاء تحط من قدر الإنسان في الدنيا والآخرة إن لم يتب صاحبها. ويجلب الزنا للمجتمع وللأفراد الذين يمارسونه أمراضا عديدة. أما المؤمنون فيجتنبون الزنا بل ويبغضونه لأن الله حرمه. ويجب أن لا يغيب عن البال أن الله يحث على الزواج والذي هو رابطة يباركها الإسلام.
وفوق ذلك، فإن الأذى الذي يلحقه الزنا بالمجتمع عامل آخر يعزز عزيمة المؤمنين على النفور منه والابتعاد عنه. كما يحذر المؤمنون من سوء عاقبة مرتكبي جريمة الزنا التي حرمها الله في القرآن تحريما قاطعا. ولقد أركس الزنا كثيرا من الناس اليوم وسلبهم الكرامة والثقة بالنفس والاحترام وسلكهم في نمط حياة مذل. كما هدم الزنا كثيرا من الأسر وملأ حياتها بالحزن والقلق وفاقم أزماتها النفسية. وما درى هؤلاء البؤساء أنهم سيحصلون على الأمن والاستقرار النفسي وسيستعيدون ثقتهم بأنفسهم وسيحافظون على أواصر الحب والاحترام فيما بينهم إن استجابوا لأمر الله وقصروا أنفسهم على الحلال المشروع. إلى جانب أن هذه العفة ستضمن سلامة الجو الأسري وسلامة المجتمع.
إن للزنا دوراً معروفاً في تحطيم المجتمعات وذلك لأنه يستهدف الركيزة الأولى في المجتمع وهي الأسرة. ويفقد الأشخاص الذين سقطوا في حمأة الزنا هيبتهم وكرامتهم الشخصية واحترام الناس من حولهم. ومن الخطأ الظن بأن الرغبة في الحصول على المال هي وحدها التي تدفع الناس إلى ممارسة الدعارة. ففي الغالب يكون هناك ميل شخصي نحو الزنا ولكن هذا لا يغير من حقيقة أنه زنا. وينشد الناس بوجه عام في مثل هذه الحالات الراحة النفسية وذلك بزعم أنهم "لا يرمون إلى تحقيق أي مكسب مادي من وراء علاقاتهم" لكن هذا تمويه وتضليل كبير إذ لا يرجى من شخص مرد على تجاوز حدود الله أن يقف عند حدود مشروعة. ويخبرنا الله في القرآن أنه حرم كافة أشكال العلاقات الجنسية التي تحدث خارج إطار الزواج. وهذا هو السبب الذي يجعلنا نمتنع عن حصر البغاء في قالب معين واحد.
ومن جهة أخرى فإن قناعة أكثر الناس الذين يمارسون الزنا بحرمته وشناعته تملأهم هما وغما وتجعلهم فريسة لعذابات الضمير. ولن يفلح إنكارهم وجحودهم في إخفاء حقيقة أنهم قد فقدوا كرامتهم وثقتهم بأنفسهم.
إن نصب أماكن معينة لممارسة البغاء هو من الأضرار الأخرى التي تلحقها هذه الظاهرة بالمجتمع. وكلما زاد البغاء كلما زاد عدد هذه الأماكن مما يعجل بخراب المجتمع. إذ ينجذب الشباب إلى هذه المواضع وتضعف الروابط الأسرية ثم تكثر الخيانة. لكن الله يدعو إلى أوضاع يسودها الأمن والإخلاص والوفاء والثقة ويسمي ذلك نعمة.
لقد اختار كثير من الناس عبر تاريخ البشرية أن يتكسبوا بالبغاء فأركسوا بذلك أنفسهم وحطوا من أقدارها. ويعرض الزنا في أيام الناس هذه كطريق سهلة للكسب المادي. إذ تدفع الرغبة في الثراء كثيرا من الناس إلى أن يحيوا حياة مذلة مشينة. ويحذر الله الناس في القرآن من هذا الخطر فيقول: " الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (البقرة:268)
لكن إذا لاذ الإنسان بكنف خالقه ودخل في زمرة المؤمنين فسيسوق له الله الرزق من حيث لا يحتسب ويغنيه من فضله. ولا ريب أن المؤمن الحق سينال بإذن الله الفضل في الدنيا والآخرة. لكن الله قد يبتلي عبده المؤمن فيقدر عليه رزقه، وفي هذه الحالة ينال المؤمن خيرا  عند خالقه إذا تأمل حال الحياة وحتمية زوالها.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الإنسان قد يقع في أي نوع من الأخطاء في حياته. وليس بمستبعد أن يأتي المرء أفعالا محرمة في القرآن أو أن يقضي حياته في البغاء أو في أي لون آخر من ألوان العلاقات الجنسية المحرمة. لكن إذا تاب المرء وأناب إلى الله وخلصت بذلك نيته فإن الله سيقبل توبته إن شاء الله. لكن يتعين على المرء أيضا أن يدرك أن التوبة التي يقبلها الله ليست هي التوبة التي تأتي عند قدوم الموت. ولقد أوضح الله هذا الأمر في القرآن فقال: "إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً {17} وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا" (النساء: 17-18)
لا أحد يتكسب بفعل غير مشروع
أشرنا فيما مضى من فصول هذا الكتاب إلى حقيقة أن الناس المحرومين من قيم الدين لا يدركون حقيقة اليوم الآخر ولذلك تصبح الدنيا أكبر همهم ولا يعرفون حدودا في انسياقهم وراء شهواتهم. فهؤلاء الناس لا يتورعون عن عمل أي شيء في سبيل إشباع رغباتهم ولو أدى بهم ذلك إلى التضحية بكرامتهم. فهم، حسب منطقهم المعوج، سيموتون في نهاية المطاف ويتحولون إلى تراب ولذلك يتعين عليهم أن يستمتعوا بكل لحظة من حياتهم القصيرة. فيصبح المال بغيتهم الأولى وذلك لأنه في نظرهم الطريق الموصلة إلى النجاح والوسيلة التي يحصلون بها على ما يريدون. وهنا يتجلى ضعفهم الأخلاقي فيتكون لديهم استعداد لعمل كل شيء يجلب لهم المال بطريقة هينة ميسورة.
حري بهؤلاء الناس أن يقعوا في كل ما يمكن تصوره من ألوان الشرور كالخداع والخيانة والغش والسرقة والنصب والابتزاز وشهادة الزور. وإن في الأخبار التي تفيض بها الصحف اليومية عن هذه الممارسات لتأكيد لهذه الحقيقة، فمن منا لم يسمع بجرائم القتل التي أرتكبت بغرض الحصول على ميراث القتيل، ومن منا لم يسمع بتشجيع أناس لزوجاتهم وبناتهم وجيرانهم على ممارسة البغاء للحصول على المال أو غير ذلك من ضروب الغش.
لكن المؤمنين يعلمون أن الله هو الرزاق المتين. وليس معنى ذلك أنهم يجلسون في بيوتهم ينتظرون الرزق أن يأتيهم بل يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، لكن طمعهم في الدنيا محدود ولا يرد على خواطرهم هم باكتساب العيش من غير وجوهه المشروعة. إنهم يدركون أن رضوان الله لا ينال ألا بالصدق وبالتقوى، كما جاء في الحديث: "إن الله يحب المؤمن يحب أن يكون رزقه حلالا" (الطبراني). لكن الله يكافئهم على زهدهم في الحياة بأن يسبغ عليهم آلائه الكثيرة.
ماذا يحدث للمجتمعات عندما يتشبث أفرادها بأخلاق الإسلام؟
إن وجود قيم الدين يملأ النفوس بحب الله. ولهذا الحب تأثير إيجابي بالغ على الناس كافة. إن تطلع المؤمنين إلى نيل رضا الله وعفوه يدفعهم إلى التحلي بأفضل الأخلاق وإبداء المحبة والاحترام لبعضهم البعض فتتخلل معاني الرحمة والتسامح والعطف جميع مفاصل المجتمع ويتسابق الناس ويتنافسون على فعل الخيرات.
وفي المقابل، تحول خشية الله بين الناس وبين الوقوع في الإثم وبهذه الطريقة يقضى بسهولة على كل أنواع الشر وينفذ دفء الدين وروحه إلى سائر جوانب الحياة. ولا ريب أن المقصود بالدين هنا هو العقيدة الأصلية التي جاء بها القرآن والاستمساك بها بتجرد وإخلاص.
إن للأسرة وظيفة جوهرية في تكوين وبقاء أي مجتمع من المجتمعات. وحين يتمسك الناس بمبادئ الدين ويقيموا لها وجوههم تزدهر العلاقات وتقوى بين أفراد الأسرة ويسود الحب والاحترام الحقيقيين. وحين تفقد الأسرة يفقد مفهوم الدولة معناه، وذلك لأن الأسرة والدولة مفهومان متداخلان. إن تفكك الأسرة يعجل بنهاية المجتمع والدولة. وفي المجتمعات البعيدة عن هدى الدين ينزع الناس إلى التمرد والفوضى والخروج على سلطان الدولة.  وإذا دعت الحاجة إلى إظهار القيم الأخلاقية وحمايتها يحجم الأشخاص الذين تخلو قلوبهم من خوف الله عن المشاركة في تحقيق هذا الهدف. وحين تتعارض مصالح المجتمع مع المصالح  الشخصية يسارع الأشخاص المجردون من قيم الدين، حكاما كانوا أو محكومين، إلى تفضيل مصالحهم الفردية. ومما يجدر ذكره هنا أن هذا التفضيل للمصالح الشخصية يحمل صاحبه إلى التهرب من خدمة قومه حين تدعو الحاجة. ولهذا فليس بمستغرب أبدا أن يمارس هؤلاء الأشخاص أنشطة إرهابية. لكن الشخص المقتدي بهدي الدين لا يفرط في واجباته الوطنية بل لديه استعداد لتعريض حياته للخطر ذبا عن القيم التي يؤمن بها. إن مصالح الوطن في نظر مثل هذا الشخص مقدمة على مصالحه الشخصية.
في المجتمعات التي يسود فيها الوعي الديني يشعر الطلاب بالحب والاحترام تجاه الدولة ويدعمونها ولا يهاجمون قوات الشرطة أو قوات الجيش كما يحدث في المجتمعات الأخرى. إنهم يثمنون دور قوات الشرطة والجيش في حفظ الأمن. ويثق أفراد المجتمع بوجه عام بدولتهم وجيش وشرطة بلادهم ويعينونهم. وتنتهي انتفاضات الطلاب والصراعات بين الأخوة والنزاعات بين اليمين واليسار. وذلك لأنه لا يبقى شيء يشتجر حوله الناس بعد أن توحدت كلمتهم بشأن كتاب الله وما فيه من تعاليم تحث على التعاون والتعاضد.
 
إن حكم الدولة يصبح في ظل هذه الأوضاع سهلا ميسورا ويعم الأمن والرخاء ربوع البلاد. أما الأشخاص الذين يتولون إدارة شئون البلاد فيعاملون مواطنيهم برفق وإنصاف ولا يسومونهم الظلم والخسف. ويرد المواطنون التحية بأحسن منها فيحترمون مسئوليهم. ولا ريب أن دولا بهذا الوصف لتنهض على أساس متين.
إن البعد عن أخلاق الإسلام يجعل الأب عدوا لابنه وبالعكس، ويولد الشقاق بين الاخوة، ويدفع أصحاب العمل إلى ظلم موظفيهم وهكذا تنتظم الفوضى الاجتماعية كافة قطاعات المجتمع، فتتوقف المصانع والشركات عن العمل بسبب الفوضى ويستقل الأثرياء عرق الفقراء. أما في مجال العمل التجاري فيغلب الغش على كافة المعاملات. وهكذا تصبح الفوضى والصراعات طريقة حياة لأفراد المجتمع. وسبب ذلك كله تجرد الناس من خشية الله. وذلك لأن الشخص الذي لا يرجو لله وقارا لا يتورع عن الظلم أو عن اللجوء إلى العنف المفرط والقسوة، بل وحتى القتل. كما يدفعهم موت الضمير إلى الإصرار والتبجح بفعالهم المقبوحة. وعلى النقيض من ذلك فإن الشخص الذي يخاف عذاب الله الذي أعده للظالمين يوم القيامة يحجم عن إتيان هذه المعاصي. إن منظومة الخلق الإسلامي تمنع وقوع هذه الأفعال وذلك لأن كل شيء يعالج برفق وهدوء وبالتي هي أحسن، فلا أخطاء ولا تجاوزات قانونية تحدث وتخلو ساحات المحاكم ومراكز الشرطة من القضايا والمرافعات.
إن الاستقرار العقلي الذي ينعم به أفراد المجتمع قاطبة يعود بالخير والبركة على المجتمع. وتنتعش حركة البحث العلمي فلا يمر يوم دون حدوث تقدم تقني أو اكتشاف علمي جديد ثم يسخر كل ذلك في خدمة المجتمع ككل. وتزدهر الثقافة ويسعى القادة لتحقيق الرفاه العام للمجتمع. وهذا الازدهار هو نتيجة لتحرر أرواح الناس وعقولهم من الضغوط. وذلك لأن هدوء البال يشحذ الذهن ويعمّق الفكر. إن الحياة القائمة على الاستقامة الخلقية تجلب للناس السعادة والنجاح الاقتصادي والزراعي والصناعي.
إن الفقر والجوع وسفك الدماء والعنف الذي ينتظم العالم تعود جذوره إلى المنطق الذي يعد جميع هذه الشرور أمرا معتادا ولا مناص منه. ويسمح هذا المنطق بقتل النساء والأطفال المساكين لا لشيء إلا لأنهم ينتمون لعرق آخر، أو يسمح بتجويعهم في الوقت الذي يعاني فيه الآخرون ممن التخمة. وجميع هذه الأمور تحدث لأن هذا المنطق المذكور يعدها من "قوانين الحياة الثابتة". لكن هذا العنف ليس "قانونا من قوانين الحياة" بل هو أحد "قوانين الكفر". وهذه البشاعات ستتلاشى إلى الأبد وسيسود العدل والرحمة ربوع العالم إذا آب الناس لقيم القرآن.
أما في مضمار الفنون والآداب فتحدث نهضة كبيرة. فالناس الذين تتبخر أحلامهم ويضيق أفقهم بما يجابهون من فتن وأزمات يومية يمكنهم التخلص من هذه المشكلات بالتشبث بقيم الدين. وكأثر لذلك يبدع الناس في الفنون وتبلغ قدراتهم ومواهبهم غايتها القصوى. والشخص الذي يدرك أن الله قد نفخ فيه من روحه وبشره بجنة تزخر بالمجد والفن وغير ذلك من آلاء يأتي دونها الحصر يتولد فيه تشوف وتطلع إلى بلوغ غايات الكمال الفني والجمالي. وفوق ذلك، فإن الحب الذي تنطوي عليه جوانحه لمن حوله من الناس سيعزز التزامه بتقديم أفضل ما عنده.
لكن الناس المحرومين من أخلاق وقيم الدين لا تجد فيهم اهتماما ولا تطلعا إلى إثراء أرواحهم. فلا يشعرون البتة بالرغبة في التعامل مع الآخرين بخلق حسن وذلك لأن هؤلاء الآخرين ليسوا في نظرهم سوى أحفاد قرود مآلهم إلى الفناء. وغاية هؤلاء الناس في الحياة هي أن يتبعوا شهواتهم التي تمليها عليهم غرائزهم الأنانية الحيوانية.  غير أن تتبع شهوات النفس لا يسعد الروح الإنسانية ولا يزكيها بل يصيبها بالتبلد والتحجر. فهؤلاء الناس لا يرجى منهم إضافة شيء ذي بال إلى الفن والأدب، كما أنهم يفقدون القدرة على تذوق الفن والجمال والانفعال بهما. والبلد الذي لا يستمتع أهله بالفن والجمال الحقيقي يصاب أهل الفن والأدب فيه بالإحباط فتعقم قرائحهم أن تنتج إبداعا فنيا حقيقيا. ويغدو الجري وراء المال والشهرة الهدف الأول للفنانين والأدباء فتأتي أعمالهم الفنية ممسوخة وزائفة.
وختاما، فإنه حين يتمسك الناس بقيم الدين التي جاء وصفها في القرآن تستحيل حياتهم إلى فردوس ويغدو الانسجام والتناسق الاجتماعي الذي هفت إليه أفئدة الناس في كل العصور وأصبح في نظرهم حلما صعب التحقق، يغدو واقعا معاشا في فترة زمنية قصيرة.
قيم القرآن هي الحل
تطرقنا عبر فصول هذا الكتاب إلى وجهة نظر وأنماط سلوك الأشخاص البعيدين عن قيم الدين وناقشنا السمات الأساسية للمجتمع الذي يتكون من مثل هؤلاء الأفراد. وحللنا طريقة عيشهم الموبوءة بالمشكلات والأزمات المعضلة وما يترتب عليها من ضرر نفسي وجسدي. كما تعرضنا بالوصف للحياة المباركة لمجتمعات المؤمنين وذكرنا أن ما تتسم به حياة المؤمنين من سلام وأمن ليس سوى انعكاس لحقيقة أن القرآن يطرح الحلول لكافة أنواع المشاكل. بل يوفر القرآن الحل الأنجع والأعقل لأي مشكلة أو معضلة كانت.
إن التمسك بأخلاق القرآن يسكب السعادة والأمن في الروح الإنسانية ويضع حدا لكل صنوف الظلم والصراعات والحروب والإجحاف والسرف والقلق والتعصب والقسوة والعنف. ويرشد ويوجه العلاقات الاقتصادية والتجارية والاجتماعية ويضع حدا للتدافع بين أفراد الأسرة والأقارب والمجتمع ككل. لقد جاء القرآن بأفضل وأكمل وأنجع الحلول. وفوق ذلك، يرشد القرآن الإنسان إلى أقوم الخلق وأفضل السلوك للتعامل مع أي قضية وفي ظل أي ظرف. وإن مجتمعا يكون أفراده مثالا يتجلى فيه هذا السمو الأخلاقي سيهتدي إن شاء الله إلى أفضل الهياكل الاجتماعية التي لهث وراءها البشر من قديم العصور. إن اشتمال القرآن على حلول لجميع المشكلات تبينه الآية التي يقول فيها رب العزة: "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون" (يوسف: 11)
لا يمكن للناس بدون هدي القيم الإسلامية أن يأتوا بحلول عملية لمشكلاتهم الشخصية والاجتماعية. والحق أن التاريخ يزخر بمشكلات كثيرة ظلت بلا حل حتى نزول القرآن. وطالما استمر الإنسان في تجاهله للدين الحق فإنه لا محالة سيواجه مشكلات وأزمات يعجز عن التعامل معها. وهذا هو المصير الذي ينتظر الغافلين عن الدين في الحياة الدنيا أما العذاب الذي ينتظرهم في الدار الآخرة فهو أنكى وأبقى. 
إن الله هو وحده المحيط بأحوال الإنسان، وقد زود الله الإنسان في كل العصور بكل أنواع التفسيرات والتوضيحات والمعارف من خلال الدين الحق. ويخبرنا الله في القرآن أن الإنسان سينال السعادة في الدنيا إذا اقتفى أثر القرآن: "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون" (النحل: 97).لكن إذا أصر الإنسان على التنكر لهدي الله وأخلد إلى الأرض واتبع هواه فستناله سيئات ما قدمت يداه. وذلك لأن تجاهل القرآن يعني الحرمان من نور الله. فلا تجارب الإنسان الشخصية ولا تجارب الأجيال السابقة ستغني عن الإنسانعند التعامل مع المشكلات التي سيواجهها في مسيرة حياته. بل سيغرق في مستنقع الغم والهم والضغط النفسي والحيرة والفشل. وبعد حين سيستسلم هذا الإنسان لهذا الوضع ويحيا حياته الحاضرة معتقدا أن النكبات التي تحل به، والتي هي في الحقيقة ثمرة للكفر، حقائق حياتية لا تتغير.
إن سبيل الخلاص واضحة بينة، ألا وهي الالتفات إلى الله خالق الكون والركون إليه وابتغاء السعادة وراحة البال في التمسك بالدين الذي ارتضاه الله لنا. لقد أخبرنا الله تبارك وتعالى أن الالتفات إلى الدين هو طوق النجاة في الحياة وبشرنا أنه سينجي عباده المخلصين من الخوف بشرط أن يسمعوا ويطيعوا له: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون" (النور-55)