الاقتصاد السياسي النيوكلاسيكي: المدرسة النمساوية
. نظرية سلوك المستهلك: على أساس النظرية الذاتية في القيمة أقام النيوكلاسيك نظرية أخرى عرفت بـ"نظرية سيادة المستهلك" Consumer Sovereignty ، والتي تعرف أيضا باسم "نظرية سلوك المستهلك" Consumer Behavior ، وتنص على أن الهدف النهائي لنظام الإنتاج هو بيع السلعة للمستهلك، وبذلك يكون هو النقطة الأخيرة والمحطة النهائية لكل العملية الاقتصادية. والسعر يتحدد بناء على درجة احتياج المستهلك للسلعة، وبالتالي تتحدد تكاليف الإنتاج بناء على السعر الذي يقبل أن يدفعه المستهلك. المستهلك بقراره الشرائي هو الذي يحدد كل عملية الإنتاج، وبذلك تكون له السيادة • . الحقيقة أن المستهلك في ظل الإنتاج الصناعي ليست له تلك السيادة المدعاة، لأنه مجبر على تطويع احتياجاته مع ما يطرحه الإنتاج، إذ تتعرض السلع الاستهلاكية لتوحيد المقاييس Standardization ، وعلى المستهلك أن يتكيف معها، وسلوكه تابع دائما لهذه العملية ولكل تجديد أو تغيير في السلع، وليس سلوكه مستقلا أبدا تجاه الانقلابات التي تحدثها فنون الإنتاج على السلع. يقول فبلن عن السلع: "إن درجتها ودوامها ومستواها وتتابعها ليست مسألة اختيارية لدى الأفراد، بل إن العملية الإنتاجية هي المتحكمة في ذلك، إذ تجبر السلع وبالتالي منتجيها ومستهلكيها معا على الالتزام بمقاييس واحدة.. ثم تأتي بعد ذلك مرحلة من التنميط والتحول الآلي لتفاصيل الحياة اليومية". لا معنى بعد ذلك للحديث عن حاجات بشرية أولية سائدة لدى كل الأفراد، فالحاجات أصبحت خاضعة لما تقدمه الصناعة من سلع. إن فكرة سيادة المستهلك خرافة، لأن السيادة الحقيقية للمؤسسة الاحتكارية وما تنتـجه من سلع. ليس المستهلك سوى نتاج الممارسات التسويقية للشركات من دعاية وإعلان وما يصاحبها من دراسات في علم النفس وعلم التسويق. عندما يتحدث النيوكلاسيك عن سيادة المستهلك ويتخذونه النقطة الأساسية للتحليل الاقتصادي فهم بذلك يسيرون في نفس الطريق الأيديولوجي الذي رسمه النظام الرأسمالي، إذ يتم نفاق المستهلك وإيهامه بأنه هو السيد. إن اتخاذ المستهلك عنصرا أساسيا في التحليل يعني أن النيوكلاسيك قد أخذوا صنيعة أيديولوجية زائفة للنظام الرأسمالي كمبدأ في التحليل. صحيح أن المستهلك موجود بالفعل، وصحيح أن سلوكه قابل لأن يقاس ويحلل، إلا أنه السطح الظاهري الأيديولوجي للمجتمع الرأسمالي كما ذهب ماركس من قبل، لا حقيقته الباطنة. ويوضح فبلن أن نظرية سلوك المستهلك تكشف عن التحيز الفردي للاقتصاد النيوكلاسيكي ونزعته النفعية، ويقول في ذلك: إن نظرية دقيقة للسلوك الاقتصادي لا يمكن استقائها من الفرد ببساطة، حتى للأغراض الإحصائية –كما هو الحال في اقتصاديات المنفعة الحدية- لأنها لا يمكن أن تـُستنج بمفردات الطبيعة البشرية؛ ذلك لأن الاستجابة التي تشكل السلوك الإنساني تحدث في ظل معايير مؤسسية (إجتماعية) وتحت مثير ذي طابع مؤسسي". ينقد فبلن في هذا النص الآتي: 1. رد الأداء الاقتصادي إلى سلوك الأفراد. 2. النظر إلى سلوك الأفراد على أنه يصدر عن طبيعة بشرية سابقة في وجودها على المجتمع ومؤسساته. 3. تصوير هذه الطبيعة البشرية على أنها نفعية وأنانية. 4. تجاهل السياق المؤسسي أو الاجتماعي الذي يشرط السلوك الفردي ويشكل له مثيرا. 5. اعتماد سلوك الأفراد باعتباره دالة إحصائية بحجة أنه يمكن حصره وقياسه، حيث يقام على هذه الدالة نظرية في الأداء الاقتصادي لمجتمع بأكمله. وبناء على أن سلوك المستهلكين يمكن حصره وقياسه فقد وجدت ظاهرة ترييض الاقتصاد Mathematization of Economics طريقها لعلم الاقتصاد الحديث. إن هذه الظاهرة مستندة هي الأخرى على أيديولوجيا سلوك المستهلك. إذا كان المستهلك يكشف في سلوكه عن انتظام ما يمكن حصره وقياسه والتعبير عنه بالأرقام ولغة المعادلات الرياضية فما ذلك إلا لأن سلوكه خاضع هو نفسه للتقنين والسيطرة الإعلامية ولنظم إدارة السوق في الشركات الكبرى. هذه النظم تضع للأفراد قواعد تفرض عليهم قيامهم بسلوك المستهلك، وبالتالي فليس سلوك المستهلك مبدأ أوليا يمكن الانطلاق منه للتحليل الاقتصادي، لأنه نتاج النظام الذي ينبغي دراسته. ما لم ينتبه إليه النيوكلاسيك وهم يصوغون نظرية سلوك المستهلك أن هذا المستهلك هو في نفس الوقت منتج، إنه ينخرط في إنتاج نفس السلع التي يستهلكها. فسواء كان المرء منشغلا بعمل إنتاجي أو خدمي فهو يساهم بنصيب في مجموع ثروة المجتمع كله، لأن العمل في ظل العصر الصناعي عمل اجتماعي يسهم فيه الكل. الفرد منتج ومستهلك في نفس الوقت، لكن يعتم علماء الاقتصاد على هذه الحقيقة ويعزلون جانب الإنتاج عن الفرد ولا يركزون إلا على كونه مستهلكا، أي يستبعدون ثلاثة أرباع ساعات يقظة المرء التي يقضيها في الإنتاج ويركزون على الساعة الواحدة التي يكون فيها مستهلكا. إذا نظرنا إلى أفراد المجتمع على أنهم منتجين ومستهلكين في نفس الوقت فسوف يتبين أن من حقهم نصيبا أكبر من السلع التي ينتجونها، لأن ما يحصلون عليه من سلع لا يتناسب مع الكمية التي ينتجونها. وعلى أساس نظرية سيادة المستهلك يقيم النيوكلاسيك نظرية أخرى في سلوك المنتج، وتتضح هذه النظرية ابتداء من بوم بافرك، إذ يذهب إلى أن نفس القواعد التي تحكم المنتج هي التي تحكم المستهلك، والسبب أن المنتج ينتج السلع التي يستهلكها المستهلك ويقيمها ويحدد أسعارها بسلوكه الشرائي. وهذا أسلوب مراوغ لإعطاء الأولوية لنظرية القيمة الذاتية. الحقيقة أننا بالربط بين سلوك المنتج وسلوك المستهلك إنما نقف على السطح الظاهري للمجتمع الرأسمالي، ففي هذا المستوى الظاهري نجد أن المنتج ينتج بالفعل تلك السلع التي يستعد المستهلك لدفع سعرها، وهذا مستوى جزئي في التحليل لا يصلح إلا لوصف سلوك المنتج الصغير وللإنتاج السلعي في كل نظام اقتصادي سابق على الرأسمالية. أما الإنتاج السلعي في النظام الرأسمالي فلا يحتل فيه المستهلك تلك الأهمية المدعاة، لأن المستهلك كما قلنا نتاج لنظام الإنتاج، ذلك النظام الذي لا ينتج السلع وحسب بل ينتج مستهلكيها في نفس الوقت. إن أفعال المنتج لدى المدرسة النمساوية يحددها سلوك المستهلك، بحيث يصبح الإنتاج كله مشروطا بالاستهلاك، وهذا ما يتيح للمدرسة أن تعالج تكاليف الإنتاج في ضوء منفعة السلعة. ويعد هذا تغييرا كبيرا في أفكار الاقتصاد الكلاسيكي، لأنه يجعل الإنتاج مشروطا ومحددا بالقيمة الإستعمالية، ورابطا القيمة التبادلية أو السعر بنفس تلك القيمة الاستعمالية. إن الإسهام الأساسي للمدرسة النمساوية يتمثل في أنها خرجت عن الكلاسيك في تحديدهم للإنتاج على أساس القيمة التبادلية، فالسعر لدى الكلاسيك يتحدد على أساس القيمة التبادلية للسلع في السوق، أما النمساويون والنيوكلاسيك من بعدهم فعلى العكس، إذ حددوا الإنتاج بالقيمة الاستعمالية، والقيمة التبادلية ذاتها بالفائدة أو المنفعة وذلك في اتفاق مع نظريتهم الذاتية في القيمة والمنفعة الحدية. لكنهم لا يزالون معرضين للنقد الماركسي رغما عن ذلك، لأن القيمة الاستعمالية ذاتها من إنتاج النظام الرأسمالي ومشروطة به ولا يمكن أن تكون متغيرا مستقلا. فكما قال ماركس في "معالم نقد الاقتصاد السياسي"، فإن رغبات وتفضيلات واختيارات المستهلك تخلقها السلع، تلك السلع التي يخلق مجرد ظهورها في السوق حاجات جديدة، وكأن السلع تأتي معها بالحاجة إليها في السوق: لا تنشأ الرغبة في الشئ ما لم يكن هذا الشئ معروضا في السوق من قبل.