وفي ظل سياسات الفصل العنصري التي طبقتها الحكومات المتعاقبة في جمهورية جنوب إفريقيا منذ النصف الأول من القرن العشرين لم يمثل الوجود الإسلامي عائقا أو منافسا حقيقيا أمام حركات التنصير في أوساط الجماعات الإفريقية، وبالتالي لم تحظ بكثير اهتمام أو دراسة من جانب الدارسين الأوروبيين.
ومع التحولات التي شهدتها جمهورية جنوب إفريقيا والدور السياسي والاجتماعي والاقتصادي المتزايد للمسلمين في البلاد تزايد الاهتمام بأوضاع المسلمين وأحوالهم في الجنوب الإفريقي وأدت أحداث 11 سبتمبر إلى مزيد اهتمام بهذا الأمر في ضوء مساعي مكافحة الإرهاب في العالم.
وتسعى هذه الدراسة لبيان واقع مسلمي جمهورية جنوب إفريقيا وخصائصهم من حيث توزيعهم الجغرافي ومناطق تركزهم والتركيب الإثني والأوضاع الاجتماعية وأهم المؤسسات الممثلة لهم، وكذا الأنشطة والأدوار المختلفة التي يقومون بها على صعيد الدولة والصعوبات والمعوقات التي تواجههم.
أولا: التوزيع الجغرافي والتركيب الإثني:
كما هو الحال في كافة أرجاء القارة الإفريقية يصعب الحديث بدقة عن أعداد أتباع الجماعات الإثنية أو الطوائف والمذاهب والأديان لارتباط ذلك بأبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية داخل هذه البلدان وخارجها، لذا تتفاوت تقديرات المسلمين في دولة جنوب إفريقيا ما بين التقديرات الرسمية التي لا يتجاوز فيها عدد المسلمين المليون (نحو 750 ألفا عام 2007)، والتقديرات غير الرسمية التي تصل لضعف ذلك الرقم عن نفس الفترة. وسوف يتم الاعتماد على البيانات الرسمية رغم تحفظنا عليها.
ووفق هذا يمكن القول: إن المسلمين يتوزعون على المقاطعات التسع التي تتشكل منها جمهورية جنوب إفريقيا على النحو التالي:
نسبة المسلمين %
إجمالي السكان
عام 2007
*عدد المسلمين
المقاطعة
6.67
5278585
352082
غرب الكيب
0.27
6527747
17625
شرق الكيب
0.5
1058060
5290
شمال الكيب
0.09
2773059
2496
الولاية الحرة
1.51
10259230
153888
كوازولو ناتال
0,32
3271948
10470
الشمال الغربي
1,47
10451713
153640
جويتنج
0.51
3643435
18582
أمبومالانجا
0.14
5328286
7460
المقاطعة الشمالية
1.48
48502063
721533
الإجمالي
* تقديرات الباحث استنادا إلى إحصاءات 2007.
وكما يبين الجدول فإن نسبة المسلمين في جنوب إفريقيا تبلغ نحو 1.48% من إجمالي السكان، ويبين كذلك أن أكبر تركز للجالية الإسلامية هو في مقاطعة غرب الكيب حيث تبلغ نسبتهم نحو 7% تقريبا من إجمالي سكان المقاطعة تليها منطقة الكوازولو ناتال وجويتنج، بينما تقل نسبتهم عن 1% في باقي المقاطعات، وهو ما يمكن تفسيره في ضوء الأسباب السالفة البيان عن وصول المسلمين لجنوب إفريقيا وسياسات الفصل العنصري التي كانت مطبقة بالبلاد حتى عام 1994م، وهو ما يؤكده التركيب الإثني للمسلمين في جنوب إفريقيا على نحو ما يكشف البيان التالي:
%
السود
الهنود
الملونون
البيض
إجمالي المسلمين
العام
3.5
25254
49.3
357159
46.7
336956
3608
2007
البيان من إعداد الباحث استنادا إلى نسب 1991 والتقديرات الإحصائية لعام 2007.
ويلاحظ من الجدول السابق هيمنة عناصر الملونين (خاصة ذوي الأصول الإندونيسية المالاوية) والهنود على التركيب الإثني للمسلمين في جنوب إفريقيا حيث يمثلون 96% من إجمالي المسلمين في حين لا تزيد نسبتهم إلى إجمالي السكان عن 12% (9% ملونون، 2.8% هنود، تقديرات 2007)، في المقابل نجد أن نسبة السود المسلمين لا تزيد عن 3.5% من إجمالي عدد المسلمين في البلاد رغم أنهم يمثلون (أي السود) 79% من إجمالي السكان (تقديرات 2007)، بعبارة أخرى فإن نسبة عدد السود المسلمين إلى إجمالي عدد السود (نحو 38 مليونا) في جنوب إفريقيا نسبة لا تذكر، وكذلك الحال بشأن عدد البيض المسلمين وهو أمر ساهمت فيه سياسات التفرقة العنصرية التي كانت سائدة والتي حالت دون انتشار الدعوة الإسلامية بفاعلية خارج نطاق الجماعات الإثنية المعتنقة للإسلام.
ثانيا: أوضاع مسلمي جنوب إفريقيا وأنشطتهم:
بدأ العمل المؤسسي للجماعة المسلمة في جنوب إفريقيا مبكرا جدا، حتى في ظل النظام العنصري، فقد شيد المسلمون المساجد على أحدث طراز، وتعتبر العناية بالمساجد والمراكز العلمية والدعوية من أبرز مميزات الأقلية المسلمة في البلاد، يساعدهم على ذلك أن معظم المسلمين من الأثرياء الذين يملكون رؤوس الأموال الكبيرة، ومن الطبقة المتعلمة، فمنهم الأطباء والمهندسون والمعلمون، وهذا التعليم العالي أوجد نوعا من الوعي بأهمية دور المسلمين في المجتمع وتأثيرهم عليه، فهناك أكثر من ألفي طبيب مسلم يجمعهم "اتحاد الأطباء المسلمين"، ويستثمر أثرياء المسلمين أموالهم في العقارات وتجارة السجاد وتشييد المصانع، ولديهم الكثير من توكيلات السيارات، ونشاطهم ظاهر وملموس في تجارة الذهب والألماس.
ويُعدّ المسلمون من ذوي الأصول الهندية الأكثر ثراءً وتعليما، وهؤلاء يتمركزون في العاصمة جوهانسبرج، أما المسلمون ذوو الأصول المالاوية فهم الأقل ثراءً، بل معظمهم من الفقراء ويتمركزون في (الكاب)، وإن كانت الفئة الأولى الأكثرية، وهم الذين يشيدون المساجد التي يبلغ عددها أكثر من خمسمائة مسجد، كما أن لديهم مدارس إسلامية راقية جدا ذات إمكانيات كبيرة، وتوصف بأنها من أفضل المدارس التعليمية على مستوى البلاد ولها سمعة جيدة.
وقد دفعت قوة الوضع الاقتصادي للجالية الإسلامية إلى إنشاء مصانع ومحال لتقديم "الأغذية الحلال" ودفعت بعض البنوك لتقديم خدمات مصرفية إسلامية.
الأداء المؤسسي لمسلمي جنوب إفريقيا:
قامت الأقلية المسلمة في جنوب إفريقيا بتأسيس العديد من الجمعيات الإسلامية المؤثرة، ومنها "المنظمة التعليمية في جنوب إفريقيا"، والتي أُنشئت عام 1985 ويمتد نشاطها إلى كثير من دول العالم في إفريقيا وآسيا وأستراليا والولايات المتحدة وأوروبا، ولا يقتصر نشاطها على التعليم فقط، بل لها دورها الاجتماعي من خلال برامج رعاية الفقراء واحتضان المسلمين الجدد الذين اعتنقوا الإسلام حديثا.
وبدأت المنظمة نشاطها بإنشاء أربع مدارس تعليمية، ووصل عددها في عام 2005 م إلى (65) مدرسة ومركزا تعليميا، وهي تهدف إلى تدريس العلوم والمقررات الإسلامية والارتقاء بأداء المعلمين المسلمين وطبع الكتب الإسلامية باللغات المحلية لا سيما لغة الزولو، ونجحت هذه المنظمة في الحصول على دعم من المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة والعلوم (إيسيسكو) بالمغرب ومن الأزهر بمصر.
وتعتمد المنظمة في عملها على إنشاء أوقاف خاصة بها للإنفاق على المدارس والمعاهد التعليمية، فقامت بإنشاء محلات تجارية صغيرة بجوار المساجد يعمل فيها المسلمون الأفارقة الذين اعتنقوا الإسلام لمساعدتهم في حياتهم اليومية، كما بدأت المنظمة في إقامة مشاريع زراعية وتنموية للإنفاق على شئون الدعوة، وهو الأمر الذي انعكس على وضعية المسلمين وتوفير الحصانة اللازمة لهم.
وهناك أيضا "اتحاد الشباب المسلم" الذي تأسس في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين، وهو يقوم بتقديم البرامج الخاصة بالشباب في المدارس والمعاهد المتوسطة والعليا، كما أن هناك العديد من المؤسسات الخيرية والإغاثية الإسلامية في جمهورية جنوب إفريقيا، ومن هذه المؤسسات: "الوكالة الإسلامية الإفريقية"، و"جمعية هلال الأمل الطبية" التي ساعدت المسلمين وغير المسلمين في كثير من المناسبات، سواء كان ذلك بعد حدوث كوارث طبيعية أو خلال ما يقع من اشتباكات ناجمة عن الأزمات السياسية.
وفي بداية التسعينيات أُنشئت (جمعية اتحاد علماء المسلمين في جنوب إفريقيا) والتي ينضوي تحتها معظم المؤسسات والجمعيات من الرموز الدعوية بشتى تياراتهم ومذاهبهم العقدية والفكرية مما شكل قوة إسلامية لدى الحكومة من خلال اتحاد أهداف المسلمين العامة ومطالبهم.
وفي بداية القرن الحالي بدأ الاتصال القوي بين المسلمين في جنوب إفريقيا والعالم الإسلامي، وأخذت بعض الحركات الإسلامية تتجه إلى هناك، فظهرت حركة النقشبندية بدعم من الجمعيات الإسلامية التركية، وظهر الإخوان المسلمون، كما ظهر الاتجاه السلفي الذي يهتم بالعلم الشرعي، كما بدأ يظهر وجود شيعي لا سيما مع تزايد اتجاه الجاليات اللبنانية نحو جنوب إفريقيا للاستثمار والتجارة.
وعلى الصعيد الإعلامي هناك العديد من الصحف الخاصة بالمسلمين، مثل جريدة "الأمة" التي تصدر في "ديربن"، وجريدتي "الجمعية" و"القلم" اللتين تصدران في "كيب تاون" و"جوهانسبرج"، وقد مضى على إصدارهما أكثر من 20 عاما، بالإضافة إلى ذلك توجد ثلاث محطات إذاعية إسلامية ناطقة بالإنجليزية، إحداها تصل إلى أكثر من 50 دولة في العالم عن طريق القمر الصناعي، ويقوم على إدارتها مجموعة من كبار علماء المسلمين في جنوب إفريقيا، وتصل بوضوح إلى دول عديدة في منطقة الشرق الأوسط.
وعلى الصعيد السياسي انخرط المسلمون في جنوب إفريقيا في الحياة السياسية كجزء ومكون أساسي في المجتمع الجنوب إفريقي، ويلاحظ على السلوك السياسي للمسلمين طابع التوزع والانتشار، وهي سمة مميزة للأقليات بصفة عامة، فهناك عضوية ملموسة من المسلمين في حزب المؤتمر الوطني الحاكم، وانضم مسلمون آخرون إلى الأحزاب الأخرى كذلك.
وعلى صعيد ثالث حاول المسلمون تشكيل أحزاب مستقلة تعبر عنهم من أهمها: حزب المسلمين الأفارقة African Muslim Party ، وحزب جماعة المسلمين Al-Jama-ah Muslim Party واللذان خاضا انتخابات 1994م على المستويين المحلي والوطني ولم يحققا أي نجاح وهو ما تكرر عام 1999م ولكن في عام 2000 استطاع حزب المسلمين الأفارقة الفوز بمقعدين في الهيئة التشريعية المحلية في مقاطعة غرب الكيب ارتفعت إلى ثلاثة مقاعد عام 2006م ودخل في تحالف مع قوى المعارضة المعروفة بالتحالف الديمقراطي، وهو ما قد يشير من طرف خفي إلى عدم رضاء الناخبين المسلمين عن أداء حكومة المؤتمر الوطني.
وبصفة عامة يمارس المسلمون نشاطهم السياسي بفعالية، وتلعب مؤسساتهم دورها في التأثير على صناعة القرار، وكان لهم دور مميز في مناهضة نظام الفصل العنصري ومعارضة حكومة الفصل العنصري التي كانت تحكم جنوب إفريقيا سابقا، الأمر الذي انعكس على الثقل النسبي للمكون الإسلامي لا سيما من الهنود في أول تشكيل حكومي في أعقاب التحول الديمقراطي في جنوب إفريقيا عام 1994م، حيث ضمت الوزارة أكثر من أربعة وزراء من المسلمين، وكان هناك نحو عشرة سفراء يمثلون بلادهم في الخارج. كما تم إقرار بعض تشريعات الأحوال الشخصية الخاصة بالمسلمين والمستمدة من الشريعة الإسلامية.
وعلى صعيد القضايا الإقليمية والدولية يحظى المسلمون بحس سياسي كبير، ومشاركة فاعلة ومدروسة، ومن ذلك دور الجالية المسلمة المؤثر في "قمة الأرض"، والتصدي لمشاركة إسرائيل فيها، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة للانسحاب تضامنا مع إسرائيل، فقد استطاع المسلمون بالتعاون مع الجمعيات المناوئة للتمييز العنصري تنظيم التظاهرات المناهضة لإسرائيل وأمريكا والمؤيدة للقضية الفلسطينية أثناء القمة، وهو ذات الموقف الذي اتخذته الجالية الإسلامية من قانون مكافحة الإرهاب حيث أكدت العديد من المنظمات الإسلامية رفضها للقانون واعتبرت مثل هذه التشريعات ليست فقط غير ضرورية، بل إنها تهدد الحريات الأساسية التي ناضل من أجلها مناهضو نظام الفصل العنصري طويلا، وأنها انصياع بشكل كامل للضغوط الأمريكية.
ثالثا: القضايا والتحديات:
لعل أبرز التحديات التي تواجه المسلمون والدعوة الإسلامية في جمهورية جنوب إفريقيا هو الخروج من قيد العزلة التي فرضت على الجماعات الإسلامية في ظل الحقبة العنصرية وهو تحد ذو شقين أولهما يرتبط بالحفاظ على التماسك العضوي بين أفراد المجتمع الإسلامي على أسس جديدة غير سياج العزلة الذي كان مضروبا ومفروضا على الجماعات المختلفة مقيدا إياها بإقليمها وثقافتها ومؤسساتها.
وأدى زوال ذلك السياج إلى نزوح العديد من أبناء المسلمين من مناطقهم التقليدية إلى مناطق أخرى، خاصة تلك التي كانت مقصورة على البيض، الأمر الذي يهدد بذوبان أولئك الأفراد في قيم ومعتقدات تلك الجماعات، أخذا في الاعتبار الفارق الضخم في عدد السكان ما يجعل من المسلمين النازحين إلى تلك المناطق نقطة في بحر.
والشق الثاني من التحدي الناجم عن التحول عن الحكم العنصري يتعلق بمدى قدرة المسلمين على الاستفادة من ذلك الانفتاح في نشر الدعوة الإسلامية بين الجماعات الأخرى لاسيما جماعات السود على نحو يجعل الوجود الإسلامي ممثلا بدرجة أكثر واقعية لتركيبة المجتمع الجنوب إفريقي، ويعالج الاختلال الهيكلي السالف الإشارة إليه والممثل في النظر للمجتمع الإسلامي باعتباره مجتمع الهنود والمالاويين.
وعلى الرغم من أن التحدي السالف البيان يتطلب تضافر جهود المؤسسات والمنظمات الإسلامية المختلفة في جنوب إفريقيا فإن المشاهد هو تنامي ظواهر الخلاف بين تلك الجماعات في ظل انفتاحها على بعضها البعض وانفتاحها كذلك على الخارج على نحو أتاح تعميق الخلافات القائمة ونقل بعض الخلافات الخارجية إلى ساحة جنوب إفريقيا، وفي مقدمتها الخلافات بين الصوفية والسلفية، الأمر الذي يهدد ميراث استقلالية العمل الإسلامي والخيري في جنوب إفريقيا.
ومن أكبر المشكلات التي تواجه المسلمين هناك أيضا قضايا فقه الواقع، والنوازل وما يستجد من مستحدثات العصر كقضايا "الربا"، و"التأمين على الحياة"، والقضايا الطبية، ومشكلات اجتماعية مثل الزواج وغيرها، خاصة مع وجود بعض الاجتهادات الشاذة جدا نتيجة الانغلاق والبعد عن دائرة الاجتهاد الشرعي؛ مما جعل آراء شاذة ومنكرة كالشذوذ الجنسي وإمامة المرأة للرجال في الصلاة وعدم مشروعية الحجاب متداولة في بعض الأوساط.
أضف إلى ما سبق كله موجة التوجس والعداء الدولية تجاه العمل الإسلامي وعمليات التضييق عليه بدعوى مكافحة الإرهاب والتي تزيد من قيود العمل الإسلامي.
ولا شك أن كل ما سبق يتطلب تعاونا صادقا بين أبناء الجماعة الإسلامية في الجنوب الإفريقي وحسن توظيف للقدرات والإمكانات المتاحة لتعظيم الفرص التي أتاحتها عملية التحول في جنوب إفريقيا وتقليص المخاطر والتحديات وهو ما يتطلب دراسات معمقة لحصاد العمل الإسلامي في تلك المنطقة منذ عام 1994م في المجالات المختلفة (اجتماعيا، اقتصاديا، ثقافيا، سياسيا) وعلى المستويات المختلفة (داخليا، وإقليميا، ودوليا)، وهو أمر يقتضي عملا جماعيا ودعما مؤسسيا جادا يرصد الواقع ويستشرف المستقبل.