حديث القرآن و السنة عن الحامض النووى فى الأمشاج

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : الدكتور محمود عبد الله | المصدر : www.55a.net

إن الحمد لله تعالى نحمده سبحانه و نستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا. من يهده الله فهو المهتدى و من يضلل فلن تجد له وليا مرشدا. و أشهد أن لا اله ألا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمدا عبده ورسوله. و بعد....

يتناول هذا البحث قضية الجينات التي تمثل الجزء الأساسي من خلق و تصوير ذرية آدم في الأصلاب و في الأرحام. و مع أن كل الكائنات الحية مختلفة في الأشكال و الصفات إلا أنها بالإجماع تعتمد على وجود الحامض النووي في كل خلاياها مما يدفعنا إلى الاستنتاج بأن من أوجد هذه الكائنات لابد وأن يكون واحداً. و مع ذلك فقد خرج علينا من زعم بأن الحياة نشأت صدفة, و حتى الآن لم  يستطع هؤلاء الْمُضِلِّينَ أن يقدموا دليلا واحدا على أباطيلهم. فالخلق والتصوير من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله {مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً}الكهف51. و الله قد شهد لنفسه بالوحدانية و بأنه خلق كل ما في الكون {قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}الرعد16, و لا يدعى الخلق إلا من علم سر المخلوقات {إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء. هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}آل عمران6,5. و حين ينسب الله التصوير في الأرحام لنفسه فانه بذلك يقدم دليلا عمليا على أنه يعلم سر المخلوقات بما في ذلك الحامض النووي الذي ينقل الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء عبر النطفة التي منها يتم تصوير و خلق  الذرية في الأرحام. فالله قد أخبرنا أنه بدأ خلق الإنسان بخلق آدم من الطين  {وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ}السجدة7,  و خلق حواء من آدم  {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء}النساء1, فكأن الإنسان كله قد خلقه الله من الطين باعتبار مادة الأصل {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ}المؤمنون12, ثم جعل الله  نسل آدم من الماء المهين  {وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ}السجدة 7, 8 , أي من الأمشاج الذكرية و الأنثوية التي تخلق و تصور في الأصلاب ثم تجتمع لتعطى ألنطفه (زيجوت = Zygot) فى الرحم {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ.  ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ}المؤمنون 13,12,  و نلاحظ أن الهاء في (جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً) عائده على الإنسان بكل صفاته. و في هذا الأخبار الرباني عن جعل الإنسان نطفه إعجاز علمي غاية في الدقة, إذ كيف تتساوى النطفة التي تمثل خليه واحده لا ترى بالعين المجردة مع الإنسان الذي يتركب من بلايين الخلايا. و هذا الإعجاز لم يعرفه العلم إلا منذ فتره بسيطة عندما فحص النطفة ليكتشف وجود إنسان كامل يعرف باسم الحامض النووي (دنا (DNA = لا يكاد يذكر في الحجم و لكنه يحمل شفره وراثية كاملة للإنسان و يمكن أن نسميه بالإنسان الجيني أو النطفة الأمشاج {هلْ أَتَى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً. إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ}الإنسان 1 , 2. و النطفة هي المسؤله عن نقل البرنامج الوراثي (Genetic programming) من الآباء إلى الأبناء {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ}عبس19.

و السؤال الآن, هل اكتفى الله بذكر المكان الذي تتكون فيه الأمشاج و هو الأصلاب كما في قوله تعالى (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) الطارق 6,5, 7 , أم أن الله قد بين لنا في قرآنه و على لسان نبيه كيفية خلق الأمشاج في الأصلاب على وجه التفصيل كما هو معلوم الآن في العلوم الحديثة. و الحقيقة أن المتدبر لآيات الله التي تتكلم عن الخلق و التصوير سوف يكتشف أن الله بهاتين الكلمتين قد وصف كيفية خلق الأمشاج في الأصلاب بدقة شديدة تفوق قدرة العلوم الحديثة, و لما لا و الله يقول عن نفسه (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) 1 هود.

تركيب الحامض النووي و كيفية التقدير الوراثي

DNA structure and Genetic Programming

وحدة بناء الإنسان هي الخلية التي تحوى صوره للإنسان تعرف باسم الحامض النووي (دنا = DNA) الذي يحمل الشفرة الوراثية لكل صفات الإنسان المرئية و غير المرئية (كاللون و الطول و العقل), و كأني بالله قد جعل للإنسان تمثالا (صورة) متناهي في الصغر يتكدس داخل نواة الخلية في حيز لا يزيد عن واحد على المليون من المليمتر المكعب ولكنه إذا فُرِدَ يزيد طوله على المترين. و في بعض مراحل الخلية نجد الحامض النووي  مقسم إلى ستة وأربعين جسيم صبغي تعرف بالكروموسومات التي يشبه كل منها حرف اكس (X) وهى مرتبه في أزواج عددها ثلاثة و عشرين زوجا متماثل في الشكل ومختلف في التركيب الجيني. و الحامض النووي يتكون من حلزونيين ملتفين حول بعضهما و هو بدوره يحمل الجينات المسؤولة عن الصفات الوراثية الخاصة بكل إنسان. و كل جين يتركب من تتابع معين من القواعد الأمينية (Nucleotides) و التي تنحصر في أربعة أنواع وهى(ايه= A) و(جى= G) و(تى= T) و (سى= C) بحيث أن القواعد الموجودة على أحد الحلزونين تكون مكمله للقواعد الموجودة على الحلزون الأخر كما لو كان أحد الحلزونين يمثل صورة الحلزون الأخر في المرآة بحيث تكون القاعدة(ايه) مكمله للقاعدة (تى) و القاعدة (جى) مكمله للقاعدة (سى) (صوره 1).

(صوره 1: تركيب الحامض النووى)

ومن آيات الله أن كافة خلايا الجسد تحوى 46 كروموسوم فردى إلا خلايا الأمشاج فإنها تحوى نصف هذا العدد  أي 23 كروموسوم فردى. و بعد التلقيح بين الذكر و الأنثى تلتقي الأمشاج في الرحم لتتكون النطفة التي تحمل الشفرة الوراثية للذرية مع العلم بأن نصف  الصفة  الوراثية يأتي من الذكر والنصف الأخر يأتي من الأنثى. و الشفرة الوراثية في النطفة هي المسؤله عن تكوين الذرية في الأرحام و ذلك من خلال تصوير كل جين في الشفرة الوراثية لخلق البروتين المماثل لذلك الجين. و كأن تمثال الشفرة الوراثية الموجود في النطفة يعمل كقالب لصب الذرية عليه في الأرحام. 

التقدير الوراثي في القرآن و السنة

لاحظنا مدى دقة كلمة التصوير في وصف انتقال الصفات الوراثية من الخلايا الجسدية إلى الأمشاج و من النطفة إلى الجنين  في الرحم.  و عليه فان الآيات  و الأحاديث التي تتناول التقدير الوراثي لابد و أنها تتحدث عن التصوير مقرونا بالخلق أو منفصلا عنه.

أولا: آيات التصوير بترتيب المصحف:

 1. (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاءُ) 6 آل عمران.

2. (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ)11 الأعراف.

3. (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) 64  غافر.

4. (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسماء الْحُسْنَى)24 الحشر.

5. (هُوَبَصِيرٌ.خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ .خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)  2, 3 التغابن.

6. (يَا أَيُّهَا الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ.الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ .فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) 6, 7, 8 الانفطار.

ثانيا: أحاديث التصوير:

1. (خلق الله آدم على صورته)  أحمد والبخاري ومسلم.

2. (إذا مر بالنطفة اثنتان و أربعين ليله بعث الله إليها ملكا فصورها و خلق سمعها وبصرها و جلدها و لحمها وعظامها ثم قال يا رب اذكر أم أنثى فيقضى ربك ما يشاء ويكتب الملك ) مسلم.

3. (اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين) مسلم و النسائي و الدراقطنى و البيهقى.  و في رواية أخرى جاء الحديث بزيادة فأحسن صورته موافقة لما في القرآن (سجد وجهي للذي خلقه وصوره فأحسن صورته ) مسلم و سنن أبى داود و النسائي. و في رواية أخرى جاء الحديث بزيادة فأحسن صوره (سجد وجهي للذي خلقه وصوره فأحسن صوره ) مسلم و أحمد و ابن حبان و الدار قطني و أبو داود.

الهدف من البحث

1. إثبات إعجاز القرآن و السنة في وصف الحامض النووي و التقدير الوراثي بكلمتين هما الخلق و التصوير. 

2. شرح دورة الخلية (cell cycle) وما يحدث فيها من انقسام منصف (ميوزى) أو تضاعفي (ميتوزى).

3. شرح كيفية تحسين النسل في أثناء تكوين الأمشاج و في أثناء التقدير الوراثي للنطفة.  

4. شرح العلاقة بين الخلق و التصوير في الأصلاب و في الأرحام.

العلاقة بين الخلق و التصوير

إذا أخذنا بترتيب سور المصحف نجد أن أول مره يجتمع فيها الخلق مع التصوير في آية واحده هي (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ) 11 الأعراف. و بالرجوع إلى كتب المفسرين نجد أنهم قد اختلفوا في تأويل هذه الآية, واختلاف العلماء في تفسير هذه الآية يرجع إلى اختلافهم في فهم الجمع في  (خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) هل هو لتعظيم آدم أم أنه جمع حقيقي يشمل آدم و حواء والذرية. أيضا اختلفوا حول زمان خلق و تصوير الذرية هل هو قبل السجود لآدم أم بعد السجود. كما اختلفوا أيضا حول مكان خلق و تصوير الذرية, هل هو في الأصلاب أم في الأرحام أم في الاثنين معا.

فذهب بعض العلماء كالطبري و ابن كثير إلى أن المقصود في هذه الآية هو آدم و أن التصوير حدث بعد الخلق لإيجاد الشكل الخارجي لآدم و قبل سجود الملائكة, فقال الطبري و ابن كثير نقلا عن الزجاج وابن قتيبة (خَلَقْنَاكُمْ) أي خلقنا آدم  و(صَوَّرْنَاكُمْ) بتصويرنا آدم وإنما قيل ذلك بالجمع لأنه أبو البشر, فالعرب قد تخطاب الرجل بالأفعال تضيفها إليه والمراد في ذلك سلفه كما قال الله لليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة) فالخطاب موجه إلى الأحياء من اليهود والمراد به سلفهم المعدوم, فكذلك (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) أى خلقنا أباكم آدم ثم صورناه.

و حيث أن أصحاب هذا القول لم يعرفوا ما وصل إليه العلم الحديث من أن التصوير الوراثي للأبناء يمر بثلاثة مراحل, الأولى في الأصلاب أثناء تكوين الأمشاج, و الثانية عند اجتماع الأمشاج لتكوين النطفة,  أما الثالثة  فهي تصوير الجنين من النطفة في الأرحام. و لما اقتصر علم أصحاب هذا القول على معرفة تصوير الأرحام {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ}آل عمران6, قالوا باستحالة أن يكون هناك تصوير للذرية قبل السجود لآدم و فات عليهم أن الإنسان قبل أن يخلق في الأرحام يخلق في الأصلاب ({فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ }الطارق7,6,5. و الأمشاج خلقت في صلب آدم و حواء من قبل السجود لآدم و منها أخذ الله الذرية حين الميثاق {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى}الأعراف172, و في الحديث (أخذ الله تبارك وتعالى الميثاق من ظهر آدم بنعمان يعني عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا قال: ألست بربكم قالوا: بلى شهدنا) رواه أحمد و النسائي و صححه الألباني.

و اذا كان الإنسان على ضعف قدراته إذا أراد أن يبنى بيتا و اجتمعت لديه مقدرات البناء تكلم عن البيت قبل اكتمال البناء كأنه موجود, فيقول مثلا أنا ذاهب إلى البيت على اعتبار ما سوف يكون. فكيف بالله القادر لا يتكلم عن الذرية قبل السجود لآدم و هو قد خلق الأمشاج (أصل الذرية) في صلب آدم قبل السجود, و لا يعقل أن آدم كان بدون خصية و أمشاج قبل السجود و آدم قد خلق كاملا قبل السجود كما نص على ذلك حديث النبي صلى الله عليه و سلم (خلق الله آدم على صورته) و قول الله تعالى (فإذا سويته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين).

و قد كنت أظن أنني أول من ذهب إلى أن الجمع في (خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) قد يمتد ليدل على الجنس البشرى آدم و حواء و الذرية, و أن التصوير قد يمتد أيضا ليشمل تصوير الذرية من آدم. إلا أنني و بفضل الله قد وجدت أن هذا الرأي قد سبقني إليه بعض كبار المفسرين كالقرطبي و الشوكانى و أبو جعفر النحاس نقلا عن أقوال العديد من السلف الصالح:

1. عن ابن عباس {خَلَقْنَاكُمْ} آدم و {صَوَّرْنَاكُمْ} فذريته خلقوا في أصلاب الرجال و صوروا في الأرحام.

2. عن قتادة و السدي و الضحاك قال:{َقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} أي خلقنا آدم ثم صورنا الذرية في الأرحام

3. عن عكرمة و الأعمش {خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} خلقناكم في أصلاب الرجال وصورناكم في الأرحام.

4. عن مجاهد {خَلَقْنَاكُمْ} قال : آدم و {صَوَّرْنَاكُمْ} قال: خلقناكم في ظهر آدم ثم صورناكم حين الميثاق

5. عن الحسن {خَلَقْنَاكُمْ} يريد آدم وحواء فآدم من التراب وحواء من ضلع من أضلاعه {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} ثم وقع التصوير بعد فالمعنى : ولقد خلقنا أبويكم ثم صورناهما.

فأقوال أصحاب هذا القول تدل على أن التصوير في {خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} يمتد ليشمل الذرية. والاختلاف بينهم على مكان تصوير الذرية فمنهم من قال خلقوا و صوروا في الأصلاب و منهم من قال في الأرحام و منهم من قال خلقوا في الأصلاب و صوروا في الأرحام. قال القرطبي كل هذه الأقوال محتمل وأصحها ما يعضده التنزيل قال تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ} يعني آدم  و {َخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} حواء {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } أي جعلنا ذريته نطفا خلقوا في أصلاب الآباء و صوروا في الأرحام.  فيكون معنى الآية, بدأ الله خلقكم أيها الناس بآدم و حواء و خلقكم منهما بخلق الأمشاج التي تحمل التقدير (البرنامج الوراثي) لخلقكم و تصويركم في الأرحام ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم.

علاقة التصوير في القرآن و السنة بالحامض النووي

لكل كائن حي كالإنسان صورة مميزة عن باقي الكائنات ركبها الله وفق مشيئته (في أي صورة ما شاء ركبك). و العلم الحديث يقول بأن الصورة الشكلية للكائن لن تتركب إلا في وجود الحامض النووي (دنا) الذي يمثل الصورة الجينية (الشفرة الوراثية)  للصورة الشكلية للكائن. و بإذن الله سوف نثبت في هذا البحث أن التصوير المذكور في القرآن و السنة يحمل في طياته إلى جانب الكلام عن الشكل الخارجي الكلام عن الحامض النووي و دوره في انتقال الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء و ذلك بالأدلة الآتية:

1. الخالق اسم عام و المصور اسم خاص

ذكر الله التصوير في الكلام عن الإنسان في ستة آيات فقط في مقابل العدد الكبير من الآيات التي تتحدث عن خلق الإنسان و غيره من المخلوقات. و كل المخلوقات الغير الحية كالسماوات والأرض والجبال و الشمس و القمر و النجوم لها صورتها الشكلية الخاصة بها, و لو كانت تأخذ صورتها باسم المصور لاقترن فعل التصوير بفعل الخلق  في ايجادها كما حدث مع الإنسان. و مثال ذلك:

أ‌-    حواء {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}النساء1

ب‌-   الأنعام {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ }النحل5

 ت‌-   النبات {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الازْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض } يس36

  ث‌-   إبليس {َ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}الأعراف12

  ج‌-    الجان {وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ }الحجر27

  ح‌-     السماء والأرض (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس) 57 غافر

   خ‌-    الطرائق {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ}المؤمنون17

و هذا يوضح لنا أن كل مصور مخلوق و ليس كل مخلوق بمصور, قال تعالى {قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}الرعد16.  ومن المعلوم أن المخلوقات تنقسم إلى صنفين أحدهما له ذريه و الآخر ليس له ذريه. و كل ذريه هي صوره من أبائها و لا يحدث ذلك إلا عن طريق الجينات و القواعد الوراثية المعلومة. و عليه فعدم ذكر التصوير مع الجمادات لأنها لا تتكاثر بينما ذكر التصوير مع الإنسان لأنه يتكاثر وله ذريه على صوره أبيها آدم في كل التركيبات إلا أنها تختلف عنه في الشكل. و لما كانت القوانين التي تحكم تكاثر الكائنات الحية الأخرى مشابهة لقوانين تكاثر الإنسان فلم يذكر الله التصوير مع هذه الكائنات لأنه معلوم بالاستنباط من سنة النبي صلى الله عليه و سلم كما في البخاري (أتى رجلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم  فقال يا رسول الله ولد لي غلام أسود فقال النبي هل لك من ابل, قال نعم, قال ما ألوانها, قال حمر, قال هل فيها أورق, قال نعم, قال فأنى ذلك, قال لعل نزعه عرق, قال لعل ابنك هذا نزعه عرق).

2. تحدى الله الناس بإيجاد الذباب بالخلق و ليس بالتصوير

{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ}الحج73, و لو كان التحدي بالتصوير لفعلها الإنسان بالاستنساخ  بأن يأتي بخليه من الذبابة بما تحتويه من كروموسومات تحمل صوره وراثية مطابقة للذبابة الأم و باستثارة هذه الخلية بطريقه معينه فنحصل على ذبابه طبق الأصل من الذبابة الأم و هذا ما قد حدث بالفعل مع النعجة دولي. و مع أن الاستنساخ ليس بمعجزه لأن الإنسان يستخدم فيه الحامض النووي المصنوع من قبل الله الا أن الله لم يتحدى البشر بالتصوير و لو تحداهم بالتصوير لأعجزهم لأنهم لن يستطيعوا صنع الحامض النووي. و لأن الله لا يريد الجدل بل يريد التعجيز فقد تحداهم بالخلق و ليس التصوير كما تحدى النمرود بأن يأتي بالشمس من المغرب و لم يجادله في إحياء الموتى.

3. معنى التصوير

قال القرطبي و الشوكانى أصل اشتقاق الصورة من صاره إلى كذا إذا أماله, فالصورة مائلة إلى شبه وهيئة (أ.ه). و هذا التعريف يعطينا فكره عن لوازم التصوير و هي مصور وآلة تصوير والشئ المراد أخذ صوره له ومادة يتم التصوير عليها (الفيلم). و قد قال تعالى عن نفسه أنه المصور وآلة التصوير عنده كن فيكون. فما هو هذا الشيء المراد أخذ صوره له وما هي المادة التي يتم التصوير عليها (الفيلم)؟   

بعد أن خلق الله آدم خلقا كاملا بصورته كما في الحديث المتفق عليه (خلق الله آدم على صورته) صار آدم هو الشيء الذي يتم أخذ صوره له و هذه  الصورة قد أخذت على مادة يتم التصوير عليها. أقول وبالله التوفيق بأن هذه المادة التي تحمل صوره طبق الأصل من آدم هي الحامض النووي الموجود بداخل خلايا جسم آدم. و من المعلوم أن الحامض النووي هو صوره طبق الأصل من صاحبه وقد استخدمت هذه الحقيقة في عملية استنساخ الكائنات الحية من الخلايا الخاصة بها ومثال ذلك النعجة دوللي.  ويدل على صحة هذا الفهم قول الله {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ}آل عمران 6 , فالله هو المصور وآلة التصوير كن و الصورة هي  الذرية, و الشيء الذي تم تصوير الذرية منه في الأرحام هو الحامض النووي في النطفة {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ.  ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ}المؤمنون 13,12. فالحامض النووي يمثل الوسيط في نقل الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء بحيث يكون الآباء هم الأصل و الذرية لهم صوره, قال تعالى واصفا الذرية بكلمة صوره {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ}الانفطار8. و التصوير بهذه الكيفية يعطى الكمال لاسم الله المصور لأنه بذلك أوجد التقدير الوراثي لخلق الذرية من النطفة في الأرحام.

4. دقة كلمة التصوير في وصف انتقال الصفات الوراثية عبر الحامض النووي

لا يستطيع أي عالم من علماء الوراثة أن ينكر أن الحامض النووي في الخلية البشرية هو صورة (تمثال) الجسم البشرى و أن الجنين في الرحم هو صورة (تمثال) الحامض النووي في النطفة. و لذا سمى الله الجنين في الرحم صورة (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ) (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ). و كلمة التصوير المستخدمة في القرآن و السنة أدق من كلمة النسخ (Copy = Transcript) المستخدمة في اللغة الانجليزية لوصف انتقال الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء عبر الأمشاج, فالنسخ يقتضي النقل الحرفي بدون تغيير أي المساواة  أو التكرار. والتكرار قد يحدث في التكاثر اللاجنسى في الكائنات الحية من أجل تضاعف عدد الخلايا و لكنه لا يحدث في أثناء انتقال الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء عبر الأمشاج و إلا لما كان هناك تحسين في النسل و لكان الأبناء مثل الآباء في الشكل و التركيب الوراثي. أما كلمة التصوير (التمثيل) لغة العرب فتدل على احتمالية حدوث تغير في الصورة عن الأصل حتى و لو كان التغيير في الاتجاه فقط كما يحدث لصورة الإنسان في المرآة أو في الصور الفوتوغرافية. كما أن التصوير قد يكون مطابق للأصل فيكون بمعنى النسخ. إذا فالتصوير قد يراد به التساوي أو الاختلاف.   

و هذا الفارق الكبير بين النسخ و التصوير (التمثيل) ليس ابتداعا منى و لكنه معروف و مستخدم في لغة العرب و نجده كالأتى:

* معنى النسخ في لغة العرب:

في لسان العرب: يُراد به النقل، ومنه نسخ الكتاب: أي نقل صورته إلى كتاب آخر {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }الجاثية29، أي ننسخ ما تكتبه الحفظة، فيثبت عند الله سبحانه.

* معنى التصوير و الصورة في لغة العرب.

1. لسان العرب: المُصَوِّرْ هو الذي صَوَّر جميع الموجودات ورتبها فأَعطى كل شيء منها صورة خاصة يتميز بها على كثرتها. وقد صَوَّرَهُ صُورةً حَسَنَةً فتَصَوَّر (تشكل).  و التَّصاوِيرُ : التَّماثيلُ.

2. مختار الصحاح: التِّمْثَالُ هو الصورة المصورة.

3. تاج العروس: الصُّورَةُ بالضَّمّ : الشَّكْلُ والهَيْئةُ والحقيقةُ والصِّفة. وقال المصنّف في البصائر : الصُّورَةُ ما ينتقش به الإنسان ويتميَّزُ بها عن غيره وذلك ضَرْبانِ : ضَرْبٌ محسوس يُدْركُها الإنسانُ وكثيرٌ من الحيوانات كصُورَةِ الإنْسَان والفَرَسِ والحِمارِ . والثاني : معقُولٌ يُدْرِكه الخاصَّةُ دونَ العَامَّة كالصُّورَةِ التي اخْتُصّ الإنْسَانُ بها من العَقْلِ والرَّويّضةِ والمَعَاني التي مُيِّزَ بها وإلى الصُّورتَيْن أشارَ تعالى (وَصَوَّرَكُمْ فأحْسَنَ صُوَرَكُمْ). وقد صَوَّرَهُ صُورةً حَسَنَةً فتَصَوَّر (تشكل). 

* معنى التماثلُ في لغة العرب و علاقة ذلك بالتصوير.

1. في لسان العرب و تاج العروس: مِثل كلمةُ تَسْوِيَةٍ و الفرقُ بين المُماثَلةِ والمُساواةِ أنّ التساويَ هو التكافُؤُ في المِقدارِ لا يزيدُ ولا يَنْقُصُ وأمّا المُماثَلةُ فقد تكون على الإطلاق فمعناه أنّه يَسُدُّ مَسَدَّه وإذا قيل : هو مثلُه في كذا فهو مُساوٍ له في جِهةٍ دونَ جِهةٍ. وماثَلَ الشيءَ شابهه والتِّمْثالُ الصُّورةُ والجمع التَّماثيل ومَثَّل له الشيءَ صوَّره حتى كأَنه ينظر إِليه. والتِّمْثال اسم للشيء المصنوع مشبَّهاً بخلق من خلق الله وجمعه التَّماثيل وأَصله من مَثَّلْت الشيء بالشيء إِذا قدَّرته على قدره.

2. مختار الصحاح: مِثْلٌ كلمة تسوية و المَثَلُ ما يضرب به من الأَمْثَالِ و مَثَّلَ له كذا تمثِيلاً إذا صور له مثاله بالكتابة أو غيرها و التِمْثَالُ الصورة والجمع التَمَاثِيلُ

* علاقة التصوير و التمثيل بالحامض النووى و الكروموسومات

1. العلاقة بين الكائن الحي و الحامض النووي علاقة مماثله (تصوير) و ليست مساواة (نسخ)  وذلك لاختلاف الحجم فهما غير متكافئين في المقدار اذ أن الحامض النووي في حجم الذر بالنسبة للكائن الحي. إلا أن الحامض النووي يحمل صوره للكائن تمثل الشَّكْلُ والهَيْئةُ والحقيقةُ والصِّفة بمعنى أنه يحمل الصفات المرئية و غير المرئية للكائن. فالحامض النووي يشبه الإنسان في جهة دون جهة.

2. الحامض النووي عبارة عن شفره وراثية مشابهه للكائن. و عليه فالحامض النووي هو اسم لشيء مصنوع مشبَّهاً بخلق من خلق الله وأَصله من مَثَّلْت الشيء بالشيء إِذا قدَّرته على قدره ويكون تَمْثيل الشيء بالشيء تشبيهاً به واسم ذلك الممثَّل تِمْثال.

3. الحامض النووي يسد مسد الكائن الحي فهو مِثلُه على الإطلاق في الصفات و بالحامض النووي يستدل على الكائن الخاص بذلك الحامض النووي اذ أن لكل كائن الحامض النووي الخاص به.

* تعريف اسم الله المصور:

هو قدرة الله على أن يجعل لكل كائن من الكائنات الحية صورة مميزة له عن الكائنات الأخرى مع أخذ صوره طبق الأصل من الصفات الشكلية للكائن على الحامض النووي بحيث يكون لكل صفه شكليه ((phenotype صفه جينية(Genotype)   مقابله لها بكيفية لا يعلمها إلا الله, و بحيث يكون لكل كائن حي صورة وراثية خاصة به.

شرح آيات و أحاديث الخلق و التصوير(التقدير) الوراثي للإنسان

* يدور الكلام في هذا الباب على أربعة مراحل اساسيه:

1.  خلق و تصوير آدم و حواء و الخلايا الجنسية المكونة لأمشاج الذرية

2.  خلق و تصوير الأمشاج في الأصلاب

3.  التلقيح و التقدير الوراثي في النطفة

4.  خلق و تصوير الذرية في الأرحام

* و لكبر حجم الموضوع فسوف اكتفى في هذا  البحث بشرح المرحلتين الأولى و الثانية مع ربطهما بالرابعة لتتم الفائدة, على أن يكون شرح المرحلتين الثالثة و الرابعة في بحث لاحق بإذن الله